السرعة هي إحدى الصيغ المتعددة لعالم اليوم. أصبح الكل مؤمنين بها كعقيدة، والكافر بينهم من يتوقف ويتباطأ ليلم شتات نفسه. تلك التي ترنحت وتهاوت بفعل هذا العالم المتسارع. فكل ما يحدث حول الإنسان الآن يحدث بسرعة كبيرة، فهو يرسل رسالته في لمح البصر، ويشاهد لحظياً ما يحدث في أرجاء العالم، وتتنافس الشركات على خطب وده عبر تقديم الوعود بتحقيق المزيد والمزيد من السرعة. وكما أن أمنا الأرض تلهث بلا راحة في سديمها المكوكي، يلهث أبناؤها أيضاً في سديم لا نهائي من مشاغل وتصاريف حياتهم، تلك التي لا تنتهي حتى بموتهم. وهكذا تكون الصورة المشاهدة للإنسان اليوم هي إنسان الضجر واللاطبيعة واللاهدوء. وللسرعة دور رئيس في خلق هذه الصورة المشوهة عنه، فهي تولد لديه الشعور بالضغط والنقص والاحتياج الدائم، والطمع الذي لا يرتوي. وهذه هي صورة الإنسان الرأسمالي الذي -وللأسف- أصبح النموذج المُحاكَى عالمياً. والقلة هم من يغضبون من هكذا وضع، أمّا الأكثرية فلا يكترثون، فما من أملاك لهم في عالم التجريد يتحسسونها ويخافون عليها. وفي بداية روايته quot;البطءquot; يتحسر ميلان كونديرا quot;لم اختفت متعة البطء؟ آه، أين هم متسكعو الزمن الغابر؟ أين أبطال الأغاني الشعبية الكسالى، هؤلاء المشردون الذين يتسكعون من طاحونة إلى أخرى وينامون تحت أجمل نجمة؟ هل اختفوا باختفاء الدروب الريفية والحقول والغابات والطبيعة؟quot;.
وهناك ما هو مشاع من الأشياء والأفكار والمُثل التي أصبحت ممتهنة ومزيفة بسبب كثرة التصاق الناس بها، فتكونت لها هالة سلطوية تجعلها مصدر نهب واستلاب وحاكمية على البشر بدل أن تكون محكومة بهم. قل مثل ذلك عن العمل، والثروة، والتطور، والعقلانية، وكثير غيرها. ولذا كتب شيخ الفلاسفة برتراند راسل مقاله quot;في مدح العطالةquot;. فحسبه، إنسان العصر الحديث يعمل بشكل مبالغ فيه، وقام بتحويل العمل إلى قيمة بحد ذاته، ولذا يكون من الأفضل أن يقلل الإنسان من عمله، ليحصل على فرصة أكبر من العطالة والكسل. فيتاح له أن يجد نفسه التي تاهت منه بسبب كل هذا العمل والضغط. وكتب أيضاً فيلسوف عصر النهضة إيراسموس كتابه quot;في مدح الحمقquot;. ممتدحاً للجنون والحمق في شخصيات عديدة متنوعة، فعلى ما يبدو أن لكل سهمه منهما. ويظهر أن هدفه الأساس كان الانتقام بطرافة من كل تلك القامات المزيفة في عصره؛ من يظن أحدهم أنه خدن للعقل منذ ولادته.
والسرعة في انجاز الأمور والخدمات شيء جميل ومطلوب، لكن المشكلة حين تنتقل هذه الصفة من الآلة لتلتصق بالإنسان. فتقوم باستلاب روحه وتشويهها. فالروح الإنسانية في الأصل لها وقع يأتي متهدلاً ببطء، كرتم نشيد مقدس. ولا يليق بها أن تثلم نفسها بالعجلة والارتباك. فالوقع السريع للعالم الآن وقع طارئ، متشنج، ونزق. أفسد المزاج، وأفسد الروح والأخلاق، وحرم الإنسان من الهدوء، الذي لا تقر الروح بدونه. ولم تكن مسألة السرعة مسألة مهمة ومقلقة لأحد من أسلافنا فيما سبق، اللهم إلا إن كان من العدائين المتصعلكين كالسليك ابن السليكة. والسرعة كابنة للعالم الصناعي، كانت قد انتقلت من قطاع الخدمات والتكنولوجيا لتتعمم على بقية جوانب الحياة، فتخنق كل ما هو إنساني وطبيعي. حين أصبح الناس يعيشون داخل هذا quot;السياج الحديديquot; كما اسماه ماكس فيبر. ومن نفس منظور هذا العالم الألماني، كتب عالم الاجتماع الأميركي جورج ريتزر كتابه quot;ماكدونالدزية المجتمعquot;. شارحاً ومفسراً للدور الذي يلعبه ماكدونالدز وأَضرابه من الشركات في تغيير العالم اليوم ونشر خصائصها فيه. فهذه الشركات تعتمد السرعة والأرقام والآلية لتحقيق أكبر قدرة إنتاجية في أقل وقت ممكن، وهي معايير ذات طابع غير بشري، ولكن مع ذلك تسربت ثقافتها إلى المستهلك، وأصبحت طريقتها طريقته، فالركيزة الأساسية لوجود ماكدونالدز هي أن الناس لا وقت لديها لتطبخ طعامها، بل حتى وقتها للأكل أصبح قصيرا جداً. ودلل الكاتب على أمثلة متعددة وجوانب مختلفة من الحياة تعمم عليها هذا الطابع، ومن ذلك مثلاً الصحة والتعليم. فكثير من أساتذة الجامعات وتحت ضغط السرعة في تسليم درجات الطلاب، أصبحوا يستخدمون نموذج اختيارات يتم تصحيحه عبر الكمبيوتر، مما لا يتيح تغذية راجعة بينه وبين التلاميذ. وقد بينت هذه الدراسة حقائق مثيرة ومؤلمة عن هذا النسق الاجتماعي الحديث، ولكن مع ذلك يظل الكاتب محتفظاً بالأمل، كما عبر في آخر كتابه، في أن يكون لدى الناس القدرة على الوقوف والممانعة ضد هذا التغير الطارئ على أسلوب حياتهم.
