quot;في صحيفة اسبانية قرأت أن امرأة قد كتبت في وصيتها أنها أرادت أن يُذرى هشيمها حول مركز تسوق بعد أن تموت، لأنها قضت أسعد لحظات حياتها هناك. هل يمكن أن يجعل التسوق أحداً سعيداً؟ هل يمكن أن يكون الاستهلاك سبباً للحياة؟!!quot; هذا ما قاله الروائي البرتغالي خوزيه ساراماغو حين سئل عن الأسباب التي دفعته لكتابة روايته (الكهف)، معبراً عن سخطه من عالم الناس اليوم والذي تتجلى صورته الكبرى اليوم عبر عالم المادة وليس عالم الإنسان. وفي هذه الرواية ينتقد الروائي الحائز على جائزة نوبل (1998) مظاهر العولمة، عبر حكاية المركز الذي يشبه مول تجاري ضخم يحقق للناس كل ما يريدون وليس لديهم أي حاجة لغيره، ويكون الأمر صعبا على عجوز منعزل وبعض من عائلته أن يتكيف كما الآخرين على نظام عيش مستحدث وصناعي. قد يقال أن ساراماغو ساخط، سوداوي، متمرد، مستفز، مؤلم، فج، بغيض، لكن كل هذا لا يمنع أن يكون مايقوله حقيقة. ففي مقابلة أخرى له يقول ساراماغو إن الناس حين يأتون إلى مدينة جديدة فأول ما يسألون عنه هو مولاتها التجارية، فهي كما يبدو المكان الوحيد الذي يحقق لهم الدفء كما كانت تفعل الكهوف لأجدادهم.
والإنسان إلى اليوم لا زال ذلك المخلوق البدائي الذي تتوالى هزائمه. وإحدى هذه الهزائم تتمثل في علاقته مع ما يقتنيه ويشتريه، حتى أن فرد الجموع اليوم لا يستطيع أن يؤرخ لنفسه، ولا يقرأ سيرته، إلا عبر أشيائه التي اشتراها. فالوعي الذي تبناه الإنسان اليوم، ليس وعيه، بل وعي أضيف له، من قبل الضغط المستديم والطويل للأجهزة المؤسسية الضخمة المتطورة، فهي أبرع من يستخدم فنون علم النفس والعقل الباطن، والتي استطاعت عبرها أن تخلق في الإنسان ذلك الوعي المصطنع، الذي يكفي أن تجلبه إلى الوجود فهو سيظل يعمل لوحده بعد ذلك. ودوماً، وفي كل مواجهة كانت هذه الشركات التجارية والدعائية تطرح الإنسان إلى القاع، فهي تأتيه دوما بلبوس الصديق فيتجرد أمامها من كل مناعة وصد. ولا تكمن خطورة هذا الوعي في أنه يسرق من الإنسان محفظته، بل في أنها تسرق الإنسان ذاته، حين نجد أن رغبته ونفسه وإحساسه وإدراكه لنفسه وبعده الوجودي لا يتجسد إلا عبر أشيائه ومتعلقاته. وهكذا لازال الإنسان ذلك المخلوق البدائي الذي لايجد متعته وفرحه إلا عبر تشيؤه، وكلما استهلك وحاز قطعة جديدة في حياته، كلما أصبح يتبسم لا إرادياً كقطة. إن ربع سكان العالم واقعون في هذا الفخ، وبقية العالم ينتظرون المال والفرصة ليسيروا في الدرب نفسه. إذن ليست المسألة فقط كما قيل إن الناس يولدون أحرارا، بل في ألاّ يموتوا كعبيد أيضاً، خصوصا لتلك الأشياء التي صنعوها بأنفسهم.
