quot;العراق في دمشقquot; جملة مختصرة ليست حديثة الصياغة على بساطتها، إذ لطالما اعتدنا النزوح العراقي منذ عهد الراحل quot;صدام حسينquot;، حيث كانت شائعات الاضطّهاد والمعاناة والظلم والتعذيب والقتل شيمة من شيم النظام آنذاك عرفنا عنه أدقّ التفاصيل من خلال حديث الوافدين على مدار الغربة، الإرادة العراقية في الشتات وفي الوطن

كاتبة المقال
توحّدت على ضرورة إسقاط الديكتاتور، الإدارة الأميركية وبإخلاصها المعهود كانت بالمرصاد تتحيّن الفرص لإنقاذ الشعب المخنوق وفي 9/ 4/ 2003 جاء المخلّص الأميركي على أجنحة من نار ليطفأ بوهجها كامل النور المتبقي للشعب المظلوم الذي لم يُدرك اللعنة التي حلّت بأرضه بعد تحطّم النُصب التذكارية للديكتاتور المخلوع، ونحن لا نملك سوى أن نتابع فصول الحكاية الموجعة حينا والمضنية أخرى، حتى ختامها بحبل مشنقة لم يتح لصدام إتمام شهادة أن لا إله إلا الله، وهكذا دخل صدام في ذمّة الله ودخل العراق في دوامة الرعب والموت والدم
الذي لا يجفّ. الملاذ الآمن كان دمشق قبلة العراقيين الخارجين قبلا عن الطاعة ووجهة العراقيين الهاربين حاليا من لوائح التصفية وبما أنّ الأخوّة بين الشعبين حقّ وواجب، وبما أن ّسورية دائما السبّاقة لترجمة عواطفها فعلا لا قولا فقط، كان لا بدّ من استيعاب أكثر من مليونين وافد عراقي، تصرّ الحكومة السورية الكريمة على تسميتهم quot;ضيوفا quot; وتنفي عنهم صفة النزوح أو اللجوء عبر كافة الوسائل الإعلامية المتاحة وبلسان كل المسؤولين الأفاضل، وهكذا وفّرت على الضمير العالمي عموما والأميركي خصوصا quot;الشعور بالذنب quot; وتأنيب الضمير تجاه الشعب المنكوب، وظلت الحكومة السورية quot;الجليلةquot; تسعى لتعزيز مفهوم quot;الإيثار quot; لراحة الضيف وإن كان على حساب المُضيف عملا بقول القائل:
يا ضيفنا إن زرتنا لوجدتنا
نحن الضيوف وأنت صاحب المنزل

والضيافة كما هو معلوم أيام معدودات عندما تتجاوز الأربعين يوما يصير وقتها الكلام مختلفا، ولا اختلاف على حاجة العراقي لمغادرة العراق بحكم المرحلة العصيبة، والمرحلة العصيبة تعدّت الأربع سنوات، والأربع سنوات فترة لا يستهان بها، حيث quot;تعرقنتquot; دمشق و quot;تدمشقquot; العراقيون وصار التماهي سمة المشهد. السكان الأصليون لمدينة دمشق والذين هم قيد التلاشي وquot;الانقراضquot; النسبي، يكمّون أفواههم منذ quot;تريّف quot; المجتمع الدمشقي، بحكم الهجرة الداخلية التي لا تقف عند حدّ دون أي مراعاة لقدرة المدينة على استيعاب العدد المذهل الذي يُضخ يوميا داخل الدوائر الرسمية حتى صار لكل كرسي ثلاثة موظفين على الأٌقل يتناوبون عليه بين طق الحنك وطق مزراب العين، وحدها الشوارع في دمشق تتغيّر مع تغيير quot;محافظ quot; المدينة كل سنتين وأحيانا أقل، ولا شيء يطرأ على شوارعها المتجددة سوى quot;الزفتquot; الهشّ الذي يكلّف خزينة الدولة مبالغ خرافية يُمكن أن تُشاد بمخصصاتها جسورا على امتداد القارات الخمس.
