حياة الفكرة غير مرتبطة بالإنسان، غير مرتبطة بعاطفته أو ولائه وجهوده التي قد تكون لها أو ضدها. فالفكرة لها وجود مستقل عنه، فلا هي تموت بموته، ولا هو يموت بموتها. وكيان الفكرة مثل كيان الإنسان يكون ذا وجود عضوي ، حيث القابلية للنمو والتمرحل والهرم والموت. وكم من فكرة عاشت فتيّة ناضرة لدى جيل، وعند جيل آخر تأوي إلى ضعف وذبول كتينة لم يأتِ قَطافها. وهكذا ذكر المفكر مالك بن نبي أن من الأفكار ما يكون صحيحاً ومنها ما يكون صالحاً لحين دون حين. والمؤرخ الفرنسي غوستاف لوبون ذكر في كتابه quot;حياة الحقائقquot; أن من الأفكار ما يكون بعمر الزهور ومنها ما يكون بعمر القرون. ومع هذا الاستقلال بين الكيانين يتبدى دور مهم للإنسان، وهو أن يجعل كيانه كياناً متفاتحاً مع الأفكار، فتتوفر بذلك التغذية والإفادة المتبادلة.
والفكرة الحية قد لا تولد ولا تحتوى عبر جيل واحد، وقد لا تصاغ من رؤوس متشابهة. فالزمن يتيح فحصاً تجريبياً للنتائج، والعقليات المتباينة تقدم فحصاً أوسع لجوانب الخلل فيها. ومن طبيعة الأفكار الحية أنها كائنات غير مصمتة، يوجد في داخلها حيز ومنفذ يتم من خلاله ممارسة النقد والصراع للفكرة مع ذاتها، أو مع غيرها من الأفكار. فمن طبيعة الفكر أنه ميدان ديالكتيك وصراع، يكون فيه الفكر قابلاً للمداولة والأخذ والعطاء والتحسين والتعديل. والصراع هنا ليس مطلباً ولا أمراً ترفياً يقصد بذاته، بل هو عقبة ونقطة بغيضة، لكن لا سبيل للابتعاد عنها وتجاوزها إلا بالمرور من خلالها. والفكرة التي لا تريد الخوض في ذلك التنافس ولا تقبل المداولة، هي فكرة تنأى بنفسها إلى منطقة معزولة تسرح فيها لوحدها، فتفقد بذلك حيويتها ومن ثم قدرتها على التأثير والتأثر.
والحضارة الحية على نفس المنوال لا تقر في كيان مغلق، لا يقبل الحذف ولا الإضافة. فالفكر الحي الذي يعتبر أهم رفادة لها، هو فكر منفتح يجلب نفسه إلى حقل المقارعة والحجاج، فيصقل نفسه ويثبت أهلية وجوده مقارنة بغيره. والأفكار والكيانات الكبرى التي تتأسس عليها مثل الدين والثقافة تكون في أحسن حالاتها عندما تكون في ميدان مساجلة واختبار متجدد لمضامينها، فتغربل وتنقح مفاهيمها، وتستمر في صياغة نفسها في صور أفضل وأكثر أهلية. ولذا فالفكر المحتكر من قبل مدرسة واحدة، لا يكون له حظ من الازدهار. ومؤشر الانحطاط الفكري لدينا كان قد بدأ من اللحظة التي بدأ فيها الخليفة المتوكل العباسي بمعاقبة الناس على الجدل والمناظرة والاختلاف، وأمره لهم بالتقليد، كما جاء في quot;مروج الذهبquot;. فكان صراع القرون التالية صراعاً مؤدلجاً لطوائف امتهنت التقليد، لا صراعاً فكرياً كما كان في القرون الأولى. وجوانب الحياة وأوجهها المختلفة يصعب أن تحتكر وتفسّر من قبل مدرسة واحدة. ولذا نستطيع أن نشتبه في أن الممانعة المعتادة ضد الأفكار حتى ولو لم تجرب ويقترب منها، لا يكون عائداً إلى خلل فيها، بقدر ما هو عائد إلى أنها تحاكم عبر منظار مدرسة مغايرة، محتكرة، وزعوم. وأيضاً ليس بغريب أن نعتاد في بيئاتنا وصف الأفكار والمدارس بأنها فاشلة، وننسى أن الجدب عيب في التربة، لا في البذور.