وللكاتب الكندي جورج وودكوك مقال كلاسيكي اسمه quot;استبداد الساعةquot;. ويقول فيه أن الساعة هي أكثر آلة أحدثت تغييراً راديكالياً على وجه العالم الحديث. فالناس والحضارات قبل ذلك ولآلاف السنين كانوا ينظرون للوقت على أنه حركة طبيعة، حيث يدركونه من خلال الشمس وتعاقب الفصول، وليس كأرقام كما هو حالنا الآن. ومع أن الإنسان صنعها لخدمته، إلا أنه وقع تحت سطوتها، كحال فرانكشتاين مع وحشه الذي صنعه. ويقول أن وقوع الإنسان تحت استبداد شيء من صنعه أشد سخفاً من الوقع تحت استبداد شخص آخر. وبحسبه أيضاً يحدث أن تخترع الحضارة ما يقوم بتدميرها، فالساعة التي أطلقت في العصر الوسيط، مهدت للمجتمع الرأسمالي الذي نسف ملامح المجتمع السابق، كما هو الحال عندما أخترع الصينيون البارود، وأستخدم لتدميرهم في القرون الوسطى. لقد كانت الساعة أول دلالات عصر الآلة، ومع دخول هذا العصر اختزل العالم في آلة، واختزل الإنسان كمسمار في هذه الآلة. فمن أهم الشعارات الرأسمالية المعروفة quot;الوقت هو المالquot; مما يفسر ارتعاب الإنسان حين يصرف وقته في المجتمعات الرأسمالية، وكأنه سيقوم بتبديد أمواله. لقد قاموا بتجسيم الوقت وإعطائه قيمة مادية، وهذا ما سلب منه القيم المعنوية والروحية. والمشاهد لدينا في العالم العربي أننا لا نعيش السرعة في الإنتاج ولا في العمل، ولا نعيش تحت ضغط الساعة، ولكن ومع ذلك تنتشر في مجتمعاتنا كل العلل والأمراض التي تنتج من التعلق بالسرعة والنزق. فلا تجد من يريد أن يقود سيارته بهدوء، ولا من تستطيب نفسه انتظار دوره في الصف.
ويحتاج الإنسان إلى البطء، كما يحتاج إلى ذنوبه، ليبقى إنساناً. فالبطء التصاق بالذات، وعودة إليها، وهو ضرورة للالتقاط، التقاط الإنسان لما يريد من عوالق الحياة، وانتقاء لحظاته، بإعطائها زخماً من وعيه ونفسه، وجعلها تتمدد كما يريد. فللحظة الآنية قوة وغور، ولكن كيف يدركه من لا يؤمن بها، ومن يمرق عبر سطوح اللحظات كالهارب الذي لا يستريح. ويكون إنساناً مسكيناً ذلك المخطوف الذي يتصرف بسرعة في كل لحظات يومه، فهو لن يجد الراحة أبداً حتى ولو في ساعات نومه. فالراحة وقت النوم لهذا النوع من الناس هي راحة مصطنعة، فالكثير قد ينام لفترة تصل إلى ثمان ساعات، ومع ذلك يصحو صباحه بأعصاب نصف متشنجة. ولذا يقول عالم النفس يوسف ميخائيل أسعد: quot;وظيفة النوم وظيفة اجترارية وليست تطهيريةquot;. بمعنى أن الإنسان وقت نومه يسترجع ويجتر نفس مشاعره ومنهجه في يومه، ولا يحصل على بيئة مغايرة. ولذا فالبطء فضيلة، ويستحق المدح من أوجه متعددة. وفي المجال الروحي والتعبدي قيل أن أخص خصائص المؤمن تكون quot;السكينةquot;، وفي الفلسفة والفكر قيل من سالف الأيام quot;خمير الرأي خير من فطيرهquot;.
