quot;أميركا كانت تتصرف بغرورquot;، كان أجمل ما في هذا الاعتراف الذي ساقه أوباما أمام الجميع في رحلته الأوربية أنه اعتراف مستقل، يقف لوحده. أي أن أوباما لم يسند ولم يبرر هذا التصرف كعادة الناس حين يعترفون على مضض فيقولون: نحن فعلنا كذا لأن الآخرين فعلوا كذا. وأفضل ما في الاعتراف المستقل، انه ينفصل عن الماضي، ولا يستجدي الذاكرة، لأنه ببساطة، خطوة تنحاز إلى المستقبل. واعتراف أوباما هنا له دلالة مهمة، وهو أن أميركا لا زالت (تتشبب)، وتستفيد من ميزة مهمة للديمقراطية، وهي التخفف من التركة السابقة، والقدرة على تغيير المسار.
لقد اتهموا أوباما أنه ضعيف، متملق، وغير واقعي، ووصفه الرئيس الفرنسي ساركوزي مؤخراً بأنه قليل الخبرة، حيث لم يسبق له أن يتقلد أي وزارة. وبالنسبة لي اعتقد أن هذا أفضل بكثير، أن يأتي شخص بلا خبرة، ولا تجربة عميقة تقوم بتكبيله. فعادة، أفضل من يستطيع أن يجترح الحلول الجديدة، هم أولئك الذين يأتون بنفَس جديد، وذاكرة طريّة، وصفحات غير مسوّدة. ولو لم يكن الرئيس الجديد ذلك الشاب قليل الخبرة، لربما لم يكن ليطرق هذه المسار الجديد لأميركا، عبر فلسفة تخالف النسق السابق، والتي من ركائزها: أن تفهم الآخرين لكي يفهموك، أن تحترمهم لكي يحترموك، وأن تتعاطى مع أفضل ما فيهم لكي يتعاطوا مع أفضل ما فيك.
ومن يتأمل تاريخ سياسة أميركا في العالم، سيشهد بعظمة النقلة التي قد تتحقق لها في عهد هذا الرئيس القليل الخبرة. فقد حاولت أميركا أن تتصرف مع العالم بذكاء أكبر من القوى الاستعمارية السابقة التي تنازعته صراحة، ومع ذلك يذكر صاحب كتاب (الدولة المارقة) أن أميركا تدخلت في العالم عسكرياً وبشكل سافر أكثر من سبعين مرة منذ 1945. أمّا سياسات التدخل الغير سافر، فأكثر بكثير، بل هي جوهر السياسة الأميركية في العالم، حيث حرصت أميركا دوماً على أن يكون لها في كل مغنم سهم. وكانت أميركا كقوة عالمية عظمى منذ منتصف القرن العشرين، حتى وصلت إلى ذروة النشوة في عهد ريغان. وفي عهد هذا الأخير زار المفكر الفرنسي جان بورديارد أميركا، وكتب كتابه الذي سمّاه باسمها، والذي تنبأ فيه أن أميركا لم تعد من بعد القوة المسيطرة على العالم، ليس لأنها ضعفت، ولكن لأن الآخرين يقوون ويستقلون أيضاً. وربما أن الإدارة الأميركية أدركت هذا الشيء متأخرة في عهد أوباما، حيث أن بوادر الاستقلال تبدت في أجزاء كثيرة من العالم. لذا كان من الأفضل لها أن يقوم رئيس شاب، قليل الخبرة، بتبني خطة جريئة، تنقل أميركا من محاولة تسيير العالم على شروطها، إلى محاولة التوافق معه على شروطه.
