حاول فلاسفة التنوير اعادة الاهتمام بقيمة الفلسفة وذلك بجعل العقل المصدر الوحيد للمعرفة, وليس التراث القديم كشيئ مقدس ومفروض, ووضع جميع الاشياء على محك العقل للكشف عن المسببات المنطقية التي ادت اليها. وعلى هذا الاساس رفض فلاسفة التنوير تراث العصر الوسيط الذي ينتهك قوانين العلم والمنطق وكذلك اخلاقية الزهد والتقشف الصارمة في الحياة الدنيا, ودعوا الى اخلاق اكثر انسانية والالتزام بالتسامح والسلام بدل التعصب والعنف.

اهتم فلاسفة التاريخ بشرح وتفسير ثورات عصرهم الاجتماعية والسياسية ووضع قانون عام للتطور الاجتماعي بعد التغيرات والتحولات السريعة والعنيفة التي شهدتها المجتمعات الاوروبية ومعرفة اسبابها ونتائجها ، في محاولة لوضع نظرية عامة لمسيرة التاريخ تنطلق من مبادىء عصر التنوير ، الذي شجع على المقارنة بين المجتمعات والحضارات الانسانية واستخلاص قانون عام لتطور المجتمعات والحضارات من خلال التحليل العقلي للبعد التاريخي واعطاء الانسان دورا ومكانة واهمية في مسيرة التاريخ باعتباره فاعلا اجتماعيا.وكان في مقدمة روادها الأب سان بيير وجيوفاني فيكو وهيغل.

كانت فلسفة التاريخ وليدة الثورة الصناعية والثورة الفرنسية والثورة البرجوازية التي ساهمت في صياغة مفاهيم العقلانية والتقدم واثرت في عقول الناس وفي تصوراتهم حول سيرورة التطور الاجتماعي، وبخاصة كتابات مونتسكيو وفولتير في فرنسا وهيردر وهيغل في المانيا وفيكو في ايطاليا، وكذلك الفلاسفة الاسكتلنديين في نهاية القرن الثامن عشر، واصبحت في بداية القرن التاسع عشر حركة فكرية هامة اثرت تاثيرا مباشرا في افكار سان سيمون وكارل ماركس واوكست كونت وغيرهم.

جيوفاني فيكو
يعتبر جيوفاني فيكو (1664-1744) اول من وضع نظرية في فلسفة التاريخ في كتابه (مبادىء علم جديد)، الذي صدر عام 1725 وشرح فيه مراحل التطور الاجتماعي في اشكالها التاريخية ، وتوصل بموجبها الى وضع قانون عام يحكم تطور المجتمعات. غير ان فيكو عارض المذهب العقلي الذي وضع دعائمه ديكارت ، الذي اعتبر العقل هو مصدر المعرفة اليقينية ، وحول الذات العاقلة الى ذات تاريخية، وبذلك جعل العقل الانساني صانع التاريخ وموضوعه ، معتبرا التاريخ عملية عقلية منظمة وخلاقة والعقل موضوعا للمعرفة. كما عارض المذهب التجريبي ، الذي اعتبر الخبرة هي المصدر الوحيد للمعرفة.
تأثر فيكو باراء افلاطون المثالية وقال بفكرة التطور الحتمي الذي يتم عن طريق القضاء والقدر ووحدة التطور البشري وتكامله وخضوع هذا التطور الى قانون تعاقبي بين التقدم والنكوص ونشوء المجتمعات وتطورها ثم انحطاطها. فالتاريخ يسير عنده على شكل دائري ، بمعنى انه يعيد نفسه وانه متشابه في كل العصور والمجتمعات.
يرى فيكو بان الحضارة تمر في تطورها بثلاث مراحل متعاقبة ، الاولى مرحلة الدين والثانية مرحلة العائلة ، اما المرحلة الثالثة فهي quot; دفن الموتى quot;.
كما تمر الانسانية بدورها بثلاث مراحل متشابهة وهي:
1. المرحلة الالهية (الدينية) وهي مرحلة الالهة التي يسود فيها الخوف من المجهول ويتسلط فيها رجال الدين والكهنة.
2. المرحلة البطولية التي يسيطر فيها الافراد وتتمثل بالاسر الرومانية الابوية الكبيرة ، التي تمثل بدايات تطور الفلسفة والمذاهب الادبية والفنية.
3. المرحلة الانسانية ، وهي المرحلة العليا في التطور الحضاري حيث تسود فيها الحرية والافكار الديمقراطية. وفي هذه المرحلة تطورت الحقوق المدنية والسياسية ، التي قضت على الفوارق الطبقية فيها.
ويرى فيكو بأن قانون التقدم والنكوص يفسر عودة الجماعات البشرية وارتدادها الى اشكالها الاولى ، ولكن بصورة مغايرة لما كانت عليها في البداية. ففي المرحلة الاخيرة من حياة الحضارة يسود الفساد وتعم الفوضى وتأخذ الحضارة بالافول والانهيار ثانية لتعود الى مرحلتها الاولى.
والواقع فان نظرية فيكو في مسيرة التاريخ والمجتمع تقترب قليلا من نظرية ابن خلدون وبخاصة في quot; الدورة الاجتماعية quot; التي شرحها في مقدمته المعروفة.

