عندما نجتهد في السؤال عن سبب تأخر سوريا ونظيرها من الدول العربية في اللحاق بركب الحضارة والتطور، تكون الإجابة لدى النخب الثقافية والسياسية دائما واحدة وهي أنّ الاحتلال العثماني الذي تجاوز الأربعمائة عام ساهم في تقهقر الإرادة العربية عموما والسورية خصوصا في الوصول إلى مصاف الدول المتحضّرة علما أن الحضارة الأموية التي صدّرتها العاصمة السورية دمشق استطاعت أن تغزو الدول الأوربية وتترك بصماتها الشرقية المضيئة شاهدا حتى يومنا هذا على عصر النهضة الأموية وازدهارها وعظمتها وعراقتها وأصالتها متمثلة في غرناطة الشرق وسحر الأندلس، والحديث عن الحضارة الأموية يستوجب صفحات وصفحات ليس المقام هنا يتسع لذكرها، ولعل الدولة التركية الحديثة أقل أطماعا من سالف عهدها العثماني، بعدما قننت أحلامها التوسعية لاستعادة الامبراطورية العثمانية بتنصلها من دور المدّ الإسلامي وسعيها المتواصل الدؤوب للانضمام إلى الاتحاد الأوربي بعولمة الكثير من مظاهرها الحياتية والسلوكية والانفتاح على الغرب انفتاحا يناهض الذاكرة العثمانية بالشكل ربما ليبقى المضمون في ذمة المحللين والمؤرخين ومتتبعي الأحداث عموما، وإذا كانت الذاكرة السورية تنطوي على ما يؤرقها من ضيم الاحتلال العثماني، فهي لا تخل كذلك من بعض العادات والتقاليد والسلوكيات التي تشرّبتها الذاكرة طوعا وقسرا أحيانا، وخلاف ذلك تعتبر الدولة العثمانية التركية من مخلفات الماضي الذي استطاعت سورية تحييده عن حياتها بعض العقود لينهض بداية التسعينات من القرن الماضي خلاف جذري جديد هو خلاف الثروة quot;المائيّة quot; التي عملت الدولة التركية على إنشاء خزانات وسدود شاهقة تعادل بانهيارها قنبلة نووية بوسعها تشرّب وسحب وامتصاص معظم الثروة المائية من الأراضي السورية التي بدأت تدخل مراحل النقص والشحّ المشهود في معظم المناطق، ولم تستطع الدولة السورية أن تحدّ من أطماع الحكومة التركية في انتهاك الثروة المائية التي يخشى عليها المحللون نتيجة الخلل الذي افتعلته وما تزال الحكومة التركية.
التواصل القائم اليوم بين الحكومتين التركية والسورية المُفاجىء نسبيا لعلّ أساسه خوف الحكومتين المذكورتين من الاستقلال quot;الكردي quot; الذي دعمه الاحتلال الأميركي للعراق منذ العام 2003 حتى اليوم وتوسع حزب العمال الكردستاني في الشمال العراقي وتغلغله في الشمال العراقي المتاخم للحدود السورية التركية التي ينتشر فيها العديد من الجاليات الكردية، التي تعتبر بمثابة ألغامٍ موقوتةٍ بشكلٍ أو بآخر وتشهد مدينة القامشلي على العديد من التحركات الكردية المقموعة بسطوة العنف من قبل السلطة السورية التي تخشى ما تخشاه تمادي الحركات الكردية داخل أراضيها وهكذا الحال في الأراضي التركية التي تشهد بعض المواجهات بين الطرفين الكردي والتركي من وقت لآخر، إذا التحالف التركي السوري هو تحالف استراتيجي بالدرجة الأولى هدفه الأول تنسيق الجهود لقطع الطريق على القوّة الكردية التي تزداد شراسة بحكم إيمانها المطلق بقوميتها وشرعيتها وأحقيتها بإنشاء دولة مستقلة لها أرضها وحدودها وسيطرتها ونضالها وخصوصيتها وإن على حساب المنطقة، وربما لا يتلاءم الحلم الكردي ومصالح الدولتين التركية والسورية، وبذلك لا يُمكن أن تأتِ الوساطة التركية من فراغ، ومن يعلم ما هي طبيعة التنازلات التي حظيت بها تركيا من الحكومة السورية حتى تتسلّم مؤخرا ملفّ الجولان السوري وتقنع الحكومة الإسرائيلية بتسليم كامل الأراضي السورية دون قيد أو شرط، وإذا كان بمستطاع quot;أردوغان quot; التفاوض مع quot; أولمرت quot; حول الهضبة السورية المحتلة، فمن بوسعه التفاوض مع تركيا لاسترجاع الأراضي السورية المحتلة المتمثلة ب quot;لواء اسكندرون quot; ومدينة quot;ماردين quot; وغيرها من الشمال السوري؟
