quot;العالم يدين الانتحاري الذي يقوم بتفجير نفسه، لكن هل يستطيع العالم أن يتأمل طريق الرحلة التي قطعها الانتحاري قبل أن يصل إلى هذه الوجهة quot; هذا ما قالته الروائية وناشطة السلام الهندية أروندهاتي روي في محاضرتها quot;أقبَِـلَ أيلولquot; التي أقيمت في ولاية نيو مكسيكو الأميركية بعد عام من هجمات سبتمبر. وروي هنا كانت تحاول في وقت مبكر لفت انتباه المستمع الأميركي لكي ينظر من زوايا أخرى إلى خطورة واندفاعية حملة بوش وحربه ضد الإرهاب ذات البعد الواحد، والتي شعارها إن لم تكن معي فأنت ضدي. حيث كما تصف أن إشعال النار في كومة من القش لا يكون أبداً الطريقة المناسبة لإيجاد الإبرة. ومن كلامها نستشف نقطة مهمة وهي أن الوعي ذا المسار الواحد الذي يكون لدى الجماعات المتطرفة، يجد أفضل وسيلة لتحقيق نموه واثبات وجوده عبر حكومة تمارس التطرف مثله وتتبادل معه نفس النظرة الحدية.
وكنا نسمع، سابقاً، أن المجتمع يكون كالسفينة، فإن غرقَ جزءٍ منه يهدد باقي أجزائه، ويبدو أن العالم الآن كله أشبه بالسفينة. غرقُ جزء منه يحمل علامة التهديد لباقي مناطقه. ففي السنوات الماضية امتدت يد التخريب إلى دول وأماكن متعددة في العالم، وكانت الصين قبل أشهر تتوجس وتحتاط في فترة الاولمبياد ضد أي عمل تخريبي محتمل، وتوالي عمليات العنف في باكستان جعلها في حالة استنفار شبه دائمة، لكن يد التخريب هذه المرة امتدت إلى جارتها الهند والتي لم تكن تنقصها المشاكل لكي يأتي الإرهاب فيزيدها. فالهند على ما يبدو تتجه الآن لأن يتجاوز عدد سكانها عدد سكان الصين، فحسب آخر تقرير للبنك الدولي فإن نسبة المواليد في الهند تكون ضعف نسبتهم في الصين، وإن كانت هذه الأخيرة محظوظة بالنمو الاقتصادي فإن الهند لا يتوفر لها مثل هذا الحظ. والهند بلد ذو واقع معقد وعفوي في نفس الوقت، وعفويته وتلقائيته هي التي قد تحل مشاكله حيناً، وقد تربط عقد مشاكله في أحيان أخرى. فالتماوج الحر الخال من التنظيم داخل جسم الهند قد ترك الوضع الاقتصادي على طبيعيته واستقطابيته، فكان تمايز الطبقات فيها هو الأكثر اتضاحاً ومأساوية في العالم. ولأنها الكيان الطبيعي والمفتوح، كانت الهند مسرحاً واسعاً تناسلت فيه بحرية جموع البشر والأديان واللغات كما تناسلت المشاكل، فكانت الأشياء فيها تولد وتموت طبيعياً. وعلى سبيل المثال يذكر صاحب كتاب quot;فكر الهندquot; البير شويترز كيف أن البوذية اختفت من الهند مع أنها هي البلد التي ولدت فيها. ويقول أنها قد اختفت طبيعياً من الهند فهي لم تتعرض لأي اضطهاد، وإنما إدراكها الفقير للعالم جعلها لا تملك القدرة على منافسة انتعاش البراهمانية والهندوسية في العصر الوسيط، بجانب أن المد الشعبي للدين الإسلامي الذي نشره الفاتحون بحماس منذ بداية القرن الثاني عشر كان قد كتب نهايتها في المنطقة.