وليست شوارع دمشق المكتظّة بكل غرباء المدينة مجال التناول هنا، وليست مياه بردى التي تهدد مياه الشفة بالنضوب أيضا مجال نقاش، فالقلق الحقيقي الذي يجتاح المواطن السوري عموما والدمشقي خصوصا، هو مستقبله المجهول في بلده الذي لا يأمل أو يطمح بسواه، الجزيرة مساء 28/9/2007 قالت ما يجب أن يُقال بنظرة ثاقبة وشجاعة وقد وضعت أهم النقاط على جملة موجزة من الحروف عبر برنامج خاص بعنوان quot;الرحيل المرّ quot; رصدت فيه جلّ التناقضات، وأفردت فضاء شاسعا لإطلاق صرخة اللاجىء العراقي علّها تخترق ضمائر الحكومة العراقية أولا والضمائر العربية والعالمية ثانيا، ولا يختلف اثنان من خلال ما تابعناه على شاشة الجزيرة على أنّ الواقع العراقي في دمشق وضواحيها كان أصعب من أن يُصدّق، وعلى أنه مؤلم لدرجة منفّرة، تستوجب الكثير من الأسئلة، والسؤال الأهم هنا عندما تمّ استقبال الدكتور quot;برهم صالحة quot; نائب رئيس الحكومة العراقية الحالية quot;المالكي quot; ألم تقم الحكومة السورية بواجب توضيح حال الأُسر العراقية المهجّرة قسرا ومآل معيشتها، للزائر البار؟ أم أنه كالعادة الكبار يطيّبون خواطر بعضهم البعض بالاتفاقيات المُبهمة والمهمات الخفيّة على حساب المواطن العربي في كل مكان.
أما كان من واجب الحكومة السورية أن تُطالب الحكومة العراقية ذات الثروات الطائلة والتي تُنهب نهبا ممنهجا على يد الاحتلال علنا وتنتهك دون تردد، وتحرم المواطن العراقي من حقّه المشروع في العيش الكريم، بحضّ الحكومة الحالية لتأمين مُنَحٍ مادية تكفل له حاجته وكرامته على حدٍّ سواء في منفاه القسري ريثما تستقر الأوضاع الأمنية التي لا يعلم بحلول زمن استقرارها إلا الله؟، ثمّ إنّ التمثيل الدبلوماسي صار مُتاحا بين البلدين بعد احتباس في العلاقات دام لأكثر من عشرين عاما، وكما صرّح القائم بالأعمال العراقي في دمشق على شاشة الجزيرة لفريق برنامج الرحيل المر أنه لا يملك من السلك الذي يمثله صلاحية إمداد اللاجئين العراقيين بالمال أو بالحل، والسؤال الذي يفرض نفسه تُرى أية أعمال يقوم بها إذاً هذا القائم بالأعمال؟، وأي تمثيل يُمثله تجاه مليونين عراقي مصرّح بهم وكما يُنمى بأنّ quot;المخفي أعظم quot; فلمن تُسند مسؤولية هؤلاء الرعايا عندما يعجز ممثلي بلدهم عن استيعاب حاجتهم الماسّة إلى السند والعون المادي والمعنوي معا؟..
وبالعودة إلى سياق برنامج الرحيل المر أطلّ وزير الإسكان والتعمير السوري ليتحدّث بعجز وحيرة تنتاب الحكومة السورية معربا عن أسفه تجاه quot;الجشع quot; الذي يشيعه التّجار ليجتاح الأسعار في دمشق وخاصة العقارية سواء للإيجار أو للتمليك، موضحا أنّ المستفيد الأول هو التاجر دون شك وإن على حساب المواطن السوري قبل الجميع، مُشيدا بقرار الحكومة الرشيد وهي معاملة الوافد العراقي معاملة المواطن السوري دون زيادة أو نقصان، وإذا كان تعاطفنا مع اللاجىء العراقي كبيرا فلا بد أن يكون تعاطفنا مع المواطن السوري أكبر، حيث أن مقولة مصائب قوم عند قوم فوائد تتناسب طردا والوضع الراهن في دمشق، فقد اشتد أوار الأسعار التي ضربت عرض الحائط ظروف المواطنين الذين لا حَيلَ لهم ولا طاقة على احتمال المُستجد في السوق والخلل الذي يتعرض له مدخول الفرد الوسطي قياسا للمصاريف الباهظة، والتي يتحمل وحده عبء انكساراتها.
