quot;قرأت لكَ مقال كذا وكذا... quot;، تسود هذه العبارة منفردةً ومكرّسةً وموجزة وسط النخبة والعامّة في لبنان، وربما في أوساط نخبوية وشعبيّة في عموم العوالم الأخرى، حيث يتبادلها المثقفون عادة كأن يقولها واحد لآخر دون تردد، ودون تفاصيل، ولطالما مرّت على مسامعي تلك العبارة من هذا ومن ذاك لدى تواجدي الورقي، وهي تمرّ مرورا عاديّا كتحصيل حاصل اعتدّتُ عليه، أو كتعليق لا بدّ منه نظرا لشيوع ظاهرة مطالعة الصحف بين الخاصّة والعامة كواجب صباحي لا بدّ منه في بيروت، وهذا أمر مشهود في لبنان ككلّ بين الرجل والمرأة على حدٍّ سواء، ربما لوفرة الحدث على مدار الساعة وبما يستتّبعه من تصعيد مقلق مفتوح دائما على كافة الاحتمالات، وربما أيضا لتمكّن الصحافة اللبنانيّة من قول كلمتها بجرأة كاملة تتآكل تِباعا بحكم الاغتيالات المُدبّرة كالتي تمّت بحق quot;جبران تويني وسمير قصير quot; لإخماد صوت الجرأة وتقليص صداه، وقهر الحرية التي لم يكن يحدّها الرقيب المُتعارف عليه وهو يتربّع فوق أنف الصحافي وأنف المتلقّي في المجتمعات العربية الأخرى التي تعلّمت العزوف عن متابعة صحافتها المحليّة، نظرا لتكريس الممل والفائت وتمجيد النظام والسلطة لا غير، وبذلك تفتقد بقية المجتمعات العربية الاهتمام الواسع بمسألة الصحافة، التي تقتصر فيه قراءتها على رجل البيت فقط، وليس بالضرورة كل رجل، ربّما لأن الصحف المتداولة أقل جرأة في طرح الآراء ووجهات النظر أضف إلى ذلك تغييب الحَدَث وتمييع آنيّة حدوثه.
ولم أكن أتوقّع أن التواجد في إيلاف يُمكن أن يتيح فرصة مضاعفة للانتشار تفوق الحضور الورقي بشكل لافت جدّا، حيث زاد منسوب تلقّي تلك العبارة فما من قاصٍ أو دان أصادفه أو أهاتفه أو أتواصل معه إلا ويخبرني أنه قد قرأ لي في إيلاف وكثيرون بالمقابل أيضا يؤكدون متابعتهم اليومية لإيلاف كموقع سبّاق لنشر الخبر وفي نفس الوقت يتعمّدون تعمّدا مكشوفا كتَجاوز ذكر أيّة مصادفة لأية مقالة منشورة تمّ التعثّر بها ذات تصفّح وثمّة احتمال صادق بعدم الوصول إلى كتّاب اليوم بحكّم تقدّم الكثير من الأبواب التي تستقبل زائر إيلاف وتشغله عن المتابعة وهذا أمر لا ينطبق على الجميع فالقاصد يعرف أنّى يتّجه وكيف يواصل التغلغل والمسير عبر جريدة الجرائد، وفي جميع الأحوال بدأت تلك العبارة الباهتة quot;قرأت مقالك quot; تلفتني سواء كنت المعنية بها، أم كان غيري هو المقصود يقولها القائل ويصاب بالسكتة النقديّة، فلا إضافة ولا تعليق ولا اكتراث ولا تأويل ولا هم يحزنون، وكفى الله المسلمين شرّ القتال، فمن الواضح أننا بلغنا زمن اللامُبالاة الثقافية بجدارة، إذ لم يعد هناك مَنْ يحمل على عاتقه مسألة نقد النص نقدا شفهيا بقصد مساجلة صاحبه، أو مقاربة الوارد داخل السياق، كما كان شائعا في زمن مضى، لعبت فيه المادة الثقافية على اختلاف أجناسها، وعلى تنوّع كَتَبَتِها، دورا حيويّا في تمتين الصلات الإنسانية الطبيعية أولا، والعلاقات الفكرية والروابط الروحية بين المثقفين، إذ ظلّت المادة الثقافية قبل النشر وبعده عِرْضَةً للتناول والتداول والتدقيق والتأمّل والتمحيص والتشاور، كفكرة فاعلة ومؤثّرة وكفيلة في تحريك ساكن أيّا يكن.