وكانت الروائية الهندية أروندهاتي روي قد فازت بجائزة البوكر الأدبية البريطانية عام 1997 عن روايتها quot;رب الأشياء الصغيرةquot;. وفتاة كيرلا هذه لم تجلس أبداً بعد ذلك لكتابة روايتها الثانية، عوضاً عن ذلك، قامت بتأليف عدة كتب أخرى ذات طابع فكري نقدي، ناضلت فيها على أكثر من جبهة، فهاجمت سباق التسلح النووي بين باكستان والهند، وسياسة بناء السدود وتشريد الضعفاء التي تقوم بها الحكومة الهندية، بجانب نقدها للعولمة واستغلال كبريات الشركات العالمية للشعوب، وللحكومة الأميركية في سلوكها الأمبريالي في العالم، مما جعل البعض يصفها بأنها النسخة الأنثوية للمفكر نعوم تشومسكي. ومواضيع هذه الأعمال لروي تعطي ملمحاً بأنها ذات طابع نقدي ذكي يساعد في إدراك الأبعاد والأوجه الأخرى من الصورة. فحين قامت روي بعمل فلم وثائقي عن مشروع سد وادي نارمادا الهندي، قالت أن الحكومة الهندية تغوي المواطنين بأن هذا السد يكون من صالحهم حيث أنه سيكون مصدراً ضخماً للزراعة في البلد، وترد هي بأنه صحيح سيكون مصدراً ضخماً، لكن من أجل من؟!! من أجل كبار المزارعين والشركات في البلد، في حين يتسبب بناؤه في تشريد الملايين من الضعفاء، ونزوح مئات القرى المتضررة.
ومع تجدد هجمات التخريب اليوم في الهند، نستطيع أن نذهب إلى نقاط أبعد عبر السؤال الذي طرحته روي في محاضرتها المذكورة. فعندما يقوم أحدهم بقتل الناس بدم بارد في محطة القطار وفي أماكن مختلفة من مومباي، يكون أحد أهم الجوانب المثيرة للتأمل هو الجانب النفسي لدى المخرب أو الجماعات المخربة التي تقدم على مثل هذا الأمر. فالعنف في جوهره عملية ذات أبعاد نفسية لا أبعاد قوة. والدوافع وراء ارتكاب العنف قد تكون مختلفة، لكن في النهاية كلها تحتاج لأن تتمثل في هيئة استعداد نفسي لممارسته. والصيغ النفسية التي تتلبس فعل العنف عادة ما تكون متعددة مثل الكراهية والتعصب، الإحساس بالاستعلاء أو الدونية والهامشية، أو الاغتراب والخوف وغيرها. وكل هذه الأنواع جديرة بالدراسة والاهتمام، لكن ما يهمنا هنا هو الجانب الإدراكي من العملية النفسية؛ الإدراك ذو البعد الواحد.
قال فرويد quot;الطفل سيحطم العالم لو توفرت له القوة الكافية لفعل ذلكquot; ويستطرد المفكر البريطاني كولن ويلسون في كتابه quot;سيكولوجية العنفquot; في شرح أبعاد هذه المقولة، فيقول أن فرويد كان يعني أن الطفل ذاتي تماماً، ومغلف بمشاعره الخاصة والذاتية التي لا تجعله مستعداً لتفهم وإدراك الأبعاد الأخرى، وأن من يرتكب العنف يكون مشابهاً للطفل في هذه الخاصية، حيث لا يتحصل إلا على بعد واحد يتسم بالتسهيل والتسطيح لما عداه. وأحد أهم الخصائص النفسية لصاحب البعد الواحد، أن لا قيمة لديه ولا مشاعر سوى لنفسه أو لقومه أو قيمه وكل ما يدور في فلك بعده الواحد، لذا يسهل عليه الاعتداء على الغير، فكما يقول ويلسون أن المعتدين كانوا لا يشعرون بضحاياهم، ويرون أنهم لا يمثلون أي قيمة تذكر. ويضرب مثالاً على ذلك، تلك المذبحة التي ارتكبها الجيش الياباني في مدينة (نانكنج) الصينية ومقاطعاتها في عام 1937، حين قتلوا ما يقارب من مائتي وخمسين ألف مواطن صيني بما فيهم النساء والأطفال، وبعد تلك الوحشية كان الأمر لهم بأن يستعدوا للعودة إلى حياتهم المهذبة والطبيعية في اليابان بين نسائهم وأطفالهم. ويذكر أيضاً كيف أن اليهود الإسرائيليين الذين كانوا يدعون ويقولون للعالم أنهم ضحايا المذبحة النازية في أوروبا، هم نفسهم من رتب لمذبحة صبرا وشاتيلا في عام 1982 والتي قتل فيها النساء والأطفال وغير المحاربين، حين وقعت تحت أعينهم وحمايتهم بعد أن سمحوا لحزب الكتائب المسيحية أن يدخل ويرتكب المذبحة.