وتقييم الفكرة لا بد أن يتم عبر البعدين المهمين، بعد الزمان والمكان. فاستلاب الخط الزمني لها يجعلنا لا ندرك من أين جاءت ولا أين يمكن لها أن تكون. وعدم الإدراك لخطوات تمرحلها، يماثل عدم إدراكها بالكلية، فالفكر اللاتاريخي فكر لا يعول عليه. وغير ذلك لا يمكن أن نحاكم فكرة لم تتملك على حيز وجود في عالم الواقع يمكن أن نتأملها من خلاله. وأيضاً بجانب ذلك يكون مهماً تأملها في عالمها المجرد بين أندادها من الأفكار، فقد يدلل ويحاكم أحدهم فكرة ما بأنها سيئة، لكن حين نقارنها بغيرها من الأفكار، نجد أنها تكون أفضل البدائل. ولذا تكون الفكرة الحية محتاجة لأن تعرض وتطلق في الهواء لتختبر نفسها، أو بمعنى آخر تحتاج إلى بيئة حرية تتموضع من خلالها في مكانها الصحيح، فيكون لها بعد ذلك أن تبقى ساربة في سبل الحياة، أو أن تكون كقصيدة رديئة لم تولد إلا لتموت.
ولذا فالفكرة الحية تحتاج فقط إلى مناخ موائم، ولا تحتاج إلى النفخ والتعبئة والحشد لها. وزخم الأفكار في عالم اليوم جعل الناس لم يعودوا أولئك الأتباع الذين تصطادهم الفكرة فتتغذى عليهم، بقدر ما أصبحوا نوعاً من الزبائن، الذين يأتون للفكرة باختيارهم، وبرافد من احتياجهم لها فيغذونها وتغذيهم. وكل اللبوس والأردية الدعائية التي توضع على الأفكار لن يتسنى لها أن تقلب الورم شحماً، ورب فكرة كان الصياح من أجلها هو سبيل موتها ودفنها، وأخرى كان الصراخ ضدها هو من يكتب شهادة ميلادها ووجودها. فمن الأفكار ما هو كلام ومنها ما هو لحم ودم. وعلى سبيل المثال نجد اليوم أن النسخة التي انقرضت لماركس هي النسخة اللينينية أو الستالينية، ذوات الحشد والزخم الدعائي، بينما ما بقي عائماً يتنفس على السطح هو فكرة ماركس في صميمها، في حديثها عن قيمة العمل وفي نقدها للنظام الرأسمالي. ففي الشهر قبل الماضي ومع بداية الأزمة الاقتصادية الجديدة، وضعت جريدة التايمز البريطانية صورة ضخمة لماركس على غلاف ملحقها مع عبارة quot;لقد عادquot;، وفي تقارير صحفية أخرى قال أحد أصحاب دور النشر في ألمانيا أنهم باعوا من كتاب quot;رأس المالquot; في شهر واحد ما يعادل خمسة أضعاف من مبيعات عام كامل من الأعوام السابقة، ويعلل ذلك بالقول quot; أن كثيرا من الناس مع هذه الأزمة قد اختاروا أن يبحثوا عن أجوبة لأزماتهم الاجتماعية عن طريق يتعدى الأديان، وماركس كان خياراً مناسباً لهمquot;. وقبل سنوات كتب المؤرخ والكاتب الأميركي هوارد زن مسرحية سمّاها quot;ماركس في سوهوquot;، جلب بها ماركس إلى أحد أحياء مدينة نيويورك ليتحاور مع الأميركيين وعالمهم الرأسمالي، وفي بداية تلك المسرحية كان ماركس يسألهم في مفارقة ساخرة: quot; ألم تتساءلوا أبداً، لماذا حتى بعد رحيلي بفترة طويلة لازلتم ترددون أنني ميت، مرة بعد أخرى ؟!!quot;.
