قبل أن يلقي محاضرته عن تجربته في الكتابة والتأليف في معرض الرياض الدولي للكتاب، تعرض الكاتب والمفكر المغربي محمد عابد الجابري لهجوم عنيف، فقد صدرت فتوى من عالم دين سعودي يصفه فيها بأنه quot;.. ماهر في التمويه ومخادعة القارئ وفي نفث فكره العفنquot;. ونشر أحدهم تقريراً مطولاً عبر الانترنت، جمع فيه الانتقادات لفكر الجابري أو بالأصح -انحرافاته-. ونحن هنا لا نقف على مسألة أن يختلف أحدهم مع الجابري أو أن يكتب ضد فكره، فالاختلاف حق مشاع، ولكن المسألة تكمن في أن ما كتب ضده ليس بفكر يريد أن ينقد آخر، ولا معرفة تريد أن تنسخ أخرى، وإنما أيدلوجيا تريد الإلغاء والإلغاء فقط. ودليل ذلك أن الموقع الأصل الذي كتبت فيه المادة عن الجابري يقدم مادة شبه موسوعية عن كتاب آخرين كثر، ومناهج معرفية مختلفة، ويجمعها كلها في سلة واحدة، فهذا الموقع سيخبرك أن البنيوية والوجودية مناهج الحادية، وأن تولستوي من رواد المذهب الواقعي، الذي يكون مذهباً مادياً ملحداً!! وأن الجابري ينتمي إلى مذهب الحداثة الذي يكون من أبرز خصائصه أنه quot; يمجد الرذيلة.. ويحارب الدين.. ويحث على الهروب من الواقع إلى الشهوات والمخدرات والخمورquot;..!! وهذا يكون من طبيعة الأيدلوجيا، أنها صاحبة نظرة معممة تحاكم بمنظور واحد، وتقيس من زاوية وحيدة، وما من آلية لديها تساعدها على التمييز بين الزروع، فالأيدلوجيا لا تستوعب سوى نفسها، وبذا هي خانقة للبذور قبل زروعها. وما حدث للجابري ويحدث لغيره هو موضوع قديم يتجدد، ولندرك شيئاً من جوهر هذا الموضوع لابد لنا من طرح السؤال التالي: هل يكون للأيدلوجيا أن تحاكم المعرفة ؟!!
الأيدلوجيا ليست المعرفة. الأيدلوجيا بنية مغلقة، لاتقبل الحذف والإضافة، متخمة بالاجابات، ولديها تأكيدات عدة مع أنها تتجنب المساءلة والاختبار دوماً. بينما بنية العلم ذات طبيعة جدلية تفاوضية، شاعرة بالنقص، وطلاّبة للمساءلة والامتحان، وقد تتقولب من جديد حسب الدلالات المتوفرة، بينما الأيدلوجيا تكون قد تقولبت وانتهت. و نحن هنا لسنا معنيين بالأيدلوجيا ذاتها أوما يكون منها حقاً أو باطلاً، فهذا موضوع آخر. ما نقصده هنا هو أن منطق الأيدلوجيا يختلف عن منطق المعرفة، ولذا فليس له أن يلغيه، أو يحطمه، وقبل ذلك كله أن يحاكمه. فليس من عاقل أو نصف عاقل يسمح للمعرفة والعلم أن يكونا سلعة رخيصة تذهب تحت الأقدام مع الأيدلوجيا وسجاليتها.
إن المناهج المعرفية تتكامل ولا تتنافر مثل الأيدلوجيا. فحتى في داخل العلم الواحد نجد أن المناهج المختلفة تولد وتتناقض، ولكن في النهاية هذا كله يتم في إطار عملية تكاملية تثري العلم نفسه، وتجعله صاحب قدرة توليدية متمددة. ومنذ الثورة العلمية التي أعطت للعلم اعتباره، لم يحدث أن قام العلم بتعديل نفسه أو تغيير منهجه حسب ما تريد منه الأيدلوجيا، فقد كان من حسن ظن العلوم التي ازدهرت بعد عصر التنوير أنها كانت تعتمد بثقل على التجريبية والطبيعية المستندة على المحسوس والمشاهد، مما سهل لها أن تستند على منطق ذاتي يسهل لها الانطلاق والتأثير. وهذا الانطلاق للعلم يجعله يتمدد حتى على نفسه، فحتى هذا الاعتماد على التجريبية والطبيعية تم انتقاده وغربلته وتجاوزه عبر منطق العلم نفسه، كما فعل رواد مدرسة فرانكفورت حين انتقدوا هذا الفكر واعتبروه تحجيماً وتجميداً للعلاقات والطبيعة البشرية بجعلها متماثلة مع علاقات العالم المادي والطبيعي.