والكيان الذاتي قد يكون على صورة أفراد أو جماعات أو دول، وحين لا يخضع وعي هذا الكيان لحدود يسهل عليه أن يتحول إلى وعي تدميري، حين يجنح للتعدي على مساحات أخرى خارج حدوده. ويكون لديه ككيان ذاتي قابلية واسعة للتطرف في كل حين، حيث أن كل حماسة وحيوية في داخله لا تعبر عن نفسها إلا من خلال بعد وأفق وحيد تصل به إلى حدوده القصوى في أي لحظة. وبما أن هذا الوعي يتمدد ذاتياً فإن انقراضه يكون ذاتياً أيضاً حيث أن الوعي متعدد الأبعاد قادر على هزيمة هذا الوعي وتقليص مساحاته. فالفكر الذي يعتاش من بعد واحد، يشبه الكائنات وحيدة الخلية التي تحيا وتقتات على خلية واحدة، ويكون مثلها ذا وجود مستقل وضعيف، ولا يمكنه أن يتفاعل مع الآخرين بطريقة خصبة بل يبقى حياً عن طريق انقسامه الذاتي على نفسه، وتكون أفضل بيئة لوجوده مستنقعات العنف والحرب والفوضى. لذا فالمجتمعات التي تنجح في أن تكون كيانات ذات أبعاد متعددة، ترفض أن تكون حاضنة لمثل هذا الجزء ذي البعد الواحد الذي لا يتسق مع كيانها، وبذلك يكون انقراض هذا الفكر ليس بالضرورة عن طريق محاربة الحكومات بل عن طريق لفظ المجتمعات له.
وفي عام 2005 عرضت قناة البي بي سي البريطانية فيلمها الوثائقي quot;قوة الكابوسquot; والذي يناقش فرضية الخوف التي نشرت في العالم عبر رؤيتين متطرفتين، رؤية المحافظين الجدد في الإدارة الأميركية، ورؤية الراديكاليين المسلمين المتبنين للعنف. حيث إن كلا القوتين كانت تمارس التخويف عبر منظور حدي وبعد واحد لا يقبل بأي بعد آخر، فمن ليسquot;معquot; هو بالتأكيد quot;ضدquot;. وفكر القاعدة وجد أن أفضل الفرص لبروزه تمثلت في التجاوب المتماثل والحدي من قبل حكومة بوش واليمين المتطرف. وشيء مرعب أن تكون ردة فعل الحكومات على أعمال العنف نظرة متطرفة أخرى، فهذا التزاوج سينتج الخراب في العالم. ولا يكون مستبعداً أبداً أن المخربين الذين ضربوا الهند قد أرادوا باكستان في الحقيقة وليس الهند، وأن طموحهم يرنو إلى أن تتصرف الهند بوعي متطرف مثلهم، فتقوم بضرب باكستان، فتكون بذلك قد قدمت لهم أحسن انتقام منها. ومحاولة الجماعات المتطرفة للإيقاع بين الدول ليست بجديدة.