وسألت صديقي الذي يحب دوماً أخذ دورات تدريبية في تطوير الذات وفنون التأمل، ما الذي تغير فيك بعد هذه الدورات؟ قال لي وهو يبتسم: لقد أصبحت أفعل الأشياء ببطء. وكنت ألاحظ هذا جيداً فيه، كيف أنه أصبح بطيئاً يريد امتصاص نخاع كل لحظة، وكيف أن الابتسامة تظل متجمدة على شفتيه كابتسامات الدمى.
وأمضيت مؤخراً فترة جميلة مع كتاب الفيلسوف الصيني لين يوتانج quot;أهمية الحياةquot;. ويوتانج كان قد درس الفلسفة في جامعة هارفارد في منتصف القرن العشرين، وأمضى هكذا حياته بين أميركا والصين. ولذا كان الكتاب ممتعاً حين أخذ يعقد المقارنات بلغة بسيطة وجميلة بين نظام الحياة في الصين تلك الفترة، مقابل نظام الحياة الأميركي الضاغط على الإنسان في سبيل العمل والإنتاج. ففي الصين لم يكن الناس يعيشون هذا الضغط، ولم يذهبوا بعيداً في جدية الحياة كالنظام الغربي المنهك للإنسان، وفلسفة الإنسان الصيني البسيط لديه هي أهم من فلسفة لاوتسو وكونفوشيوس، فالصيني لا يأخذ الحياة بجدية، وهذا من أسباب سعادته، حين يقل حرصه عليها، وارتباطه بها. وتحقيق الرضا أمر بسيط، وليس بصعب المنال، فهو يتنقل في الحديث عن جماليات ومتع مختلفة بسيطة وموجودة أمام الإنسان في كل لحظة، في الطبيعة، في المنزل، وفي السفر، ومع الذات ومع الآخرين، بل وحتى في شرب الشاي، وفي النهوض من السرير. وأكثر ما ينتقده يوتانج على الأميركيين كشاهد عاش بينهم هو وقوعهم تحت ضغط الوقت، حين أصبح كل واحد منهم ساعة متنقلة، وينتقد حرصهم البالغ على تقسيم أوقاتهم، مما يجعلها تتفتت بين المشاغل المختلفة. ويقول في لفتة طريفة: quot;أمر مؤلم أن يفقد رجل في منتصف العمر القدرة على التسكع والتبطّل بين أوقاته، أمّا حين يفقد هذه القدرة رجل كبير في السن فهذه جريمةquot;.
وفي روايته المذكورة، يرشح ميلان كونديرا أن يكون هناك ارتباط بين الذاكرة والبطء. فالإنسان عندما يريد أن يتذكر شيئاً يقوم تلقائياً بتبطئة حركاته، ويكون العكس عندما يريد أن ينسى شيئاً ما، فتجده يتحرك مسرعاً بخطاه وحركاته كأنه يريد الهرب. ولذا ربما يصح لنا أن نقول أن وحدهم من يعيشون الحياة ببطء، هم وحدهم من يخرجون منها بذاكرة. ووحدهم من يخرجون منها بذاكرة، هم من يخرجون منها بابتسامة.
نص الملحمة التالية جاء في quot;زورباquot; لكازنتزاكي:
quot; أذكر صباح يوم اكتشفت فيه شرنقة في قشرة شجرة، في اللحظة التي كانت فيها الفراشة تحطم الغلاف وتتهيأ للخروج وانتظرت فترة طويلة لكنها تأخرت وكنت مستعجلاً وبعصبية انحنيت وأخذت أدفئها بأنفاسي، كنت أدفئها بنفاد صبر، وبدأت المعجزة تتم أمامي بأسرع مما تتم عادة. وانفتح الغلاف وخرجت الفراشة تجر نفسها جراً، ولن أنسى مطلقاً الشناعة التي شعرت بها عندئذ، فجناحها لم يكونا قد تفتحا بعد، وراحت تحاول بكل جسدها الصغير المرتعد أن تنشرهما، وأخذت أساعدها بأنفاسي، وأنا منحنٍ فوقها، لكن عبثاً، كان لابد لها من نضج بطيء، ولا بد للأجنحة من أن تنمو ببطء تحت الشمس، أما الآن فقد فات الأوان، لقد أجبرت أنفاسي الفراشة على الظهور مثخنة، قبل موعدها وارتجفت يائسة، وبعد عدة ثوانٍ ماتت في راحة يدي.
هذه الجثة الصغيرة هي أشد ما يثقل علي ضميري الآن، لأن اغتصاب القوانين الكبرى، وأنا الآن أفهم ذلك جيداً، خطيئة مميتة، يجب ألا نستعجل، ألا نفقد الصبر، وأن نتبع بثقة ذلك النسق الأبدي.quot;