لابد أن نعرف أن من تعشقوا والتصقوا بأوثانهم في أوقات سابقة لم ينظروا للأمر على أنه مشكلة، البعض الاستثنائي منهم فقط من تحسس المشكلة، ومن قرأ الوضع من خارج الإطار، فاستطاع تحطيم تلك الأصنام، ونفس الوضع نستطيع تمثله مع من يتعشقون أوثانهم في عالم اليوم، حين لا يتحسس الناس أية مشكلة، ويرون أن الخسارة غنيمة. وأحد الذين اهتموا بدراسة هذا الجانب وتأثيره على الإنسان عالم الاجتماع ليسلي سكلير(Leslie Sklair)فهو يقول في كتابه (العولمة: الرأسمالية وبدائلها):quot;إن الأيديولوجيا الثقافية التي تروجها الرأسمالية العالمية اليوم تركز على إقناع الناس على أن يستهلكوا ليس فقط لأجل ما يحتاجون، بل لإشباع رغبة وهمية خلقت من أجل دوام الإفادة ومراكمة رأس المال للمنتفعين. إن أيديولوجيا الاستهلاك اليوم تعلن صراحة أن معنى الحياة موجود في الأشياء التي نملكها. بمعنى آخر، أن تستهلك يعني أن تكون حياً، ولكي تحيا حياتك بكاملها، يجب أن تبقى مستهلكاً دائماً.quot; إذن يبدو أن الناس تنطبق عليهم اليوم مقولة quot;أنا استهلك إذن أنا موجود.quot;
ويحق للبعض أن يتساءل، لماذا لاتروج الأفكار في العالم كما تروج السلع؟!! فكما أن لدى كل مكان في العالم ما ينتجه، فبالتأكيد الأماكن المختلفة في هذا العالم المتنوع لديها ما يستحق أن يًنتج من الأفكار. لكن الحال كما يبدو أن الأفكار وان طبق عليها نظام العرض، فهي لن تحظى بالطلب، فكل إنسان قانع ببضاعته من فكره وفكر مجموعته، ويريد أن يتفرغ فقط لملاحقة بضائع السوق. والإنسان نشط جداً حيال المادة، مستعد لأن يستهلك قطع الشرق والغرب، وتجده معها ذلك المتطلع والمنفتح والمستعد للتجريب والفحص والملاحظة والتغيير، فهو الحريص دوماً على أن تكون القطعة التي لديه اليوم أكمل وأتم من قطعة الأمس. ولو كانت هذه التطبيقات تتم في مجال فكره، لرأينا كيف أن العالم يكون أخصب وأرحب. وأيضاً لايتردد أحدهم اليوم أن يخبرك بفخر أنه قد جرّب أنواع المطاعم العالمية، لكنه يشعر بالخجل والتردد والممانعة في أن يخبرك أن لديه ميلاً لفكرة جديدة عليه، فهذا مما يهدد ويجرح كيانه المصمت والمكتمل. وينطبق هذا الكلام أكثر ما ينطبق على الإنسان العربي الذي يعتقد دوماً أن أفكاره هي جزء من جسمه، لا يستطيع مباعدتها ولا التفاوض معها.
ذات مرة سألت بائعاً عن قطعة لماذا هي غالية السعر؟ فقال: لأنها مصنوعة باليد. ويبدو أن كل سلعة تلامس يد إنسان وتطل عليها روحه مباشرة تكتسب أهمية خاصة، كما أن قيمة الإنسان نفسه تستلب حين يحدث العكس، ويتجسد جمود الآلة في روحه. فمؤلم أن يصنع الإنسان الأشياء ويعجز عن صناعة نفسه. وفي عالمنا اليوم نجد أن 25 ألفاً يفقدون حياتهم يومياً بسبب الجوع الحقيقي، بينما أضعاف هذا الرقم يفقدون حياتهم معنوياً كل يوم بسبب الترف الحقيقي، حين يلاحقون طائعين تلك الزوائد الكمالية التي لاتنتهي، حين تتلهف إحداهن على تلك المجلات والمواقع التي تصنع منها غير نفسها، وحين يحرص واحدنا على شراء جهاز تلفون أذكى منه. وعلى مستوى أعمق يبدو أن مسيرة الإنسان الاستهلاكية مسيرة مستديمة، لن ينقطع عنها إلا بموته، فهو أمامها ذلك البدائي المهزوم المجرد من أي تكتيك أو حيلة وخطة مضادة، فلا هو كـquot;زورباquot; الذي أراد أن يشبع مما يريد حتى يعافه، ولا كأبي العتاهية الذي خطط لأن يعبّ من الشهوات ويتوب.
في زمانه، يحكى أن صديق الرسام الفرنسي أوغست رينوار أتى ليخبره عن اختراع جهاز جديد اسمه التلفون. وأخذ هذا الصديق يخبره كيف يعمل هذا الجهاز، وكيف أنه يساعد الناس على التخاطب من مسافات بعيدة. حينها سأل رينوار مستغرباً: يعني حينما يضرب جرس هذا الجهاز يفترض أن أترك مَرسَمي وأذهب لأجيب الآخرين وانشغل بهم، كما هو حال خادمي الذي أقٌرع له الجرس فينشغل بخدمتي!!.
مرة أخرى، فرغم سواد موقفه، إلا أن الدلائل الكثيرة لاتزال تقف في صف ساراماغو اليوم، حيث لازال الإنسان ذلك المهزوم الذي ينحو دوماً للخيارات الفاشلة. ولأنه يمارس تقشير شرانق الناس الدافئة، فإن ساراماغو لازال ذلك المزعج المتشائم الذي يقض المضاجع، انه كافكا من نوع آخر. فإذا كان كافكا تجريدياً يلطخ الأفكار والمشاعر بالسواد، فإن هذا العجوز البرتغالي يجعلنا نرى السواد ماثلا في كل ما هو أمامنا، لقد كان كافكا يتجوّف من الداخل بلا نهاية، أمّا ساراماغو فيُنهش من الخارج كثمر الطير، وإذا كان كافكا يتساءل quot;وأين هو الربيع الأبدي؟!quot; فإن ساراماغو يجعلك تنظر فلا ترى سوى الخريف.
قد يجادل البعض أن كافكا قد ذهب بعيداً، لكن من يجادل أن ساراماغو قد فعل؟