بحسب استفتاء قامت به شبكة سي ان ان في شهر ديسمبر الماضي، فاز نائب الرئيس الأميركي السابق ديك تشيني بلقب أسوأ نائب رئيس في تاريخ الولايات المتحدة على الإطلاق. أما بوش فلا يزال يتصارع في القاع مع رؤساء آخرين سابقين مثل وارين هاردينج وفرانكلين بيرس على لقب الأسوأ. ومرد هذا الانطباع لدى الرأي العام كان بسبب أن أميركا فقدت أهم ملاحها في عهد هذه الإدارة، وتحولت لأن تكون دولة شبه بوليسية عبر التمادي وسوء الاستخدام للصلاحيات التنفيذية من خلال إدارة جورج الثالث (بوش الصغير). وفي ردة فعله على هذا الانطباع السيئ عنه، قال تشيني أن quot;الإنجاز الأعظم كان في المحافظة على أميركا من هجمة سبتمبر أخرىquot;. وهذا الكلام من تشيني ليس إلاّ (خديعة سياسي)، فهو هنا لا يتردد أن يدافع عن نفسه بنفس السبب الذي أتهم به، وهو ترويج الخوف. فبالطبع الأمن هو أولوية لكل أحد، لكن لماذا يفترض أن طريقة هذه الإدارة هي الطريق الأفضل لتحقيقه؟!
وكلما شاهدت سياسيا يتحدث، كلما اشتممت رائحة خديعة، حتى أتذكر على الفور المفكر والروائي البريطاني جورج أورويل، وبالخصوص مقالته quot;السياسية واللغة الإنجليزيةquot; والتي كتبها في عام 1946. ففي هذا المقال يخبرنا أورويل أن اللغة ليست أداة خلق وصناعة لدى الشاعر فقط، بل لدى السياسي أيضاً. ويتكلم عن العلل المتنوعة في اللغة حين تستخدم من الكتاب والسياسيين، حين تصبح أداة لتشويش وحجب الحقيقة بدلاً من كشفها، فانحطاط الفكر مربوط بانحطاط اللغة، والعكس صحيح. ويوضح أورويل أن أعدى أعداء اللغة يكون النفاق والازدواجية، حيين تتنافى أهداف أحدهم المنطوقة والمعلنة مع أهدافه الحقيقية. ويمثل هذا المقال مصلاً ومناعة مهمة لقارئه ضد احتيال الساسة الذين يمارسون مختلف الألاعيب اللفظية، فاللغة سلطة في حد ذاتها. ولذا يقول أورويل في مقاله الآخر quot;لماذا أكتب؟quot;: quot;عندما أجلس للكتابة لا أقول أني سأقوم بتقديم أدب جميل، بل أقول لنفسي أن هناك بعض الكذب الذي أريد كشفه، وبعض الحقائق التي أريد أن أجلب الانتباه لهاquot;. ونجد هكذا أنه جاهد في آخر سنوات عمره ليحول الكتابة السياسية إلى فن، فقدم روايتيه الرائعتين quot;مزرعة الحيواناتquot; و quot;1984quot;. والطريف أن هذه الرواية الأخيرة لطالما استخدمت لمهاجمة المعسكر الشرقي الشيوعي، بينما في عهد بوش الصغير بالذات قرأت لأكثر من كاتب يقيسون ما جاء فيها مع الوضع الحاصل في عهده من تعد على الحريات المدنية، وظهور ازدواجيات صارخة لأميركا تتنافى مع صورتها المفترضة، والرأي العام الموجود.
ومنذ بداية عهده، عمل أوباما على إظهار القطيعة مع سلوك إدارة بوش، فعمل على نقض النسيج الذي خلفته وراءها، من تجريم التعذيب وإلغاء السجون السرية في العالم، إلى إغلاق غوانتنامو والانسحاب من العراق. ولذا حمل مجيئه إلى السلطة أملاً كبيراً في إنقاذ أميركا من ازدواجيتها وفي أن تحقق صورة موحدة لها عن نفسها. وهذا ما كان أوباما حريصاً على إيضاحه في خطبته يوم تنصيبه حين قال quot; إننا نرفض الخيار المغلوط بين أمننا ومثلناquot;، وهو الخيار الذي طالما استخدمته وراهنت عليه إدارة الرئيس الراحل بوش.
