تظهر اهمية فلسفة التاريخ عند هيغل في تخطيها لميتافيزيقيا كانت الذاتية التي اكدت على عجز الفكر عن معرفة الاشياء في ذاتها، حيث استطاع عن طريق الجدل انجاز مهمة الفلسفة والوصول الى هدفها quot; الموضوعي quot; وهو الاندماج الكلي مع العقل.
بدأ هيغل مشروعه الفلسفي في نقد كانت quot; بلحظة الوعي المتألمquot; التي عجزت عن مسك الواقع والموضوعية. ولكن الواقع عند هيغل بقي في مستوى موضوعات العقل التي تعي نفسها في فترة معينة لتصل بالتدريج, مع التاريخ, الى الاندماج الكلي فيه فتصبح مطلقا. وبهذا فالتاريخ عند هيغل هو الذي مكن الوجود من تحقيق ذاته في المطلق, وان الترابط بين العقل والتاريخ في جدلية هيغل, انما يتمثلquot; في قدرة العقل على ان يصبح واقعا وقدرة الواقع على ان يتحقق في العقلquot;، وهو ما حرر العقل من الفكرة الستاتيكية التي امتدت جذورها الى الافلاطونية والارسطية والديكارتية وفكرة quot; التعاليquot; الكامنة عند كانت.
يقول هيغل : quot; الحقيقة هي الكل ، ولكن الكل مثل الجوهر في عملية تحقيقه وانتهائه بواسطة تطوره. يصبح المطلق. جوهريا، نتيجة، بمعنى انه حقيقة فقط في نهايته.. وهذا ما يمثل طبيعة التي يكون واقعا فعليا باعتباره ذاتا او تطورا لذاته. والعقل لا يقف من الواقع موقف القطب الخارجي منه ولا يمثل الواقع جوهرا يقف امام العقل. فالواقع يتضمن معقوليته وما عليه الا تجريد هذه المعقولية بواسطة التفكير. وبمعنى آخر، فلا وجود لواقع غير العقل. فالعقل يتأمل ذاته في الواقع والواقع لا يعني المجسم والمحسوس، بل العقل الذي هو الجوهر، لان كل واقع يجد وجوده وصلاحيته فيه. فهو القدرة اللانهائية وكل ما هو اساسي وحقيقي، الذي يحوي مادته الخاصة التي يصوغها بواسطة نشاطه الخاص الذي يوجد في رأس من رؤوس بعض الرجال الذين يوجهون التاريخ ويتنبأون بالضروري ويجسدون بذلك روح الامة ويحققون اسمى درجات الحرية.
والعقل لا يحتاج كالعمل النهائي لوسائل خارجية وآليات معطاة لكي يمد نشاطه بالمواضيع والطعام فهو يغذي نفسه بنفسه وهو لذاته المادة التي يصنعها، وهو يمثل فرضيته الخاصة ونهايته هي النهاية المطلقة، وهو يحقق نهايته وينقلها في الداخل والخارج، لا في الكون الطبيعي فحسب، بل وحتى في الكون الروحي. ففي التاريخ الكوني تكون الفكرة هي الحقيقة الازلية والقدرة المطلقة التي تتجلى في العالم ولا يتجلى أي شيء آخر غيرها.
وquot;الفكرةquot; عند هيغل موجودة في ذاتها ولذاتها، فهي الحق المطلق في ذاته، وهي ما يدخل في عداد الروح المطلق والكوني. quot; وما الروح المطلق الا الروح من حيث هو كوني وليس من حيث هو خاص ومتناه، انه يتحدد على انه الحق الكوني في حقيقتهquot;، الذي يهدف الى الوصول الى الحرية التي هي جوهر الروح، لان خصائص العقل لا توجد الا بفضل الحرية التي يعبر عنها التاريخ عند تحقيق روح الامة. ولا يمكن ان يكون العقل حرا الا اذا استطاع امتلاك العالم. وبفضل امتلاك العالم يحقق العقل وجوده. واما اذا كان العقل مطلقا ومجردا فانه يبقى خارج الواقع، ولكنه يكشف نفسه في العالم ولا يكشف عن مجده وشرفه الذي يظهر كتقدم في وعي الحرية، التي تبحث عن روح الامة. كما ان خصائص الروح لا تظهر الا بتحقيق الحرية، فالحرية هي الحقيقة الوحيدة للروح ولا يمكن معرفة الروح الا بنقيضها المادة. ولما كان جوهر المادة هو الجاذبية، فان جوهر الروح هي الحرية. وبما ان المادة تمتلك الجاذبية، بسبب ميلها نحو نقطة مركزية باعتبارها مؤلفة من اجزاء تبحث عن وحدتها، فانها تحطم نفسها بنفسها لانها تتجه نحو نقيضها واذا حققت ذلك فلا وجود لها لانها تحقق بذلك وجودها المثالي. اما الروح فهي على النقيض من المادة، فالروح لا تمتلك نقطة مركزية في نفسها، لان وحدتها لا توجد خارج نفسها وانما توجد فيها ومعها. وبهذا فان المادة تمتلك جوهرها خارج نفسها ، اما الروح فتكتفي بوجودها. وان هذا الوجود المكتفي بذاته للروح هو الوعي الذاتي، هو وعي الفرد بوجوده الذي يتحقق في التاريخ الكوني الذي تجلى في المسار الالهي المطلق للعقل في اعلى اشكاله : المسار التدريجي الذي يصل بواسطته الى حقيقته ويعي ذاته. وان خصائص الامم (الاخلاق الجمعية والدين والقيم والقوانين) ما هي الا تمثيل لتكوين هذا المسار التدريجي. اما تجاوز هذه الدرجات فيعبر عن الرغبة اللانهائية والدفعة التي لا يمكن مقاومتها لعقل العالم. وان مبادئ quot; العقول الجمعيةquot; في تواليها الضروري، ليست سوى فترات quot; العمل الفريدquot; والكوني الذي بفضله يصل التاريخ الى الكلية الشفافة لذاتها والى نهايته.
