المفهوم ببساطة هو الصورة الذهنية التي نرسمها عن الأشياء، سواء المجرد منها أو المحسوس. والكثير من الأشياء يتم فهمها وإدراك ملامحها عبر التآلف معها لمدة من الزمن، ثم يتم إعطاؤها وصفها اللغوي. وإذا كان إدراك المفاهيم يتشكل عبر الزمن، فإن التعريف اللغوي للمفاهيم ما هو إلا عزل للمفهوم عن بعدها الزمني. يحدث هذا خصوصاً في التعريفات الغير مسئولة، وفي الانطباعات المعممة، التي يعتادها الناس رغبة في ملء الفراغ، وجنوحا للأسهل والأقرب.
ومن هنا نجد أن المجتمعات قد تتصاحب مع مفاهيم، وتتعادى مع أخرى، فعلى سبيل المثال المجتمع الشرقي لا يبدو متآلفاً مع مفهوم التغيير كالمجتمع الغربي، كما أنه يبدو مغترباً عن مفهوم الحرية والذي يحتضنه الغرب بقوة، مع أن المفترض ألا يعاني العربي من قلة وخمود في تناول هذا المفهوم، فلا دينه ولا ثقافة صحرائه منذ القدم كان لديهما شح وفقر في تناوله. ولكن الحال أن الذي تغلب هو الصورة الملتصقة في الأذهان عن هذا المفهوم، حين اعتبرت الحرية مرادفة دوماً للتسيب والإباحية واللامسؤولية، فمورس لدينا الإمعان في قدح هذا المفهوم، لأنه يبدو لنا كجزء أصيل من مكوّنات الغرب، فهو الآخر الذي يعتبر quot;جحيماًquot; بوصف (سارتر). وإذا كنا نعتبر الآخر وما يلتصق به جحيماً، فهذا يعني أننا وبالمجان سنضحي بالكثير من المفاهيم، ونفقر ثقافتنا بأيدينا، مادامت الثقافة دوما ترتكز على المفاهيم وحيويتها. وما نقوله هنا عن التغيير والحرية ينطبق على الحداثة والديمقراطية وغيرها من المفاهيم التي تمت محاكمتها ومن ثم رفضها على نطاق واسع ثقافياً.
وعادة ما يكون المفهوم حيوياً وجدلياً، ومستعصياً على الحشر في علبة التعريف اللغوية. ومحاكمة مفهوم ما تتطلب إعطاءه صفة وصبغة دائمة، وهذا ما لا يستقيم. فمن يستطيع المحاجّة أن التغيير كمفهوم يكون أمراً سلبياً أو إيجابياً في كل حال؟ وكثير من العلماء المعتبرين يعانون حين يقومون بتقديم تعريف لمفهوم ما، فهم يدركون أن الكثير من المفاهيم تعجز العبارة عن احتوائها، ولذا يقدم بعضهم الاعتراف أن التعريف يعطي ملمحاً لا أكثر. فالمفهوم لم يولد لأن أحدهم جلس على طاولته وقام بكتابة تعريفه عبر الكلمات، بل هو عملية حيوية موجودة على أرض الواقع قبل إعطائها التعريف، وباقية بعده. ويكون الوقوف على اللفظ فقط لإدراك المعنى ضياع وهلكة كما قال الإمام أبي حامد الغزالي، وهذه هي مشكلتنا تحديداً كأمّة تقدس الألفاظ، فالكلمة أصبحت لدينا هي مصدر المعنى والحاكمة على الفهم، فتم بذلك حشر المفاهيم وتحجيمها وإماتتها، بإعطائها حكماً نهائياً، ثم جعلها جسداً متخشباً لا تصلح للتداول في حياة الناس اليومية وأفكارهم. هكذا تشرّب الناس صورة جامدة عن الدين، وصورة جامدة عن الحياة، بكل ما فيها من تصاريف وتنوع.