وكنت في السابق كلما شاهدت بوش وهو يتحدث بثقة وجسارة عن خططه الكارثية، كلما تذكرت ما قاله فرويد في إحدى تحاليله النفسية من أن quot;الطفل المدلل تكون لديه ثقة بنفسه ترافقه طوال مراحل حياتهquot;، فهو يستمر في الاعتقاد بأن العالم سيتعامل معه كأمه. وهكذا فإن الكائنات المدللة مثل بوش ونخبته من المحافظين وأثرياء الجمهوريين من أصحاب أندية اليخوت، والجولف، والأندية والمدارس المغلقة، تكون معزولة عن الواقع، مما يفسر هذه الجسارة لديهم لتمرير أجندتهم حتى لو مارست تحطيم أشياء بحجم دول. فبجانب الغزو، رأينا كيف أن مسألة التشديد والاستقطاب فيما يسمى بالحرب على الإرهاب كانت على شفا إشعال حروب أهلية في بعض الدول. ولذا فإن انعزال هذه الطبقة وانفرادها جعلها ترسم وجها مزدوجاً وصارخاً في مغايرته للشعبية والرأي العام في داخل أميركا قبل خارجها.
وفي معرض حديثه عن الكوارث التي ارتكبتها حكومة بوش، قال المفكر الأميركي هوارد زن في كلمة له في إحدى الجامعات الأميركية: إن القول أن الحكومة لديها بعض الأخطاء ليس بشيء ذا بال، ما يحتاج إلى قفزة هو القول بأن الحكومة quot;شريرةquot;.
وأذكر أن الإمام بديع الزمان النورسي كان في كتبه يخاطب أوروبا، بأوروبا الأولى، وأوروبا الثانية. مميزاً في زمانه لأوروبا ذات الوجه الاستعماري القبيح عن أوروبا الحضارة والفكر. وأجد أننا قد احتجنا لفترة طويلة من الزمن لأن نخاطب أميركا بأميركا الأولى وأميركا الثانية. لذا فهل يا ترى يستطيع أوباما كما هو منطوق وفحوى خطابه الأول أن يجعلنا نخاطب أميركا واحدة، تتوافق أهدافها المعلنة (كالحرص على العدالة في العالم) مع أهدافها الفعلية التي تنفذها على أرض الواقع؟؟
من أول خطوة له لا يبدو ذلك. ففي زيارته لمبنى الخارجية الأميركية بعد يومين من توليه منصب الرئيس، سكب أوباما حديثه الأول المرتقب عن الصراع في الشرق الأوسط، ورغم محاولته أن يبدو مختلفاً، إلا أن حديثه كان خالياً من حمل أي تغيير، فكان كفطيرة تفاح بلا تفاح. ويقول المفكر نعوم تشومسكي في تحليله لهذا الخطاب عبر لقائه مع شبكة (الديمقراطية الآن): إن موقف أوباما بالنسبة لغزة هو تقريباً نفس موقف بوش. فأوباما بدأ كلمته بإعلان التزامه التام بأمن إسرائيل، متجاهلاً أمن الفلسطينيين، مندداً بصواريخ حماس، وغير منتقد لاعتداء إسرائيل. وغير ذلك يبين تشومسكي أن أوباما لم يقل كلمة واحدة في جوهر الموضوع، فهو لم يتحدث عن تسليح أميركا لإسرائيل في جرائمها، لم يتحدث عن استمرار التوسع الاستعماري لإسرائيل، بالإضافة إلى قوله أن العرب ينبغي عليهم أن يتمموا مبادرتهم بالتطبيع مع إسرائيل متجاهلاً أن صلب المبادرة العربية يقوم على إنشاء دولة فلسطينية مستقلة، وهو ما تتجاهله إسرائيل. ولكي يكشف لنا تحايل هذا الخطاب، يقول تشومسكي أن أوباما بدأ بالقول بأن لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها، وهذا صحيح، فالكل له حق الدفاع عن نفسه، ولكن المسكوت عنه والذي لم يكمله أوباما هو أن ليس لها الحق في الدفاع عن نفسها بالاعتداء. فهكذا نجد أن هذا الخطاب من أوباما ليس إلا خديعة سياسي.
أتمنى أن يعرف السيد أوباما أن خطابه السابق، وكلماته اللطيفة التي قالها عبر لقائه مع قناة العربية، بجانب كلمته المرتقبة في أحد العواصم الإسلامية، سيصعب عليها كلها أن تنفذ تحت الجلد العربي، ليس لأن العرب يقرؤون أورويل، بل لأن لديهم خسائر وخبرات سابقة كثيرة مع أبطال وهميين كثر من أصحاب المهارات والحذلقات اللغوية. لذا فإن ما ننتظره حقيقة هو تغيير فعلي، يسمّي الأمور بأسمائها، ويدين من يستحق الإدانة، إن أراد فعلاً أن يجعل شعارات أميركا تتطابق مع أفعالها. فنحن مستعدون بالتأكيد للقبول بإدارة لديها بعض الأخطاء، ولكن ليس بإدارة شريرة.


[email protected]