طبعا فكرة الحرب بين سوريا وإسرائيل فكرة مستهجنة نسبيا لأن سوريا التي تحمل شعار التصدي مع إسرائيل والتي تعمل على إمداد الجيش وتحويل /80 في المائة، من ناتج الدخل القومي بصفتها دولة عسكرية وذلك على حساب الشعب أولا وعلى حساب تطوير المؤسسات والنُظم الاجتماعية وتحقيق الإنماء المتوازن بين عموم المحافظات والنواحي والمناطق والقرى لتخفيف الضغط عن العاصمة quot; دمشق quot; التي شرّع النظام بتر الكثير من المعالم القديمة وتشريد أهل العاصمة إلى خارجها مقابل الزحف الداخلي الهائل الذي تسجله العاصمة على مدار الحركة وتواترها مما سهّل إلهاب الأسعار العقارية بشكل خارج عن المنطق والمعقول الذي خلق عجزا فادحا أمام أبناء العاصمة باقتناء سكنا شبه شرعي في العاصمة ليكون البديل أبناء الدولة فقط الذين لا يطالهم قانون quot;من أين لكَ هذا؟ quot; والذين استطاعوا من خلال رتبهم وشعاراتهم ومراكزهم الحيوية داخل الجيش والدولة أن يتحكموا بأسعار السوق العقارية لتصبح أسعار السكن في دمشق سواء للتمليك أم للإيجار من أعلى النسب قياسا لعواصم المنطقة العربية الأخرى قاطبة، إذا الجيش السوري ومخابراته وضباطه وأفراده ساهموا ربما في إنهاض الأسعار على حساب القضايا العربية المطروحة لتسقط فكرة المواجهة تخليدا لفكرة النظرية والشعار أولا، لقد خاضت سوريا حرب تشرين وحررت مدينة القنيطرة في العام 1973/ القنيطرة لا تزال على ركامها منذ ذلك العام حتى اليوم وأهالي القنيطرة لا يزالون يتمركزون في أرجاء العاصمة بظروف معيشيّة متفاوتة بين الوسط والعدم، يترحمون على ذكرياتهم وأملاكهم في القنيطرة المحررة نظريا المهمّشة فعليا، ترى من هو المسؤول تجاه استعادة القنيطرة كمدينة لها حيويتها وبريقها وعمرانها؟، أهاليها الذين يندبون الماضي ويترحمون عليه أم الدولة التي استطاعت أن تكسب دعم كافة الوفود الزائرة من مختلف أصقاع العالم ولم تستطع أن تباشر العمران حتى اليوم، وكأنها تحرص على دمارها للعن العدوان بدلا من الإنشاء والتعمير خشية النسيان ربما، بعد حرب تموز 2006 على الجنوب اللبناني لم يترك الأهالي قراهم أكثر من 33 يوم فترة الحرب الفعلية وفي اليوم ال 34 هرع الجميع لتفقد الخراب الشامل ومع كل الفظائع التي واجهتها الأراضي الجنوبية ظلّت الابتسامة والفرحة سيدة الموقف والشاهد الأوحد على تمسّك الجنوبي بأرضه كعِرضٍ وانتماء مطالبا الحكومة المتّهمة على الدوام،والمدانة أمامه بلا مبرر بعدم المصداقية والشرعية بسداد كافة التكاليف لإعادة الإعمار، في الوقت الذي مضى فيه أكثر من 33 عام على تحرير القنيطرة المحتلة سابقا وبالكاد نشهد مواطن يطالب بتصريح الجهات المسؤولة والذي لا بدّ منه لزيارة أرضه المحررة، ترى كيف الحال سيكون في الهضبة الجولانية، وهل سيكون التحالف التفاوضي السوري التركي مناسبة للحديث بشأن لواء اسكندرون وغيره من الأراضي التي ابتلعتها تركيا وشردت أهاليها داخل الأراضي السورية والذين لا يزالون يتمسكون بأرضهم وذاكرتهم ولا حياة لمن تنادي.
دمشقية مقيمة في لبنان
[email protected]
www.geocities.com/ghada