وصحيح أن من العلوم ما قد يتلبس بالايدلوجيا، ومنها ما صبغ بصبغة غربية وما أستخدم بكثافة لخدمة مصالح الغرب. كما هو علم الأنثربولوجيا الذي قال عنه الدكتور ابراهيم الحيدري أنه quot;علم نشأ مع الاستعمار، وتطور مع الأمبرياليةquot; كما جاء في كتابه quot;صورة الشرق في عيون الغربquot;. وكما تحدث أيضاً ادوارد سعيد وغيره عن الاستخدام الأمبيريالي والمصلحي للعلوم. ولكن المعرفة والعلم لا يزهد فيهما لهذا السبب، فهذا السبب إن وجد يكون مرحلياً، ومحدوداً، لا مستمراً، فمن مزايا العلم والمعرفة أنها لا تكون مدينة لأحد، ولاتبقى محكومة به. فالمعرفة نفسها لا تلبث أن تكون أول من يزري بمن يستخدمها لأغراضه وأيدلوجيته، وعلم الأنثربولوجيا الآن هو علم إنساني يستخدم آلته من أراد من أمم الشرق والغرب. كما أن المعرفة - في الغرب نفسه - استطاعت أن تنتج تيار ونظريات ما بعد الحداثة التي قامت بانتقاد وخلخلة ما قدمته الحداثة وما قدم في المرحلة الاستعمارية من إنتاج. حيث أن القوم تعاملوا مع الحداثة كمرحلة تم استيعابها وتجاوزها، لا كمعركة يجب أن تتوارثها الأجيال.

وقبل أكثر من قرن من الزمان، قال رفاعة الطهطاوي (ت 1873) إن العلماء يشكلون الفئة الوحيدة القادرة على نقل التعليم الجديد إلى الجيل الجديد. فيرى الطهطاوي هكذا أنهم القنطرة التي تستطيع نقل العلوم الحديثة إلى المجتمع، حيث أن العلماء كما هو معروف لديهم القبول الواسع، حتى يبدو وكأن مجتمعاتنا لا تسمع إلا لهم. والطهطاوي كما يتضح كان معالجاً للأمر بسطحية وتفاؤل، فقد غاب عن باله أنهم سيكونون في مقال سجال وندية مع هذه العلوم، وأنهم سيكونون القنطرة المغلقة ضدها. وهذا شيء يتضح حين نتأمل كيف أن العلماء عادة ما يكونون مغمورين في حقلهم المعرفي وطريقتهم في النظر، ولن يتوفر لهم هكذا حيز للنظر في العلوم الأخرى، بل هو ظلم لهم أن يطلب منهم ذلك، فالعلماء يستطيعون صناعة عقليات تماثلهم وليس عقليات تتباين معهم في النظر. ولأن هناك طريقة واحدة في النظر تسيدت عندنا لقرون، فهذا ما جعلها المصدر المعرفي الوحيد للمجتمع، ويصعب هكذا أن تجد الطرق الأخرى طريقها للوجود. وحتى الشعر الذي هو آلة العرب الأولى، وطريقتهم الحرة والمحلقة لم يسلم من الحشر والقولبة من حين لآخر.