ان السيرورة الجدلية لتقدم الوعي، من مرحلة الوعي الفردي الى مرحلة الوعي المطلق، انما تمثل تطور متسق في التدرج التاريخي الذي يتحقق في اشكال الفكر التي تمر عبر تشكيلة اجتماعية وصولا الى العام والمطلق. وان وحدة وثبات السلوك الاخلاقي والقانوني والقيمي في العائلة والمجتمع يكون في الاخير الوحدة بين الذاتي والموضوعي، التي تصل الى اعلى اشكالها في الدولة، التي تتطور من خلال الصراع الجدلي لروح الامة، بحيث يصبح التاريخ سيرورة الوعي الذاتي لروح الامة، وفي ذات الوقت، تقدم في وعي الحرية.
من هذه الرؤية المفارقة يتخذ هيغل موقفا معاكسا لموقف فلاسفة القرن الثامن عشر، الذين طالما بحثوا عن الاساس الفلسفي للسياسة والدولة الفاضلة، وكذلك عكس لوك وروسو اللذان بحثا عنquot; نظرية تعاقديةquot; فهو بحث عن ما هو موجود وهو العقل، باعتباره ابداعا تاريخيا للروح. ولعل هذه الرؤية تفسر تبريرية هيغل quot; للأوتوقراطية البروسيةquot; في عصره، التي وجد فيها تجسيدا لنظريته في الدولة. وبهذا المعنى يبحث هيغل عن quot; دولة مشخصةquot; هي quot; العقلي في ذاته ولذاتهquot; لانه لم يشأ ان يكون طوباويا وان يفكر بما هو كائن فقط.
اما المجتمع فقد نظر اليه هيغل على انه وسيلة لتحقيق الروح المطلق، حيث يقود تقسيم العمل الاجتماعي الى تماسك افراد المجتمع ويفسح المجال لتوظيف الافراد ضمن الطبقات. ومن اجل ان يكون المجتمع قويا وقادرا فهو يحتاج الى بناء فوقي منسق يتضمن عددا من المؤسسات التقليدية. وعلى الفرد ان يعترف بالحدود المطلقة لمبدأ الارادة الفردية وان ينحني كليا امام الضرورة الناقصة، بل وعليه ان يذوب في المجتمع ، لان المجتمع البرجوازي ينتزع الفرد من رابطته الاجتماعية ويجعل من اعضاءه مغتربين ولا يعترف بهم الا كاشخاص مستقلين ليس لهم ارادة ، فليس هناك ارادة غير ارادة الدولة المطلقة التي لا تقوى الا بالقوة التي يمكن بفضلها بسط النظام والسيطرة الضروريين لتحقيق الوحدة بين الذات والموضوع وبين الفكرة والواقع. وفي اللحظة التي تتجلى فيها الوحدة بين الذات والموضوع في دولة عقلانية يزول البؤس والشقاء وتتصالح الذات مع العالم ويصبح المجتمع مصدرا للتلبية والرضى ويختفي بذلك كل تعارض وتناقض. وبحسب هيغل، فقد وصل التاريخ الى تحقيق ذاته عندما تسلمت البرجوازية في المانيا زمام الحكم بيدها وبسطت السيطرة والنظام في الدولة البروسية وجسدت بذلك روح الامة.
المصادر:
Geschichtsphilosophie, in Philosophische Woerter buch, s.196 - 198
Hegliasmus, in , philosophisches Woeterbuch, ,stuttgart, 1965, S. 229
Horkheimer u. Adorno, Soziologiche Exkurse, Frankfurt, 1956, s.83f Horkheimer U. Adorno, Dialektik der Aufklaerung,Frankfurt,1968
- ابراهيم الحيدري، ازمة الحضارة الغربية- ازمة حداثة وما بعد الحداثة، ندوة الحضارة الانسانية بين التصور الديني والنظريات الوضعية، الجزء الاول، لندن 1994 ص137-160
التعليقات