وفي المقابل، كنت قرأت تعليقاً لأحد الأميركيين يقول فيه quot;هذا ما كان ينقصنا، ان المسلمين يحبون الضعف، وتصرف أوباما بهذه الطريقة سيضعف هيبتنا، ويعطيهم الفرصة للعمل على تدميرناquot;. وقائل هذا الكلام يمثل شريحة كبيرة من الناس من كل طرف، ممن لا يتوقعون إلا الأسوأ في كل حال، حيث أن الأنساق الذهنية قد حفرت وانتهت. وتساءلت حينها، ألم يستطع أن يتخيل أن من الممكن أن هذه الخطوة لأوباما في التعامل بثقة واحترام، ستقابل بمثيلها من العالم الإسلامي، فتصبح الحياة على هذه الأرض أفضل بخطوة. ألا يوجد فسحة في هذا العالم الفسيح يستطيع الأفضل فيها أن يتعاطى مع الأفضل !!؟ ألم نلاحظ كيف كان العالم يغلي في السنوات الأخيرة، حين التحم الأسوأ مع الأسوأ. حين التقى محافظو الغرب الذين تؤزهم نبوءة توراتية مظلمة، مع الراديكال المسلم الذين استباحوا قتل الأبرياء عبر نصف فتوى قيلت في القرن الثامن الهجري اسمها (التترس)، والتي قامت عن طريق نفخهم فيها بتشويه صورة أمّة كاملة.
وكنت أتحدث أنا وصديق لي في الجامعة، وهو طالب أميركي، محب للطبيعة العربية والإسلامية، حول أن هذه الصورة الرائجة عن الإسلام والمسلمين في الغرب، ليست أبداً تلك الصورة العادلة. والحكايات والدلائل الكثيرة التي ذكرها الكاتب الأميركي بول فيندلي في كتابه quot;لا صمت بعد اليومquot;، تؤكد فعلا كيف أن الغرب والإعلام الغربي تعاطى لفترة طويلة من الزمن مع صورة مزيفة، ساهمت دوماً في توليد نشاط متبادل لتعقيد الأوضاع بين الطرفين. وقلت لصديقي: على المستوى الشخصي يكون لدي كفرد جوانب إيجاب وجوانب سلب، وإذا قمت بالتركيز على جوانب سلبيتي وضعفي، فأنا لن أظهر لك إلا من خلالها، وفي المقابل سأتعامل مع نفس الجزء السيئ لديك. ويكون الأمر مشابها بين الكيانات والمجتمعات، خصوصا إذا عرف واحدنا لعبة (الآخَر)، وهي أن كل كيان يستجدي وجود الآخر ليعزز موضعه، فطالما حاول الشرق أن يدرك روحانيته عبر كفر الغرب، وطالما أثبت الغرب تقدمه عبر تخلف الشرق. وربما لو تم عمل فحص داخلي مستقل لكل كيان، لرأينا كيف أن الشرق غير روحاني، وأن الغرب غير متقدم، حقيقة. وأيضاً التعاطي مع الأفضل يكون طريقة فنية وأخلاقية ومصلحية، فتعاطيك مع الجزء الأفضل في كيان ما هو تقوية له، واستعمال له ضد الجوانب السيئة الأخرى في نفس هذا الكيان. بل وحتى في داخل الكيان الواحد، تكسب الأمة التي تستدعي وتخاطب أفضل ما فيها، وهذا ما فعله الرئيس لنكولن حين خاطب أمته في أعنف أزمة مرت في تاريخها -الحرب الأهلية- قائلاً quot;علينا أن نثق بالملائكة الأفضل في دواخلناquot;.
إن أي خطاب سياسي وطائفي عقيم، يبدأ من ذاكرة مُثقلة وينتهي إليها، فهي تجعله عقيماً لأنها لا تتيح مساحة لأي مستقبليات مفترضة قد تجلب الحلول. ولأن لدى الغرب كما لدينا الكثير من السوءات، فهذا ما ولد تبادل الخوف والشك والإساءة عبر علاقة ميكانيكية مستمرة، تتناسب مع قول المتنبي quot;إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونهquot;.