والغالب من الناس يكون ارتباطهم بأفكارهم ارتباط شبه رومانسي، حيث أن مصاحبتهم لها تكون نتاج أنس وألفة أكثر من أي شيء آخر. وما يتسربل طبائعهم من فكر لم يأت عبر التكلف له، بقدر ما أنه أتى عبر استدامة زمنية مكنته من تخلل عقولهم كما يتخلل الماء التراب. والفكر يتأسس على أركان مختلفة، ويكون مثل الطاولة التي كلما كثرت أقدامها كلما ازداد رسوخها. والفكر المبني على الألف والاعتياد، أو ذاك المبني على التقليد لا يكون ذا أساس يعول عليه. على عكس الكيان الفكري المتأسس فلسفياً، فهو الأكثر حظاً في الأصالة والمعرفة. وقد قال الإمام أبي حامد الغزالي quot; أن المعتقد إذا شكك قد يشك، لكن العالم لا يجد ذلك إلى قلبه سبيلاquot;. بمعنى أن من اعتقد فقط قد يكون لديه قابلية لأن يتحول من اعتقاده إلى اعتقاد مغاير، فآلية الاعتقاد هي ذاتها، بعكس من كان اعتقاده مبني على أسس أعمق يكون عالماً بها، فتهبه إلى برد اليقين بما لديه.
وقد لا يكون من المهم الحكم على الفكر المعتاد والسائد بأنه فكر سليم أو فكر باطل، فالفكر عملية حيوية لا تتجمد عند نقاط ميتة، ولكن الأمر المهم يكمن في العمل على أن يكون كيان هذا الفكر كياناً محفوفاً بالأسئلة والتفلسف، فيتمدد إلى فضاءات أرحب، لا أن يكون محفوفاً بالإجابات المغلقة فينكمش ويصغر. وقرأت لأحدهم قولاً ظريفاً بأن الأمر بسيط لنعرف الفرق بين الإنسان المنفتح القابل للنمو والزيادة، وبين الإنسان المنغلق العرضة للضمور والانقراض، فالأول يكون في رأسه من الأسئلة أكثر مما فيه من الأجوبة، بينما تكون الأجوبة أكثر في رأس الآخر. وهكذا نجد أن السؤال يكون أحسن مركوب يمكن أن يقود الإنسان لجعل كيانه كياناً متفاتحاً مع عالم الأفكار.
وفي القرن الرابع الهجري اشترك أبو حيان التوحيدي ومسكويه في كتابة كتاب واحد وهو quot;الهوامل والشواملquot;. فكان التوحيدي يكتب الأسئلة ويسميها الهوامل أي quot;النياق الشاردةquot; ومسكويه يكتب أجوبته على أسئلة التوحيدي ويسميها الشوامل أي quot; كالنياق التي تلم شمل بعضها البعضquot;. ومع أن التوحيدي قامة من قامات الأزمنة ولا يدانيه أحد مثل مسكويه، إلا أنه وضع نفسه موضع المتتلمذ، وكان يسأل أسئلة مثل quot;لماذا يقتل الإنسان نفسه عند الإخفاق؟ لماذا يشتاق الإنسان إلى ما مضى من عمره؟ ما الموت؟ ما الجهل؟ لم يندم الإنسان؟ ولم صار الإنسان إذا صلى وصام زائداً عن الغرض المشترك فيه، حقّر غيره واشتط عليه، وطارت النعرة في أنفه حتى كأنه صاحب الوحي ؟!! quot; وهكذا كانت أسئلته الذكية تتناسل بخصوبة في ميادين الأدب والفلسفة والدين وعلم النفس. والآن بعد مرور زمن طويل نلاحظ كيف أن التوحيدي لا زال قامة عالية، وأن أسئلته لا تزال طرية عندنا، وفيها طزاجة لم يفسد طعمها ولم تذهب شهوتها، بينما إجابات مسكويه تكون كالطعوم التي ذوت وتبدلت واستكرهت. فماذا نفعل بأجوبته حين يقول مثلاً: أن هذا يحدث بسبب قوى تتنازع الإنسان، حين سيطرت عليه قوة غضبية... أو قوى ناطقة تظهر من الكبد وقد صبغ بها، ووقع تحت سطوتها، وأخفتت فيه باقي القوى... الخ.
وهكذا نرى أن حظ الإنسان من الفكر مرهوناً بحظه من الأسئلة، ويكون نصيبه من الانفتاح على الضوء بمقدار ما تحدث تلك الأسئلة في ذاته من شقوق وخروق، لا تسدها ولا ترفوها شوامل مسكويه ولا شوامل أحفاده.


[email protected]