وقت الأزمة، وقت هرج ومرج، يعظم فيه المصاب، فيكثر اللغط والخطأ. فالناس تسرقهم اللحظة الحاضرة، ينغمرون فيها، وتتحكم سطوتها في آرائهم وأمزجتهم. وانجلاء الحقائق وتبينها يكون دوماً مسألة مرتبطة بالزمن، فالزمن كفيل بإثبات الثابت، وإسقاط المتخلخل الواهن من الرأي وأشباه الحقائق. ولذا عادة ما يكون المؤرخون أقرب الناس لاصطياد الحقائق. فإدراك الأحداث وأنساقها وتماوجها على حبل الزمن هو عماد فكرهم، فهم من يتذوق الماضي، ويستروح رائحة المستقبل. والأحداث الجسيمة التي تقع لاتتبدى حقيقتها من مظهرها، أو من الانطباعات المبكرة عنها. يقول المؤرخ غوستاف لوبون في بداية كتابه quot;سيكولوجية الحرب الكبرىquot; والذي كتبه عن الحرب العالمية الأولى quot;إن حقيقة الحدث التاريخي قد لا تتضح إلا بعد خمسين سنة من وقوعه، ونادراً ما يدرك الناس حقيقة الحدث أثناء وقوعهquot;. والمعنى والله أعلم أن المسارات والتأثيرات التي يخلقها الحدث التاريخي لا تظهر حقيقتها إلا بعد فترة كافية من الزمن. وبالطبع الحقائق التي يجليها المؤرخون لا تعني الحق الذي لا باطل معه، لكنها وإلى حد كبير تعني أقوى الحقائق التي يستطيع المرء المراهنة عليها.
وعند المؤرخ توينبي quot;الأمم لا تقتل، بل تنتحرquot;. فما من أمة استطاعت إفناء أمة أخرى، مالم يكن لدى الأخيرة أسباب فناء ذاتية قادتها إلى الموات. بل إن تعرض أمة ما للعدوان والأزمات هو الذي يقودها للاستنفار وتحقيق قوتها ومناعتها، استجابة لتحدي الصراع من أجل البقاء. فالأمم القوية لم تخلوا في تاريخها من تجارب عنيفة قامت بصقلها ونفضها، مما دفع أهلها لأن يحققوا من أنفسهم نسخاً وصيغاً أفضل وأكثر أهلية للوجود. فأهمية الأزمات تكمن في أنها تساعد الأمة في إعادة صياغة نفسها لتواكب التحدي، فمسألة البقاء هي مسألة تكيف قبل أي شيء آخر. وتمثل الأزمات أيضاً فرصة لتعديل الحقائق والقناعات، حين يرخي الناس اسماعهم بحثاً عن فرص ومخارج وحلول جديدة، فلولا الأزمة والمشكلة لما عدل الإنسان قناعة من قناعاته.
وأحد أفضل عشرة كتب صدرت في العام 2008 حسب تقييم النيويورك تايمز في الشهر الماضي كان كتاب quot;جمهورية المعاناةquot;، للمؤرخة الأميركية كاثرين درو فاوست، والتي تشغل حالياً منصب رئيس جامعة هارفارد كأول امرأة تتقلد هذا المنصب. وموضوع هذا الكتاب هو الحرب الأهلية الأميركية وما خلفته من حصاد الموت والمعاناة. وأهمية هذه الحرب لا تكمن فقط في أنها مثلت لهم تحرير العبيد وترسيخ المواطنة والحرية، بل أيضا في كونها قد أحدثت الارتجاج والمحنة التي أعادت تشكيل العقل ورسم الثقافة من جديد لدى هذه الأمة، فالبراغماتية كفلسفة اصطبغ بها هذا العقل هي ابنة للحرب الأهلية. فهذه الحرب كان لها ثمن باهظ، ففي خلال أربع سنوات فقط (1865-1861) خسرت أميركا ما يزيد عن 620000 إنسان، وهو ما يماثل عدد قتلاها في جميع حروبها من الثورة وحتى حرب كوريا، وبمقياس تعداد السكان اليوم، يماثل هذا العدد ما يزيد عن ستة ملايين. إضافة لأن هذه الحرب لم تستثن المدنيين أيضاً، ومن بينهم النساء والأطفال، حين اجتاحت المزارع والحقول. لذا ففداحة هذه الحرب، جعلت الناس يعيشون في فجوة لمدة خمسين سنة، امتلأت بالتفلسف، ومساءلة الإيمان، ولماذا حدث ما حدث؟ وهل كان الأمر يستحق كل هذا الثمن؟ وهكذا كنتيجة قدح زناد هذه الفلسفة مع ويليام جيمس وجون ديوي وتشارلز بيرس. حين أصبحت النتائج هي المعيار، ومدار الأمر، فهي التي تحدد قيمة الأفكار، إن كانت تستحق الجهد والخسارة التي توضع فيها أم لا، وأصبحت الأفكار محكومة بعد أن كانت حاكمة.