كان الإمام الشاطبي (ت القرن الثامن الهجري) يصف الشريعة بأنها كالجسد الواحد، تتكامل مثل تكامله. وقد يوجد من نصوص الشريعة ما يعارض مقاصدها، فلذا شدد العلماء على استحضار روح المقاصد حين التعامل مع النص، فالجزء بوجوده المنفرد قد يتعارض مع صورة الكيان ككل. فهنا تتبدى خطورة الإدراك الجزئي، حين يمارس الجزء طغيانه وتمدده خارج مساحته. ونستطيع أن نطبق بعضاً من هذا الأمر على المفاهيم، فصحيح أن المفاهيم لاتتكامل، ولكن كل واحد منها يكون متعدد الأوجه والأحوال، ولا يقر على وضع مستديم، ولذا إدراك جزء منه أو وجه من وجوهه، لا يعتبر إدراكا له، بل بالأصح إدراكا مشوها له. ويوجد في العلوم الإنسانية مصطلح Triangulation وهو يعني النظر للمفهوم أو الفكرة من خلال أكثر من زاوية ووجه ليتم الحصول على أفضل فهم ممكن.
والعقلية التي تشكلت في زمن سابق، تختلف بالتأكيد عن العقلية التي تشكلت في زمن آخر لاحق. وإبقاء المفاهيم على نفس شكلها السابق الذي صاغته العقلية السابقة، لا يعني إلا سلطوية وهيمنة غير مشروعة لعقلية على أخرى. والثقافة التي تخشى على نفسها من التغير، تقوم بحبس مفاهيمها في أطر معينة وتحرسها من التغير - وهو الذي يكون لازماً لها- فتصبح ثقافة قاصرة لا هنا ولا هناك.
كما أن المفاهيم الرائجة في أي مجتمع تكون هي مفاهيم نخبته، وطريقتها في الفهم. فمثلاً مفهوم الغرب لدى الفرد الإيراني في عهد الشاه، يختلف عن مفهومه عن الغرب بعد الثورة الإسلامية هناك، مع أن الغرب هو الغرب، والفرد هو الفرد، لكن النخبة الجديدة تصرفت كما تتصرف النخب وساقت الفرد ليفهم الوجه الذي تريد.
ويعتبر التغيير كمفهوم أكثر المفاهيم جدلية، وإثارة للتفكير والتساؤل، فقد تجد الجليس مع جليسه، أحدهما يشكر الله على أنه تغير، والآخر يحمد الله على أنه لم يتغير.
وخطوة التغيير الأخيرة في الحكومة السعودية، والتي تمت في مجلس الوزراء وفي الهيئة القضائية والدينية العليا، ينطبق عليها الوصف أنها جعلت الحديث عن التغيير يأتي محمولاً على أعلى موجة. ويكون الوقت الآن مبكراً للحديث عن نتائج هذا التغيير، لكن ما نستطيع ملاحظته والحديث عنه الآن هو ما أحدثه هذا التغيير من تقبل لمفهوم التغيير نفسه. فتطبيق هذا المفهوم من القيادة العليا في البلاد يكون محرضاً ومعدياً للجميع حتى يقوموا بتفعيل هذا المفهوم وتطبيقه في ميادين متعددة. خصوصاً أن التغيير الأخير كسر عدة حواجز كان يبدو أنها غير قابلة للتغير، ومن ذلك تعدد المذاهب في المرجعية الدينية العليا، وأيضاً تقلد المرأة لمناصب عليا في البلاد.
إن تبني مفهوما من الأعلى في مجتمع ما، يمثل أهم خطوة عملية تستطيع نشر هذا المفهوم وإعطاءه بعده الوجودي في المجتمع، خصوصاً في حال الدولة الريعية، والتي يعتمد عليها الناس بثقل في خدماتهم وأحوال معاشهم. وقد قيل من قديم quot;الناس على دين ملوكهمquot;. ولأبن الأثير في تاريخه كلام عن تأثر الناس بحكامهم. فبعد حديثه عن وفاة الوليد بن عبد الملك، قال ابن الأثير quot; وكان ndash;الوليد- صاحب بنا واتخاذ المصانع والضياع، وكان الناس يلتقون في زمانه فيسأل بعضهم بعضاً عن البناء، وكان سليمان صاحب طعام ونكاح، فكان الناس يسأل بعضهم بعضاً عن النكاح والطعام، وكان عمر بن عبد العزيز صاحب عبادة، وكان الناس يسأل بعضاً عن الخير ما وردك الليلة وكم تحفظ من القرآن وكم تصوم من الشهر؟quot; وكلام ابن الأثير هنا قد لا يخلو من مبالغة، لكنه يعرض لنا بالتأكيد وجها مهما لملمح اجتماعي بارز، لازلنا نشهد آثاره حتى اليوم.