وعندما حاور الصحفي والإذاعي الأميركي دافيد بارسيمان الروائية الهندية روي، سألها: أنت تتحدثين كثيراً عن العراق وفلسطين، والناس هنا لا يحبون سماع ذلك؟ فردت روي: أنا لست بناخب يجمع الأصوات، ولست بمهتمة أن أقول ما يحب الناس سماعه، النخب لدينا في الهند لا تريد سماع أي شيء عن السدود، وعن الفظاعات التي ارتكبت من أجل تأمين راحتهم، وأنتم تعيشون في عزلة.. الناس هنا في أميركا يعيشون في فقاعة مليئة بالإعلانات والقليل من المعلومات. ونجد أن هذا الفكر لدى روي هو الذي جعلها تتعرض للمحاكمة في بلدها بسبب قضية السدود، وتشجيعها لإدراك الأبعاد الأخرى من القضايا، جعلها تتهم بأنها غير وطنية، حيث كانت تنتقد بصراحة ما تسميه quot;المشروع الفاشي للحكومة الهندية ضد المسلمين في كشميرquot;. ويمكننا القول أن هذه الأصوات النقدية لدى روي وغيرها، تكون هي المنقذ والحامي للهند من أن تكون دولة ذات بعد واحد في النظر.
وعندما سألوا هنري كيسنجر لماذا أيدت الحرب على العراق؟ أجاب: أفغانستان لم تكن كافية. الراديكاليون quot;أرادوا إهانتنا ويجب علينا إهانتهمquot;(1). وهنا نرى كيف تطرد النظرة الحدية لتنسحب وتعمم عدواها على الكثير من الرؤوس التي تعبر عنها، كما فعل هنا وزير الخارجية الأميركي الأسبق، المهندس الدبلوماسي، ومستشار إدارة بوش حول العراق، والذي قدمت له في بداية السبعينات جائزة نوبل للسلام لجهوده في إنهاء حرب فيتنام. ولذا ليتنا نعرف الآن هل التدمير والإحراق بالصواريخ لحاضرة مهمة مثل بغداد لها ثقلها في العالم العربي والإسلامي كان كافياً!!؟ أم أن هذا الوعي الذاتي المطرد الذي يمثله كيسنجر لم تولد حدوده بعد.
ذات مساء من شهر مايو 1912، جلس المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي متأملا على أطلال قلعة ميستراس التي تشرف على سهل مدينة إسبارطة اليونانية بعد أن قضى يومه متجولاً فيها. وكانت ميستراس مدينة مزدهرة عبر مئات السنين حتى هجم عليها ذات مرة غزاة أبادوها بالكامل، فلم يبق منها شاهد سوى الحجر. وتأمل توينبي هنا وهب إلى التساؤل حول السبب الذي يقف وراء قسوة البشر وطبيعتهم المدمرة، فقادته محاولة الإجابة على هذا السؤال إلى كتابة8 الآف صفحة حول تاريخ الحضارات تمثلت عمله المميز quot;دراسة في التاريخquot;. ولا يُعرف إن كان ما كتبه توينبي قد خفف من غلواء وحدّة سؤاله أم زاد منها، فيكون كما المؤرخ البريطاني الآخر هـ ج ويلز الذي قام بكتابة العمل الآخر المميز quot;معالم تاريخ الإنسانيةquot; وكان متفائلاً بأن البشرية ستهتدي إلى السلام وأن عصبة الأمم التي أنشئت بعد الحرب العالمية الأولى ستقود إلى تحقيق الأمن والاستتباب في العالم، لكن ما حدث في العالم بعد ذلك من وحشية وحروب جعله يميل في آخر حياته إلى النهلستية (العدمية) يائساً من الجنس البشري. ولا زلنا حتى اليوم نشهد الصور القاتمة للعنف تروج في العالم، ويبقى أن نعرف أن الإدراك الواعي ذا الأبعاد المتعددة هو أفضل سلاح يمكن أن نحاربها به.
(1) Danner, M. (2007) Words in a Time of War. From: What Orwell didnrsquo;t know, 26.