وهكذا فإن الصعوبات والتحديات والمصائب عادة ما تكون مرحلة صهر وتوليد للأمم. وأمتنا اليوم يصدق عليها وصف الأمة التي تلوكها المعاناة؛ معاناة تنبت من داخلها، وأخرى تأتي من خارجها. وعادة ما تكون المعاناة من النوع الأول هي الجالبة للأخرى، أي أن الانهزام الداخلي هو الجاذب والمغوِ للاعتداء والطمع الخارجي. هذا ما تفيدنا به مقولة توينبي السالفة، بجانب مقولة أخرى مشابهة للمؤرخ ويل ديورانت أن quot;الأمم لا تغزى من الخارج، إلا بعد أن تكون قد سقطت من الداخلquot;. وإذا كانت التجارب والمحن مصدر قوة، فهذا بسبب أنها تجبر الناس على التغيير والتفهم، ويكون من سننها أنه إذا لم يتعلم ويتغير الناس منها، فإنها تعود عليهم في شكل تجربة أقسى، وهكذا حتى يعدلوا من أنفسهم. وإذا كانت أمتنا تخوض المخاضات الصعبة وتتعرض للنقد والممانعة، ففي هذا دلالة على أنها أمّة حية ومحسوسة. فالمخاض والارتجاج يدل على ولادات جديدة لها، فاصطدام النقائض في داخل جسمها يمثل إجبارا لها على خلق المقاربات التي ستهبها صوراً أكثر متانة من سابقاتها. والنقد والممانعة تجاهها دليل فعلي على أنها تمارس التمدد على رقعة العالم، فهذا النقد والمحاربة هو ممانعة طبيعية يبديها أي جسم تجاه جسم يريد تلبسه والاندغام فيه. ولذا وحسب الدراسة التوينبية فإن الأمم التي زالت من على وجه الأرض لم تحدث قرقعة ولا دوياً حين انحسارها، بل انسلت منه كانسلال اللص في ليل بهيم.