أقرأ كتاب quot;كارل لوفت ndash; من هيجل إلى نيتشه quot; بجزأيه الأول والثاني، ثمّة تكثيف وحشد هائل للأفكار والنظريات والفلاسفة، ولكن الأهم من هذا وذاك هو طبيعة العلاقة الفكرية القائمة على مستوى النظرية والتطبيق بين متنوري القرن التاسع عشر، بكل ما يعتريها من حساسيات وتآلف ورقي وإسفاف كان يتمّ بين الجميع بوضوحٍ وعلنيةٍ لا تعرف المواربة أو التلفيق، فقد استطاع ماركس أن يطوّر نظريات هيجل بمناقشتها مناقشة تامة ويسقط عليها نظريات اجتماعية واقتصادية أنتجت فكرا وبعدا جديدا مستمرّا في المضمون رغم انهيار الشكل، كذلك هيجل استطاع أن يمارس حيويّته الروحية العالية على نظريات quot;كانت quot; بسجالٍ مفتوح كان يرتضيه quot;كانت quot; مرّة ويتذمّر منه أخرى، وهكذا كان للديالكتيك دورا هامّا في تطوير المعرفة، وتقدّم المجتمع، وتنوير المثقّف، وقد استمرّ هذا المذهب الجدلي واضحا وفعّالا حتى منتصف القرن العشرين، حيث كانت الروابط الفكرية ميزة المثقّف العربي، الذي أوجد له مساحة كبيرة للتغيير والإصلاح، كدور ثوري حقيقي، تحرر بموجبه المجتمع من ظلم الطبقة الحاكمة وغطرسة الانتدابات والاحتلال المتعاقب، وقاد مجتمعه إلى الاستقلال الفعلي والفكري والعمل البنّاء، وكل ذلك ما كان ليتمّ لولا العلاقات الفكرية الجديّة، والروحية الحميمة، المبنية على الصداقات الصادقة والهادفة لبناء الإنسان أولا والمجتمع الذي يليق به بالتأكيد، وهكذا شاعت ثنائية العلاقات الثقافية، وثلاثيّها، ورباعياتها، وخماسياتها، حتى بلغت مرحلة الشللية في يومنا هذا، وربما تختلف طبيعة العلاقة الشللية أهدافا ومشاريع ونظريات وتطبيقا عن نظيرها من العلاقات الثقافية السابقة، ففي حين كانت العلاقة الجدلية مبنيّة على رغبة حقيقية لإرواء الغليل الفكري والذهني والروحي والوجداني والمعرفي لتحقيق المعادل الوجودي للإنسان الباحث عن الحق والفضيلة والحقيقة والله والمطلق والمبدأ والقيمة والمعنى لهذا كلّه، بينه وبين من يتشارك وإياه شريعة التفكير والتأمّل والوعي، بينما المثقّف في يومنا الراهن دخل طوعا غربال التحيّز والتطرّف والتعصّب الأعمى ليختار وجهته هربا من الاستقلالية والتفرّد، ليقينه التام بالعجز المطلق عن تحقيق مصالح وغايات شخصية وهو مفرد، فآثر الانضواء تحت صيغة الجمع، اسما ناقصا أو زائدا أو حتى معتلّ، وبذلك فقد المثقّف فاعلية التأثير ككيان مستقلّ، إلى أداة كبوق أو تابع كموظّف منتمٍ إلى القبيلة الثقافية لتكريس مفهوم الشلليّة، أو منتمٍ إلى السلطة كمتكسّب. ورويدا رويدا اضمّحلت إمكانية الحوار الثقافي البنّاء، وتلاشت حماسة المشتغلين فيه، وسادت البطالة الفكرية التي ترتّب عليها تعطيلا روحيّا بالغ الحساسيّة، بدا فيه المثقّف أشبه بكيانٍ أجوف، غائبا عن الحضور وإن حضر، وضبابيّ الفعل وإن فَعَلْ.
فما الذي يدفع بالمثقّف الذي لا يزال يملك وإن الحدّ الأدنى من الرؤية أو ما يشبه الموقف ليعبّر عن وجهة نظر عالقة في قعر حلقه ترسّبت نتيجة قراءة مستفيضة لموضوع بعينه، أن يبتكر لنفسه لقبا طريفا أحيانا ساذجا أخرى أو اسما مستعارا كقناعٍ لا بدّ منه، ليقول ما يودّ قوله بمباشرة ممتازة لا يعيبها سوى المراوغة التي تعيق احترام وجهة نظرا قائلها وأخذها بعين الاعتبار لأنها صادرة عن مجهول، وفي حال كان معلوما انعدم النطق لديه وغاب في اللامبالاة، لعجزه التام عن المواجهة عبر أقصر الطرق. ولعلّه بفعل تراكم الأقنعة، ونشوب الحواجز بين المثقفين، وارتفاع منسوب المحسوبيات الثقافية التي غرق الجميع في طوفاناتها ومستنقعاتها الراكدة تحت طبقة كتيمة من المصالح والأطماع والطموحات التي لا تنتهي.
كيف إذا يمكن أن يستعيد المثقّف عفويته وتلقائيته وقدرته على المُباشرة والتعبير دون أن يُتّهم بالعته والسفه والمبالغة والجنون؟
لا بدّ من استرجاع quot;السؤال quot; أداة المثقف الأولى، ولابدّ من تحرر المثقّف من قيود السلطة والقبيلة والشللية لتكتمل دورة الإرادة الحيّة، لابدّ من التواصل الهادف، وليس المُستهدف من التواصل، لابد من تقبّل فكرة الحوار أولا، والحوار دائما، والحوار حتى الهزيع الأخير من المعنى، وليس الحوار لمجرّد الحوار، بل الحوار من منطلق الضرورة الماسّة للحوار، وما فشل مسلسل الحوارات السياسية المنعقدة جلسة إثر جلسة، إلا انعكاسا لتقاعس الحوار الثقافي وتقهقره وتردّيه، لابدّ أيضا من تمرّد المثقّف على خبث السياسي، ليستردّ بوصلة الضوء الكاشف للحق والعدالة والخير والجمال، معززّا بالغير وبالتغيير.