quot;والدين بمعزل عن الشعرquot; لم يقل القاضي الجرجاني (ت القرن الرابع الهجري) هذه الجملة ليخبرنا أن الشعر كافر. وإنما ليخبر أن لكل مساحته وطبيعته وطريقته في النظر. وتخوم الشعر-إن كانت له تخوم- لا تتماثل مع تخوم الدين وحدوده وطبيعته. ولنا هنا أن نعرف نقطة مهمة وهي أن العلوم والفنون ليس لها أن تفنى وتتغير بشكل طبيعي وعادل إلا عبر منطقها نفسه. فالمنطق الذي جلبها إلى الوجود، هو الذي يحق له خلعها منه، وأي نسف وإلغاء لها عبر منطق آخر هو استعداء واستبداد. وهذه النقطة على بساطتها هي التي تستطيع أن تفسر لنا لماذا لم نتعرف على العلماء من مختلف العلوم في طوال تاريخنا إلا كأفراد معزولين ومقطوعين، كالفارابي وابن رشد وابن الهيثم وابن خلدون، ولم نتعرف عليهم كمناهج ومدارس متواصلة. وهذا كله يعود إلى أن المنطق والنظرة الواحدة التي تسيدت منذ القرن الرابع الهجري كانت طاغية لم تكن لتسمح بذلك، ولذا لم تخرج المحاولات الفكرية والفردية من تحت عباءة هذا التاريخ إلا على شكل فلتات فردية. وأيضاَ هذه النقطة على بساطتها هي التي تستطيع أن تفسر لنا لماذا يحدث أن نشاهد تدخل قاض بمحاكماته أو فقيه بمقايساته في أمسية شعرية أو فكرية، أو في معرض للكتاب. إن المنهج المعرفي مركوب العلم الذي يحميه من استبداد النظرة الواحدة، ومن طغيان العقل، وتحيز الأيدلوجيا، ومن الأمزجة البشرية التي تميل إلى تلوين كل شيء بلونها. ومن أمثل الأساليب إلى ذلك أن لا تتداخل عقلية على أخرى، وأن لاتحملها على طريقتها في النظر. وفي كتابه quot;أسس التفكير العلميquot; ذكر زكي نجيب محمود أن الأمر لا يستقيم أن يأتي عالم جيولوجي ليخبر أبي العلاء المعري أن تراب وأديم الأرض يتكون من مادة كذا وكذا، فيرد عليه بيته القائل quot;خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجسادquot;، فما كان يقصده أبو العلاء أمر مختلف.

وفي كتابه quot;المقابساتquot; قال أبو حيان التوحيدي quot;فالنفوس تتقادح، والعقول تتلاقحquot;. وهذا قول جميل، فالعقول تنظر وتميز وتستدل وتلاحظ وغير ذلك مما هو من صنعتها، وليس لها أن تكون مشحونة متنافرة، أو والهة مريدة ومندفعة كما هو طبع النفوس. ويمكن وإلى حد كبير أن يكون مرد هذا النفور والتشنج الذي يسود أجواء العملية والفكرية لدينا أمر نفسي قبل أي شيء آخر، فالذوات الغير واثقة هي التي لا تستطيع أن تحتوي وتتقبل أو على الأقل أن تتفهم. ولذا كلما زادت درجة النفور، كلما دل ذلك على فقر الذات. هذه الذات التي تكون هشة كبيت من ورق، قد تسقط لدى أقل احتكاك، ولذا هي متوجسة وصانعة مستديمة للصدامات الغير ملزومة. وهكذا تكون العلة كما اعتدنا أن نجدها دوماً، ضعفاً ذاتياً. فالعائق الذي يمنعنا من حصد غنائم الفكر ومن إنتاجها، لا يكمن في الأدوات وإنما في الموقف. فالفقر في الذات يولد الفقر والخوف، وما من أحد سيبني المستقبل إن كان يخافه، ولا من أحد سيستفيد من علوم حضارة إن كان يكرهها، فهذا الشعور سيولد ضدها ممانعة كبيرة لاتسمح لها أن تنفذ وأن تثمر وتتلاقح. ولنرى كيف يمكن أن يؤثر الفقر في الذات على عملية التعاطي المعرفي، نستطيع أن نلاحظ كيف هو الموقف من حركة الترجمة، فلو حدث في أوقاتنا المتأخرة حركة ترجمة فكرية كبيرة عن الغرب فهذا ما سيفسر فوراً وعلى نطاق واسع أنه تبعية وخضوع وضعف وتنكر لثقافتنا، بينما تفسر حركة الترجمة الفكرية الكبيرة التي حدثت في وقت المأمون على أنها دلالة قوة وتسامح وانفتاح لحضارة خصبة؛ حين كانت الذات في موقع قوة وثقة في ذلك الوقت. وقد ألمح لهذا المقال الأخير برهان غليون في كتابه quot;اغتيال العقلquot;.