وبعد الهجوم الإسرائيلي على لبنان في 2006، كتب المؤرخ اليساري الأميركي هوارد زن في مجلة (The Progressive) مقالاً بعنوان quot;الحرب لا تحل مشكلةquot;، يوضح فيه أن اعتداءات اسرائيل وحرب أميركا فيما يسمى بالحرب على الإرهاب ليست مدانة أخلاقياً فقط، بل وفاشلة أيضاً في تحقيق أهدافها. ويكمل زن وهو البروفسور السابق في جامعة بوسطن بالقول أن إسرائيل بإلقائها القنابل على لبنان وإهلاك المدنيين لم تحصل على الأمن، عوضاً عن ذلك زادت من أعدائها والمتربصين بها، ويقول أن قادة إٍسرائيل عميان ومتعصبون لذا نسيوا حقيقة تاريخية مفادها أن اجتياحهم للبنان في صيف 1982 والذي أودى بحياة ما يزيد عن أربعة عشر ألفاً من الضحايا المدنيين على أقل تقدير، هو الذي أدى لظهور حزب الله، ولذا فقصفها الأخير للمساكن وقتل الأبرياء، لن يزيله، بل زاد من حصده للتأييد ضدها. ويقول أن ما يسمى بالحرب على الإرهاب هو مسمى متناقض فالحرب ذاتها هي إرهاب، وعدد من قتل من المدنيين الأبرياء في حروب أميركا وإسرائيل هو مئات المرات أضعاف من قتل في كل الهجمات الإرهابية في العالم. ولذا يتذكر زن في هذا المقال بطل رواية جون هيرسي quot;محب الحربquot;، حيث تحكي الرواية عن طيار أميركي يحب إلقاء القنابل على الناس في الحرب، كما يحب أن يتبجح دوماً بسرد مغامراته الجنسية، حتى يتضح في الأخير أنه عاجز جنسياً. ويشبه زن هذا الطيار بالقادة في أميركا وإسرائيل ممن يتبجحون بحروبهم بينما آلتهم العسكرية عاجزة عن تحقيق الأهداف، فطالبان لازالت نشطة بعد سنوات من الحرب، واحتلال إسرائيل واستخدام قوتها العسكرية في الضفة وغزة سابقاً لم يستطع أن يقض على المقاومة.
الصعوبة والتحدي تخلق وتصقل القوة لدى الحضارات كما للأفراد والكيانات أيضاً. وهذه الحرب ستجعل حماس أقوى من السابق كما حدث مع حزب الله قبل سنتين، فكل المبادرات المطروحة الآن والتي وافقت إسرائيل مبدئياً على شيء منها لا تتعرض الى سلطة حماس. وهذه الحرب ستجعل حماس متسيدة كما أن حروب وأزمات الستينات جعلت السيادة تكون لعرفات ومنظمة التحرير. بجانب أن الضغط الشديد الذي تعرضت له حماس في هذه الأزمة سيمثل فرصة لها لأن تعيد صياغة نفسها من جديد، فتقوم بمعالجة الثغرات الكبيرة والواضحة لديها، كالمغامرات الغير محسوبة، والدخول إلى باب السياسة وهي فن الممكن عبر فن المطلق.
وأيضاً المؤرخ ويل ديورانت يرى أن النمو مقرون بالتحدي والصعاب. فبعد أن أمضى ما يقارب من أربعين سنة من عمره في كتابة تاريخ الحضارة، قام هو وزوجته آرييل بكتابة quot;دروس من التاريخquot;. وفي هذا الكتاب لخص ديورانت فلسفته عن التاريخ، وحاول الإجابة بطريقة مختصرة عن أسئلة ملحة تفرض نفسها مثل quot;هل يدعم التاريخ الإيمان بالله؟ هل التطور حقيقة؟ لماذا كانت الحرب وضعاً مستديماً طوال فترات التاريخ بينما السلام هو الاستثناء؟!!quot;. وأحد فصول هذا الكتاب يتحدث عن سبب صعود الحضارات وانحطاطها. ويقول فيه ديورانت أن ازدهار الحضارة يأتي عبر بوابة التحدي، فالأمم تتكثف جهودها في جهة الخطر الذي يستنفرها، فهذا الوضع يخلق دوماً مبادرات تكتسي طاقة وحيوية واستجابات مؤثرة تصارع لتحديد المصير. ويرى أن الفشل والاندثار يكون من نصيب الأمة التي لا تنجح في مواكبة التحدي واستثارة آلياتها وطاقاتها. وهكذا نلاحظ مرة أخرى كيف أن الأمم تكون بالفعل مسئولة عن زوالها، فهذا الفشل في الاستثارة واستنفار القدرة هو فشل ذاتي، يأتي من طبيعة الأمة نفسها، فليس للعدو ولا للظروف دور في صنعه.