الذكرى الثانية لرحيلك يا جبران، الذكرى الثانية للألم والفظاعة والفراق، الذكرى الدائمة للاستنكار والشجب.. الذكرى الحاضرة على مدار التقويم السنوي، على مدار الأحداث التي لا تزال في قبضة اللاعبين والمراهنين والمداهنين والمتاجرين والباعة، وكم تفتقد جميعها صوتك وحضورك وجرأتك وقسمك الشاهد يا جبران، خفّت الأصوات الحرّة من بعدك يا جبران، إلا أصوات المزايدات، وأصوات التهديد والوعيد والنفاق والمهاترة، بهتت الصورة من بعدك يا جبران إلا صورة الكيد والغيظ والغل والغضاضة، عامان مرّا ونحن نلملم أحزاننا ودموعنا وغصّاتنا وآهاتنا بكامل الصمت والترقّب والحذر الشديد والشلل التام الذي أصاب مفاصل الوطن ومفاصل أرواحنا على حدّ سواء، خرج من خرج من لبنان ولم يعرف الاستقلال بعد، مات من مات في سبيل لبنان ولم يصل الحرية بعد، ودعم من دعم لبنان ولم يعرف السيادة بعد، أهي أحجية يا جبران تلك التي ناديت باسمها وناضلت باسمها وقضيت باسمها، أهي الحقيقة فعلا تلك التي أعلنت لأجلها حبّك المميت وعشقك القاتل؟ أهي المغامرة؟ التطرّف؟ العناد؟ المشاكسة؟ الطيش؟ المسؤولية؟ الالتزام؟.. أهو الوطن؟...
الوطن الذي صار محطة إقلاع لهجرة متواصلة، الوطن الذي اتفق الجميع على تمزيقه، الوطن الذي دخل عصر السُبات الاقتصادي، والفراغ الدستوري، والجليد الاجتماعي، والغيبوبة الوطنية، والشعار الضمني لكافة أشكال الحراك.. quot;المصلحة أولا quot;.. المصلحة التي صارت فوق الجميع يا جبران، فوق الدماء، والأضرحة، والحقيقة، والسيادة، والاستقلال، والحرية، والشعب، والكرامة، فلا شيء يضاهي المصلحة اليوم يا جبران وليتها تولي اعتبارا للمصلحة العامة، هي محض مصالح شخصية لا تتسع لشعب أو لوطن أو لكرامة أو لسيادة، وأطماع لا طموحات يُمكن أن يشتمل بها شعب أو وطن أو حرية أو حضارة، هل أوجزت لك الصورة يا جبران، هل اكتمل لديك المشهد الذي أسست له بدمك ودم من رحلوا على دربك يا جبران ولم تشأ له يوما بالتأكيد أن يكون على تلك الشاكلة؟
أجزم أنه لم يكن في نيتك أن تخذل أحدا برحيلك المبكر يا جبران، ولم يكن في نيّة الذين احتشدوا ليرددوا قسمك، النأي عن الساحة التي لا تزال تحمل صدى صوتك وملامحك، الساحة التي احتلتها المعسكرات الوهمية، والاعتصام الممل، الداعي للتفرقة، والتمييز، والفرز، والتقسيم. المعسكرات التي تحاول ما بوسعها أن تخمد صوتك وتمحو بصماتك وإطلالاتك وهالاتك المشرقة. يا ابن أبيك، يا ابن الغسّان الذي تابعناه متّقدا فيك، ونتابعك مشتعلا في طيات حروفه وحضوره وحنكته وحكمته وحبّه وحنانه وحفيدته الواعدة، ابنتك... سرّ أبيها وسروره دون ريب.
نطمئنّ لصوتك الراسخ فيهم والساكن فينا جميعا، نطمئن لصوت أبيك الباني لعقيدة الإيمان فيك، الإيمان الأقوى من كل الرغبات المرسومة لفتق لحمة المدينة، وهتك حرمة الوطن، ولا بدّ من القول أن المسلمين الخارجين من عهدة الأحزاب قد سلموا ربما، والخارجين عن طاعة الأحزاب هم قيد الدرس وإعداد الخطة الحاسمة للتأديب، أمّا المسيحيين فهم وللأسف في خبر كان وأعوانه الضامنين، أو في ذمّة الأرز ثائرين، هامدين، أمّا الفتنة وما أدراك.. فهي نائمة بين الجميع لعن الله من يهدد بإيقاظها على متن منبر وآخر.
أتصفّح النهار، أتأمّل الديك الذي سألتك عنه ذات حوار، أتوجّه نحو سيارتي، أتحرّك دون تردد عبر تلافيف الأزقّة الخاوية، سيارات مسرعة تمضي على حذر، أتوقف تحت وابل من المطر الشديد، أتأمّل مبنى النهار، محياك الذي يتصدّر الجدار الشاهق، يدك الممدودة لمصافحة الجميع، كل الداخلين إلى مبنى النهار يشعرون بامتياز مضاعف أنهم ينتمون إلى ذاك الصرح المترف، يحملون بطاقاتهم الخاصة لفتح الأبواب والمصاعد والنجومية المستجدة، يتذكرون كل شيء، مكاتبهم، ملاحظاتهم، أجندة مواعيدهم، فناجين القهوة، جوّالاتهم، والأرقام الخاصّة المتكررة عبر السنترال الكريم، رسائلهم الألكترونية إلى أنحاء العالم والشهرة، وقد فاتهم في غمرة هذا كله، أن يلتفتوا إليك ليردّوا التحية، أو ليباغتوك بتحية أحسن منها. كل ذكرى وأنت بخير، وكل موقف وأنت جبران الذي سنحتاجه ونستحضره على الدوام.

www.geocities.com/ghada_samman
[email protected]

أية اعادة نشر من دون ذكر المصدر ايلاف تسبب ملاحقه قانونيه