كل حرب تحمل معها ثقافتها الخاصة. ومن ذلك أنها تعكس أمزجة المجتمعات التي تشترك في هذه الحرب. فكل كيان يدخل الحرب له منطقه الخاص فيها، فلديه مبرراته، وفرضياته التي يطمح في أن يجعلها تتسيد وتتعمم على أكبر رقعة ممكنة في العالم، لتحقق شرعيته، ومن قبلها وجوده. فلا يوجد كيان واع يرغب في أن ينعزل عن العالم ويهب نفسه للموات. وكالأمس كان هذا ما يمثل المعركة بجانب المعركة في فلسطين اليوم. فرغم الوضوح الصارخ لحجم ووحشية العدوان الإسرائيلي الذي لم تستثن حساباته العزل والأطفال والمساجد والمستشفيات، إلا أن جهده الكبير لتعميم نظرته وترويج منطقه في العالم يخبر أن هناك أشواطاً ساخنة طويلة لابد من خوضها معه.
قبل أشهر قتل جيش الاحتلال مصورا من وكالة رويترز في غزة بجانب مدنيين آخرين، وعلل الجيش أنهم لم يتبينوا إن كان ما يحمله كاميرا تصوير أم سلاحاً، والحقيقة أن كلاهما مرعب له فالكاميرا لم تكن تقل خطورة عن السلاح. فقد أعلنت شبكة antiwar المعنية بالسلام على موقعها في الإنترنت أن الكيان المحتل يمنع الصحفيين الدوليين من الدخول إلى غزة، أو حتى الاقتراب من حدودها، لكيلا تصبح الأحداث على مرمى كاميرا، إضافة إلى تدشين الجيش الإسرائيلي لقناة جديدة خاصة بهذه الحرب على موقع اليوتيوب لكي تساعده في نفس الغرض، إيصال منطقه ومبرراته. والعمل على أن تكون غزة ليل تموت أصباحه.
إن صورة الاحتلال في الخارج ليست بمثل زخمها المناهض له لدينا، فهو قد تودّع منذ فترة من ترميم صورته لدى العالم العربي والإسلامي، فتوالي الأجيال في العالم الإسلامي لم يفقد القضية زخمها بل زاد منه، والأجيال الجديدة قد قدّت صوراً أكثر متانة، وأعمق رفضاً له. لكن في الخارج خصوصاً في العالم الغربي نجده المحارب الشرس، حيث استخدم كل وسيلة وحيلة من أجل تثبيت صورته وتحقيق وجوده. ونجد أن الوعي الأميركي ليس بغافل عن مأساوية الأحداث، أو أعداد الضحايا مثلاً، لكن الحال يكون أن هذا الوعي قد تبنى المنطق الإسرائيلي وأضمره كجزء منه، نتيجة استفراد هذا المنطق به لفترات طويلة من الزمن، غاب عنها العرب، ولم يملكوا الأدوات المعينة. وفحوى المنطق الإسرائيلي كانت دوماً أن القوم لا يفهمون سوى لغة القوة، وأنها الوحيدة التي ستجعلهم يرضخون في النهاية، ويسلمون بالأمر الواقع. وهكذا تمثلت إسرائيل بجدارة مثل اليأس الذي يقول معالجة الصفاقة تكون بالمزيد من الصفاقة.
وأحد الكتاب الأميركيين المتطرفين لإسرائيل علق متحسراً أن المقاومة الفلسطينية تخترق الشعوب ويكون لها تأييد شعبي في كل زوايا العالم تقريباً، باستثناء إسرائيل وأميركا.
واستمرار الصراع يقود إلى الاستقطاب وإلى أن يتسيد منطق على منطق آخر، فالتاريخ لايتيح لحكايتين أن تتزاحما على ظهره لفترة طويلة، ففي النهاية تسقط إحداهما، وتتعمم الأخرى. ويكون السؤال الخاص بهذا الجانب من المعركة، من الذي سيتعمم ويتمدد ليكسب مجال الآخر، هل تكتسب فلسطين التأييد الأميركي، أم يحدث العكس ويكسب الاحتلال الرأي العالمي؟. لقد حدث أمر مشابه بعد حرب العراق بفترة، حيث ارتد الوعي الأميركي على نفسه، وواكب في استطلاعات رأيه اللاحقة الموجة والزخم العالمي الرافض للحرب منذ البداية.
الوجود الإدراكي كالصورة الذهنية يكون سابقاً وحاكماً على الوجود الواقعي. ومنذ البداية تأسست إسرائيل على صياغة الأساطير القومية الصهيونية التي ترسّم وجودها، في مقابل عملية استلاب الفلسطينيين من الوعي، والتعمية عن حقهم، فصورتهم في بداياتها كبدو رحل لم يفلحوا في إقامة دولة، ثم كخاطفي طائرات، والآن كإرهابيين. لذا فالمعركة تتمثل في أعلى ذراها في تحقيق الصورة والوجود. في أن تكون أو لا تكون، أن يدركك الوعي أو يتجاهلك، أن يألفك العالم أو يستوحش منك، أن تكون راسخاً فيه بحقك وتاريخك وشرعيتك أو أن تكون ساقطاً منه ومرمياً كلقيط.
كتب أحد الطلبة الأمريكان بحثاً يصل فيه إلى نتيجة مفادها أن نجاح حركة الحقوق المدنية للسود في أميركا خلال الستينات لم يكن بسبب خطابة شخص أو تضحية آخر، بل كان يقف وراءه سبب رئيسي وهو جهاز quot;التلفازquot;. وفرضيته كانت تناقش أن نجاح هذه الحركة جاء بعد انتشار التلفاز في البلاد خلال الستينات، حيث أن الناس في أرجاء البلاد لم يكونوا على دراية بالجحيم والاضطهادات الحاصلة في بلادهم، فاستطاع هذا الجهاز أن ينقل الصور التي جلت واقع ما يحدث لهم، وبذلك تحصلت الحركة على الزخم والدعم اللازمين لنجاحها.
وقرأت البارحة تعليقاً لشاب أميركي يشكر قناة إخبارية عربية على اليوتيوب وهي تنقل وقائع مايحدث في غزة، ويقول لأول مرة اكتشف حقيقة ما يحدث هناك، فمنذ كنت صغيراً كنت أتابع الأحداث حسب طريقة إعلامنا الخاطئة.
ولا يبدو أن أميركا بهيلمانها وقدراتها قادرة على ترويج وحمل منطق الاحتلال ومساعدته في اختراق المساحات في شعبية الرأي العالمي بأكثر مما فعلت سابقاً. فهي قد عاشت حديثاً أزمة إصلاح صورتها نفسها في العالم، بعد التشوهات التي حدثت في فترة بوش الابن، مثل غوانتنامو، وحرب العراق. وتحاول الإدارة الجديدة أن تنفض يدها مما لصق بها من تركة التطرف التي لازمتها في هذه الحقبة، حسب ما تشير إليه موجة من الكتب والسجالات الثقافية الدائرة الآن في أميركا. وغير هذا نجد الاتصالات الحديثة ومن ضمنها تنامي وسائل الإعلام الجديدة المنافسة، بجانب التغير الديموغرافي نتيجة تنامي الأقليات في الغرب، ساعدوا في خلق ملامح واقع جديد، يغاير الواقع السابق الذي كان داعماً بقوة لليهود، مما دفع كاتب متطرف للقومية الصهيونية لأن يقول quot;إن العصر الذهبي لليهود في أميركا قد انتهىquot;. إضافة إلى أن إسرائيل صاحبة المنطق والحل الوحيد قد لا تكون في أفضل حال مع أوباما الباحث عن حلول جديدة. وقد يقدم الكثير وعوداً للكيان الإسرائيلي باستمرار تفوقه العسكري، لكن التفوق المعنوي والوجودي ليس في يد أحد ليقدم الوعود باسمه.
لقد قيل أن جدلية التاريخ تكمن في أنه قد يقدم لك غنيمة، وفي المرة التالية صفعة. وإذا كانت إسرائيل تروج عن العرب طيلة العقود السابقة في واشنطن بأنهم مضيعوا الفرص، فربما الآن الوقت لأن يصفها العرب بهذا الوصف. فأوجاع الانتفاضة الثانية كانت قد دفعت العرب لكي يخطوا تجاهها ويقدموا غنيمة المبادرة العربية، والآن الألم الجديد في غزة يكون حافزاً للارتداد بعيداً عنها وعن منطق التقارب، وان رافق الارتداد هذه المرة نوع من التخلخل لمنطقها ووجوده في الغرب، فهذا ما سيجعلها تختنق بحبلها ومنطقها المريض. وكما قال رالف نادر في رسالة جديدة كتبها إلى بوش بعد أحداث غزة، لقد كان السلام ممكناً، لكن في فترتك لم تقدم شيئاً في سبيله، عوضاً عن ذلك قضيتها في تحقيق كل رغبات الحكومة الإسرائيلية، بما في ذلك إعادة تزويدهم بالقنابل العنقودية.
يجبرنا المنطق الحدي كهذا السائد اليوم إلى العودة دوماً للبداية، فالمسألة في أصلها تتبدى لأن تكون في أصلها حكاية مقابل حكاية، وصورة مقابل صورة. وفلسطين حكاية مُنيفة حُق لها أن تروى، وأن تتمدد لتتسربل العالم كله، بلسان حالها قبل مقالها. وفي المقابل لايوجد شيء تخاف منه إسرائيل مثل خوفها من خلخلة منطقها وتفتيت صورتها، فتنامي الزخم والدعم ضد صورتها في العالم هو الذي سيتسبب في سحب جنرالات الموت فيها للمحاكمات، ودفعها مع مجتمعها للاغتراب والموات. هكذا أستطاع الراحل ادوارد سعيد أن يكون مرعباً ومخيفاً لهذا الكيان عبر هذا الميدان، مهاجمة منطق العدو وتفتيته. لقد كانت مسألة إظهار الصورة وإبرازها تمثل مسألة رئيسية للوجود لديه. وفي المقابلة المطولة التي أجراها معه الصحفي الأميركي دافيد بارسيمان في بداية التسعينات، قال سعيد quot;ما قتلنا في السنوات الثلاث والأربعين الماضية هو الإنكار، أن نبدو كأيتام، ليس لدينا أصول، ولا حكاية، ولا سلالة كشعبquot;. ويدلل بأنه تم العمل على عدم ظهور أي عمل روائي مهم عن فلسطين في أميركا، حتى المسرح جوبه بالنقد والإيقاف، ويضرب مثلاً بأن الضغوط جعلت مخرجاً نيويوركياً يلغى عرضاً لمسرح quot;الحكواتيquot; وهي فرقة من الضفة الغربية في العام 1988.
إن الجهد العقلاني المتواصل الذي يخاطب العالم بمنطقه ولسانه كفيل بتحقيق أفضل الآمال لفلسطين، فرغم ضآلة الأمل التي تبدو في منطق العالم اليوم، إلا أن هذا الجهد هو لزوم التأثير عليه ومن ثم تغييره. لقد قال أحد النابهين أن تعبئة الجماهير وامتلائها بالعواطف في قضية ما يتحول إلى احتراق ذاتي ومن ثم همود، إذا لم يجد مساراً مناسباً ليفرّغ فيه. ومن دون طرق مسار ومحاولات جديدة في النظر، ستظل حلولنا تتقلص مع كل أزمة، بينما العواطف وحدها تكون في ازدياد، تلك التي يصدق عليها قول ابن الرومي quot;شهاب حريق واقد ثم خامدquot;.