وإذا كانت مدينة دمشق مدعاة لـquot;تذمرquot; آلاف اللاجئين العراقيين فلماذا لم يكن الشمال السوري الذي ترشح منه القوافل المتوالية يوميا، والقريب من الحدود العراقية جغرافيا، مجالا حيويا لاستيعاب الوافدين وتنشيط الشمال السوري تجاريا من قبل المقتدرين، وتأمين العيش الكريم للمعدمين في ذات الوقت فلا يخفى على أحد أن مناطق مثل منطقة دير الزور والحسكة والرقه والقامشلي وحتى إدلب كذلك كلّها مناطق تميل ميلا فطريا بلهجتها وعاداتها وتقاليدها إلى العراقيين بحكم تقارب البيئة وتغلغل ماء الفرات ودجلة والخابور بين أراضي البلدين إضافة إلى منطقة درعا بحكم قربها من المملكة الأردنية الهاشمية التي تكتظّ أيضا بالرشح العراقي داخل أراضيها والتي تصدّر بدورها ما تيسّر لها إلى الأراضي السورية ويبدو أنّ الأراضي السورية التي تُهمل تِباعا وعشوائيا ليظل الاستصلاح محصورا في دمشق فقط التي أعلنت جنونا في أسعار عقاراتها وأدخلت المواطن السوري دوامة التسابق مع تيارات الأسعار المُتصاعدة في بورصة العرض والطلب بتدوير المال العراقي المتسرّب إلى البنوك السورية والمُعفى من قانون التحفّظ تحت طائلة المسؤولية والتدقيق ضمن علامة استفهام quot;من أين لكَ هذا؟quot; وحسب الجزيرة أنّ التباين الطبقي العراقي في دمشق كان مُذهلا جدا فمن موسر يشكو التخمة في صالات السهر والليل واللامبالاة إلى يائس يبسط كرامته على الأرصفة للبيع، فلو أنّ كل عائلة ميسورة تكفّلت بأخرى مُعدمة فهل كان الرحيل وحَسْبَ تسمية الجزيرة مرّا علقما كما اختزلت الصورة على الشاشة الصغيرة؟ وهنا لا بدّ من السؤال أيضا لماذا الإصرار على الدمج العشوائي بين العراقيين والسوريين في عاصمة فقدت quot;عذريةquot; خصوصيتها كدمشق؟ ولماذا وحدها تتكبّد كل هذا الضغط الكبير والخرق والانتهاك المتواصل كل فترة بشكل مختلف هدفه الأوحد فضّ برقع ملامحها ومعالمها ليستولد منها بيئة جديدة وإن بحملٍ كاذب؟ والمُضحك المُبكي في آن أنّ quot;دمشق على مشارف عام قادم ستعلن فيه عاصمة ثقافيةquot;، وأوجز استفساري بهذا الصدد هل ستكون عاصمة quot;بغدادية مدمشقةquot;، أو quot;دمشقية متبغددةquot;؟ وقد طغت العادات والتقاليد والملامح والأشكال والطباع والأمزجة والثقافات والسلوكيات العراقية على عاصمة كانت فيما مضى تسمى أقدم عاصمة حضارية في التاريخ؟ رحم الله التاريخ ورحم دمشق وأهلها الذين لم يرحموا كيانيّتها يوما من شرور أنفسهم أو من شرور طوفانات اللهفة اللا مدروسة، وأكتفي بتناول الأزمة العراقية من خلال الناطقة الرسمية باسم وكالة غوث الللاجئين والتي كما جاء على لسانها عبر شاشة الجزيرة أنها تعمل والوكالة المذكورة بتأمين معظم احتياجات العائلات والأسر العراقية بمعونات عينية أو مادية، وفقا للأولوية، وأتساءل بحرقة ومن تُراه يراعي أولويات المواطن السوري وحاجاته ومتطلباته وضروريات العيش الكريم الذي أصبح quot;لاجئاquot; داخل الوطن إكراما لكل اللاجئين؟!!
[email protected]

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية