اختتم في السعودية مؤخرا المؤتمر الوطني الأول للأمن الفكري، والذي شارك فيه عشرات الباحثين والأكاديميين من الذين قدموا بحوثهم ورؤاهم لمناقشة الجوانب المتعلقة بهذا الموضوع. وكما هو معروف فإن الأمن الفكري لأي دولة وأي مكان هو مطلب عزيز لا يُساوم عليه، فعدم الأمن الفكري هو تهديد وانعدام لأمان كل شيء آخر. وهذا مما يجلي أهمية الفكر، حين نعرف أنه الحاكم والسابق على أي وجود مادي فعلي على أرض الواقع. وأي انحراف مادي على أرض الواقع لابد أن يكون مسبوقاً بانحراف فكري يمهد له الطريق. وقد ذكر مالك بن نبي أن عالم الأفكار أهم من عالم الأشياء، لأن الأول هو الذي يجلب الثاني وليس العكس. وفي الثورة والنهضة الصناعية والاقتصادية التي قامت في العالم نجد أن ثورة الفكر كانت سابقة عليها وجالبة لها.
وبجانب كونه مفهوماً مهماً، نجد أن مفهوم الأمن الفكري لايخلو من جدلية كثيفة. ومثال هذا، ذلك الجدل المستديم بين من يرى أن طريق تحسين الفكر وتعزيز موقعه وأمنه يتم عبر طريق التحفظ، وبين من يرى أنه يتم عبر تبني الانفتاح. وما يقابل الأمن الفكري هو الاهتزاز والاختلال الفكري، حين يجنح الفكر ويكون مسبباً ومنتجاً لما هو غير مشروع على أرض الواقع. وتعرض الفكر لتهديد أمنه لا يتم فقط عبر المغاير والدخيل، بل في أحيان أخرى يتعرض الفكر للخطر من نفسه، حين لا يعيش مرحليته وحين يفقد تماوجه الزمني والطبيعي. وفي هذا تطبيق مهم لمنهج النقد الذاتي، كما هو الأمر حين نقول للفرد أن ما أصابك هو من عند نفسك أكثر مما هو من الآخرين. وشرط المرحلية هو شرط مهم لأي فكر، فالفكر عملية حيوية، يخوض دوماً عملية توليد، وينسج نفسه في تجدد دائم، وأي محاولة لتجميده عند نقاط زمنية معينة هي إماتة له، وإماتته وافقاده لحيويته ليست دلالة أمان أبداً. والتجارب الماضية، والأفكار والمفاهيم الناجزة، يحدث أن تكون هي العقبة الكَؤود في طريق الفهم والفكر، تماماً كما هو الحال حين يقال لنا كأفراد أن نحذر من نجاحات الماضي، فنجاحات الماضي هي عقبات المستقبل. ولا يوجد شيء يهَب إلى الكسل الذهني والطفولة العقلية، مثل أن يقال أن كل شيء قد قيل وأنتهى، ولاحاجة لخوض التحدي والمسؤولية أمام العقبات والمعضلات التي تطرأ.
ونستطيع القول أن سطوة الزمن قد بسطت يدها على كل تيارات الفكر الإسلامي، ونجد أن ثقلها واضح التأثير خصوصاً لدى الفكر السلفي، بل تمثل ركيزة أساسية لديه منذ أن قال الشافعي في كتابه (الرسالة): quot;لم يجعل الله لأحد بعد رسول الله -عليه الصلاة والسلام- أن يقول إلاّ من جهة علم مضى قبله.quot; وهذه المقولة تقيّد المصدرية بالماضي صراحة، بجعله مصدراً وحيداً للمعرفة والعلم، وتربط بهذا فكر الأجيال وأحكامها بأحكام وفكر الأجيال السابقة. ومع مرور الزمن كان هذا الماضي يشتد ثقلاً حتى أن إرث القرون أصبح مزاحماً في مصدريته لمصدرية صدر الإسلام والوحي. إن منطق السلفية يقف غالباً على الضد من المرحلية، وهذا مالم يجعله قوياً مرناً قابلاً للتأثير والتأثر، فالفكر الذي لا يعتبر بالمرحلية لا يكون فكرا بل يتحول إلى دوغما لا تتعاطى مع الأحوال والأفكار بل تحتك وتصدم بها وتهشمها وتتهشم بها. والأخذ عن التطبيق السلفي الناجز لا يختلف عن الأخذ عن مثيله الغربي، فما نحتاجه في المقام الأول هو تحسس الواقع وطبيعته بتجرد والالتصاق به والتخفف من غيره مما يختلف عنه مكاناً أو زماناً. إن تقصي مراحل الانكسار والانحدار في تاريخ الأمّة يخبر أنها تحدث حين يتخشب الفكر ويفقد مرحليته فلا يختلف عن سابقه، وهو ما يفتح المجال بقوة أمام التصرفات الغير عقلانية التي تتهدد الأمن وصلاح الأحوال. إن الإبداع والتحفز والنهوض أمور لا تبنى إلا على حالات استثنائية متفوقة، لا تتأتى للإنسان في بيئة المحددات والروابط والتقييد، يقول الشيخ طه جابر العلواني quot;فالإبداع الإنساني والاجتهاد الإنساني لايمكن أن يتم وبين أيدينا ملايين الكتب من مخطوط، ومن مطبوع، نحمّل أنفسنا مسؤولية تبنيه، والدفاع عنه، والرجوع إليه، واقتباس الحلول منه إلى غير ذلكquot; (الفكر الإسلامي المعاصر: مراجعات، 139).
إن المعرفة عملية بناء وإضافة مستمرة، ولاتتم بولادة واحدة، وأكثر ما أنجز فيها تم عبر التمرحل والانتقال من خطوة إلى أخرى. ووجدت في كثير من مقالات المجلات الأكاديمية في الغرب لفتة رائعة، وهي أن صاحب البحث بعد أن يكتب خاتمة مقاله، يضع قسماً اسمه quot;نقاط للباحث المستقبليquot; يوضح فيها بعض جوانب النقص والاحتياج في الموضوع لكي يأخذها في الحسبان من يبحث فيه مستقبلا. فهكذا العلم والفكر، تحسس وترقب وإدراك للنسبية والقصور... فحتى التاريخ نفسه كما قيل لا يكتب مرة واحدة.
إن السلفية ليست صورة واحدة في كل حال، فهناك نماذج منها تستلهم روح الإبداع والأصالة في آن واحد، وتضمر بداخلها نوعاً من التجديد. ومن هذا ما امتدحه محمد عابد الجابري في السلفية المغربية لدى علّال الفاسي، لأنها قادت معركة التحديث عبر تركيزها واهتمامها بفكرة المصلحة ومبدأ المقاصد، ولم تكن جامدة على التقليد كمن جعلوا السلفية مذهباً ماضوياَ فقط. وتجديد السلفية تمثل لدى الجابري في quot;العودة إلى نقطة مضيئة ليس من أجل الماضي نفسه، بل من أجل التحرر مما تراكم من انحرافات وظلماتquot;، كما جاء في كتابه (في نقد الحاجة إلى الإصلاح). وهذه نقطة جميلة، لولا أننا نتساءل ماذا لو كانت العودة إلى نقاط غير مضيئة ؟! فهذا مما يقع ويُشاهد. فكل فكرة تقريباً لا تعجز عن إيجاد الامتداد الزمني لها، وبجانب كون هذا الامتداد تقوية للفكرة، فإنه أيضاً وفي أحيان كثيرة يمثل الإغلاق للفكرة والمسألة المطروحة،وإمدادها بشرعية لا تتزعزع، مما يفسر الكثير من الانغلاق والصدام الذي يكتنف الفكر، حين يستند كل طرف على مسار سابق وناجز غير قابل لا للمداولة، ولا لإعادة النظر والتطبيق والتمثل مع واقع متجدد ومتغير، ولطالما رأينا كيف أن الإسلام يحتوي والسلفية تضيق عن..!! إضافة لأن محاولة تَمثل الماضي وإعادة تطبيقه ليست إلاّ تجاهلاً للصيرورة التاريخية التي أثبتها القرآن نفسه. وهذه الصيرورة هي التحول المحكوم بالغاية من الخلق، حين تتبدل أحوال الناس من حال إلى حال. وقد بين محمد اقبال كيف أن القرآن هو معجزة الإسلام الخالدة، فهو مصدر له خاصية التجدد، حيث أن كل عصر يستطيع أن يرى نفسه، ويتدبر آيات زمانه من خلاله، خلافاً للمعجزات الأخرى التي تنتهي بوقتها.
كان الفكر السلفي ولازال رافداً مهماً ومنبعاً جليلاً من أهم روافد ثقافتنا، بل وحتى أسلوبنا في الحياة، ومع هذا لابد لنا أن نعرف في النهاية أنه دلالة من دلالات المعرفة، وليس مصدراً لها. وليس من مشكلة أن تكون السلفية ثقافة سائدة، بل المشكلة في كونها مهيمنة. فتسيد فكر ما للساحة عادة ما يتأتى بطرق طبيعية، لكن الهيمنة لاتتيح الوجود لغيره من المناهج والطرق، فالمهيمن لا يستوعب سوى نفسه ولايتيح المجال لقراءة غير قراءته. ولا يفترض في الرأي المواجه للأثر السلفي أن يتجرد من شرعيته وصلاحيته بسبب عدم انطباق المنهجية السلفية عليه، فالرأي ليس هو محض الهوى، وإنما هو الاجتهاد على غير مثال سابق -بحسب قول السلف أنفسهم-. إن أكثر الجهد الموجود اليوم على الساحة ليس جهداً علمياً بقدر ماهو جهد سجالي لا ينصرف إلى المشكلات والنظر فيها بقدر ما يتجه إلى الخصومات والصراعات التي تستند على المسارات الناجزة. وأعرف غير واحد ممن يمتلك مخزونا سلفياً وافراً، فيوجد لنفسه المخارج، ويخلق عند غيره المآزق، متى ما أراد، عبر استخدامه لهذا المخزون.
هناك اعتقاد شائع بأن الفكر يتجه من سيئ إلى أسوأ مع تقدم الزمن، وأن أفضلية السابق على اللاحق باقية على كل حال. وإزاحة مثل هذه القناعة المقلوبة شرط لازم لاستقبال واحتضان أي تغيير وإصلاح. ومن يحمل مثل هذه القناعة بأن قادم الأيام لا تحبل إلا بالرديء، فقد أراح نفسه حيث تعب الآخرون. يقول الإمام الجويني في كتابه (البرهان): quot;السابق وإن كان له حق الوضع والتأسيس والتأصيل، فللمتأخر الناقد حق التتميم والتكميل. وكل موضوع على الافتتاح قد يتطرق إلى مبادئه بعض التثبيج -الضعف-،ثم يندرج المتأخر إلى التهذيب والتكميل، فيكون المتأخر أحق أن يتبع، لجمعه المذاهب إلى ما حصّل السابق تأصيله، وهذا واضح في الحرف والصناعات فضلاً عن العلوم.quot;

azizf303@gmail.