وصدر في أميركا في شهر نوفمبر الماضي كتاب quot;أمير المؤمنين: حياة الأمير عبدالقادر وعهده (1808-1883)quot; للكاتب الأميركي جون كيزر (1). وتأتي أهمية هذا الكتاب الاستثنائي أنه جاء في زمن مهم ليبين للغرب، وليذكر الشرق بصورة عزيزة للجهاد، والتي تجلت في شخصية الأمير المجاهد عبدالقادر الجزائري، الذي جاهد المحتل الفرنسي في الجزائر في قتال بطولي استمر لسبعة عشر عاما، كانت مثالاً للشرق والغرب في تعلم شرف الخصومة، وكيف أنه ليس بانتصار، ذلك الذي لا يعتبر بالأخلاق والمُثل. وقد التزم الأمير عيشة المؤمن المجاهد، الذي لم يتغير فيه شيء حتى بعد أن تبدلت الظروف وتعرض للهزيمة والخيانة والاعتقال والنفي. فهذا الرجل الذي حارب المعتدي غير المسلم طيلة حياته، هو نفس الرجل الذي فتح بيته للاجئين من النصارى في الشام، وقام بحماية الآلاف منهم بعد برنامج تحريضي كان مهدداً لحياتهم، أُثر فتنة اندلعت بينهم وبين المسلمين في عام 1860، حين كان يسكن دمشق في أواخر حياته. فنفس القرآن الذي أمره بحرب أولئك، هو نفسه الذي أمره بحماية هؤلاء. ويقول صاحب الكتاب بأن إخبار مثل هذه القصة والعمل البطولي مهم الآن أكثر من أي وقت آخر، في عالم اليوم الذي يستقطب الصور المزيفة عن بعضه البعض.
ونستطيع أن نتأمل لمحة بسيطة على استثنائية الأمير عبدالقادر من خلال تأمل إحدى رسائله التي أوردها هذا الكتاب. فقد بعث له ملك فرنسا لويس فيليب يطلب منه التوقيع على اتفاقية أو يهدده بالحرب. فيأتي رد الأمير quot;حسناً، أنا لن أوقع، ومع ذلك فأنا أريد السلام والسلام فقطquot;. وبعد ذلك يستطرد في ذكر أولوية السلام وأفضليته للطرفين، ولا يتردد مع ذلك أن يخبره أنه مستعد أيضاً للمحاربة، فيذكر للملك نقاط القوة التي لديه، والتي يكون من أهمها أن quot;عون الله بجانبه، حيث أنه ناصر المظلومين.quot; ويختم بالقول quot;وليوفق الرب جنودك يا جلالة الملك إن قاتلوا لسبب عادل.quot; ونلاحظ هكذا كيف كانت عدم حديّة الأمير، وكيف كان واعياً متزناً في تعامله، فهو لم يكن ليرضخ، وفي نفس الوقت لم يكن زعوماً ومزايداً متعدياً على الظروف الطبيعية له ولقومه.
وقد قال لي صديقي جردان، وهو ابن لسيد إحدى القبائل في اليمن، كيف أن والده قام بالتصالح مع قبيلة أخرى، وقام بتسميته على اسم تلك القبيلة، منهياً لسنين طويلة من الألم والمعاناة المتبادلة بينهم. ويقول أن الجزء الأصعب على والده لم يكن في الصلح نفسه بقدر ما كان في المواجهة والممانعة العنيفة التي حدثت من داخل القبيلة نفسها تجاه هذه الخطوة. فكالعادة يقوم الكثيرون باجترار الذاكرة المثقلة باطروحات الخصام والسجال، ويقفون ممانعين ضد تحقيق مثل هذه البادرة وهذه القفزة. وشجاعة القائد ليست في مواجهة العدو، فهذا نصفها، ونصفها الآخر يكون في مواجهة نفسه وقومه. وطالما كان الجمع والتقريب صفة أصيلة من صفات القادة، فتفريق الناس قد يقوم به أي أحد، أمّا جمعهم فلا يقوم به إلا السادة، والقلوب الكبيرة، التي هي حاضنة الفرقاء. وقد امتدح النبي عليه الصلاة والسلام هذه الصفة في حفيده الحسن، حين قال quot;ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمينquot; (صحيح البخاري).
إذن، فليوفق الرب جهودك يا أوباما، في سحب الجيوش، وفي مصافحة العالم. وليوفق الرب أيضاً جهودك يا خادم الحرمين الشريفين، فلقد شهد الآخرون قبل أن نشهد لك نحن، بأن يدك هي اليد الواصلة، التي امتدت لتجمع العرب أنفسهم، قبل أن تمتد مع غيرهم.

(1) John W. Kiser. 2008. Commander Of The Faithful، The Life and Times of Emir Abd el Kader - A Story of True Jihad. Monkifish Book Publishing.