لم أقرأ للجابري سوى ما يقارب عشرة كتب من إنتاجه الوافر، وهذا العدد لا يتيح لي أن أكوّن نظرة شمولية عنه، لكن ربما أستطيع القول أن الجابري كان له تأثير مهم على الكثير من شباب جيلي، كثير اتفقوا معه ومالوا إليه، وكثير أيضاً قد اختلفوا معه ونفروا منه. لكن الميزة كانت تكمن في أن الجابري استطاع تحقيق المعادلة الصعبة، فقد استطاع أن يكون مقروءاً ومنهجياً وباذخاً في نفس الوقت، وهو أمر تنقطع دونه حبال الكتاب وأقلامهم. وميزة تأثيره على قرّاءه الشباب كانت تكمن في تمرين الآلة العقلية لديهم، فتكون لديهم بذلك قدرات مستقلة على الفحص والنظر والمتابعة. فما قدمه الجابري من نقد للعقل العربي، أو ما كتبه أحمد أمين من تاريخ عقلي للإسلام، أو ما كتبه هاشم صالح عن التجارب التاريخية للتنوير الغربي أو الإسلامي، تكون كلها أعمال تساعد المتلقي على رؤية التاريخ عبر خرائط ونظريات ومناهج، عوضاً عن أن يقرأ بسطحية كأحداث وقعت وانتهت. وقد لاحظت لدى بعض الناقدين استياءهم من كثرة قرّاء الجابري من الشباب، وكثرة ترديدهم لجملة quot;هؤلاء الذين غرر بهم الجابريquot; وهذه الطريقة تعكس بشكل صارخ طريقة التفكير، ومنطق الوصاية لدى هؤلاء، حين يتحول الفكر إلى مجرد غرر وغواية وهوى، وحين يكون الناس لديهم كالصبية التائهين، يحتاجون دوماً إلى من يأخذ بأيديهم ويقوم بتعليمهم كيف يعبرون الشارع.

والفيلسوف الأنكليزي كارل بوبر كان قد كتب بكثافة عن المنهج العلمي، مميزاً له عن الأيدلوجيا، وفي كتابه الذي قًدم إلى العربية تحت عنوان quot;بؤس الأيدلوجياquot; يرى أن الأيدلوجيا غير صادقة في تنبؤها بالمستقبل وإعطائه مساراً معروفاً ومحدداً كما تزعم دوماً. ويستند في هذا على فرضيته أن التاريخ مرهون بالمعرفة الإنسانية، فالمعرفة كما هو معروف تنمو بطرق مختلفة، وهي غير محتواة من أحد. فلا أحد منا يستطيع أن يعرف مثلاً إلى أين سيصل العلم في السنوات الخمس القادمة. لقد كان المنهج العلمي طريقة ووسيلة ومغنم للبشرية، ولم يكن الدين ليضيق عن احتواء للإنسان وتصوراته وطرائقه، ولم يكن الدين ليشكو أيضاً من قلة في وفرته وخصوبته، وفي جوهره لم يكن ليقبل أن يتم تحجيمه وفق تصورات وانطباعات أحد، فيكون ديناً بحجم أيدلوجيا. ولمثل هذا كان نيتشه ينتقد المسيحية حين ألبست الشكل الصراعي والأيدلوجي فيقول في كتابه quot;عدو المسيحquot;: quot;لقد حرمتنا المسيحية من مجاني الحضارة القديمة، وفيما بعد حرمتنا من ثمار حضارة الإسلام، العالم الغرائبي لحضارة العرب في أسبانيا، والذي هو في الأساس أكثر قرباً إلينا من روما واليونانquot;.

والآن ماذا سيكون الحال؟ لقد ذكر غير واحد من المتابعين أن العقود السابقة كانت صراع قوميات، والعقود الحالية تتضمن صراع أيدلوجيات، أما الأوقات المقبلة فستشهد صراعاَ للثقافات. فالأيدلوجيات تتهتك حبالها، وتسقط حيطانها الآن، فالعالم لايساير الكيانات المغلقة طويلاً، وبمعنى آخر لن يكون الناس مقيدين بها بنفس الأوضاع السابقة. وحين يأتي زمن الثقافات سيكون التسيد من نصيب من يرث ثقافة خصبة، منفتحة، وطلقة، وليس من يرث ثقافة فقيرة ومحجّمة بسبب أنها وضعت ولفترة طويلة في قالب أيدلوجي.
[email protected]