عبد الرحمن ابن خلدون
يعتبرابن خلدون (1332 ـ 1406) آخر مفكر اجتماعي عربي ومؤرخ نقدي لمرحلة ازدهار الحضارة العربية الاسلامية ونهايتها. وتعتبر quot;المقدمةquot; من اهم المصادر الاساسية لفكره الاجتماعي. كما يعتبر quot;العمران البشري والاجتماع الانسانيquot; محورquot; المقدمةquot; وهدفها، التي تعتبر من أهم المصادر الاساسية لفكره الاجتماعي ، التي أكد فيها على ما يلحق هذا العمران والاجتماع الانساني من احوال اجتماعية واقتصادية وسياسية. كما اعتبر quot;العمران البشريquot; علما مستقلا بذاته ويختلف عن العلوم الاخرى، وهو بذلك يشبه quot;علم السياسة المدنيةquot; عند ارسطو. كما وضع لهذا العلم منهجا يستعمل فيه قواعد منطقية يقيس بها احداث الماضي بالحاضر واحداث الحاضر بالماضي. ويقوم هذا المنهج على الطريقة الاستقرائية التي تبدأ من الجزء الى الكل ويعتمد على الملاحظة العينية المباشرة والخبرة والتجربة. وبهذا قدم ابن خلدون اضافات علمية متميزة لعلم الاجتماع سبق بذلك اغست كونت وغيره من علماء الاجتماع في العصر الحديث.
وبايجاز شديد لموضوع العمران البشري والاجتماع الانساني عند ابن خلدون نلاحظ ان هذا العلم الجديد انما يبحث quot;فيما يعرض للبشر في اجتماعهم من احوال العمرانquot;. وان موضوع العمران هم البشر في وجودهم الذي يقوم على الاعتماد المتبادل، وهوالعمل والتعاون الانساني وتشكيل الجماعات وبناء المدن والثقافة والحضارة وما يتعلق بهذا الوجود الانساني من شؤون الحكم والادارة والانتاج والتوزيع وكذلك فيما يتعلق بشؤون العمل والاسرة والتربية وغيرها.
والعمران البشري نوعان: بدوي وحضري، فالعمران البدوي يمثل حياة البداوة في الصحراء ونمط العيش والانتاج، الذي يتمثل بالبساطة والاعتماد على الاقتصاد الرعوي والاكتفاء الذاتي وما تسببه حياة الصحراء من خشونة العيش والتضامن بين افراد القبيلة الواحدة وتجمعهم في عصبية واحدة. اما العمران الحضري فيتمثل في التحول من البداوة الى الاستقرار والتحضر والاعتماد في المعيشة على الزراعة والتجارة والصناعة، والانتقال من سلطة القبيلة وعصبيتها الى سلطة الدولة وحياة المدينة وترفها.
والاجتماع الانساني ضروري للبشر، لان الانسان مدني بالطبع. وتقوم هذه الضرورة بسبب الاستئناس من الغير وتكوين الحياة الاجتماعية التي تقوم على التعاون بين الافراد، لان الفرد في حاجة ملزمة الى التعاون والتضامن، لان قوة الواحد من البشر قاصرة عن تحصيل حاجته من القوت والغذاء ولابد من اجتماع ابناء الجنس الواحد لتوفير ذلك. ثم ضرورة الدفاع التي تقتضيها المصلحة العامة للدفاع عن المجتمع الانساني من الحيوان والشرور والاعداء. ولذلك اصبح وجود السلطة ضروريا لدرء العدوان والدفاع وتنظيم المجتمع وتوزيع الحقوق والواجبات، وهو معنى الملك (الدولة). واخيرا ضرورة التطور والتغير من حال الى حال آخر، لان المجتمع الانساني متغير ومتبدل من وقت الى آخر مثلما تتغير النظم والدول والحضارات. ومن اهم اسباب التغير هي العوامل الاقتصادية والجغرافية والدينية والسياسية.
والحقيقة هي ان ابن خلدون كان من اوائل من استعمل طريقة الملاحظة المباشرة في دراسته للتاريخ التي تستند على العقل وعلى التجربة الانسانية وليس على العقيدة، لان الدين هو شيء ما ورائي ولا يمكن ملاحظته امبريقيا. اما فلسفة التاريخ فيرى انها تقوم على المماثلة العضوية بين الفرد والمجتمع، وهي مماثلة بايولوجية. فكما ان الفرد يمر بمراحل مختلفة في نموه البايولوجي ـ ولادة وشباب وكهولة فموت ـ كذلك المجتمع. و quot;الدولة لها اعمار طبيعية مثلها في ذلك مثل الافرادquot;. وعمر الدولة لا يزيد على ثلاثة اجيال. وهذه المراحل هي مراحل طبيعية محكومة بقانون اجتماعي لانها تتفق مع طبيعة الاشياء.

مسيرة التاريخ
لا يمكننا فهم فلسفة التاريخ عند ابن خلدون الا من خلال فهم طبيعة الدولة ودورها في مسيرة التاريخ والمجتمع والحضارة.
تبدأ ولادة الدولة في البادية، لان البادية هي الاصل، والبداوة تقوم على العصبية القبلية، والعصبية القبلية تدعو الى التغلب ، والتغلب يدعو الى التملك والملك ، والملك هو التغلب بالحكم والقهر.
ويسيرالتاريخ على شكل حلزوني في حركة صاعدة نازلة ويتطور ويتكامل ولكن ليس نحو الاعلى والافضل دوما ولا في خط مستقيم او عامودي، وانما يتحول من شكل الى آخر، فهو جديد وقديم في الوقت نفسه. هذه العملية الجدلية تنظر الى العالم في حركة تطور، غير ان هذا التطور ليس تطورا هادفا. وبالمقارنة بالديالكتيك الماركسي، فان جدلية التاريخ عند ماركس هي في حركة لولبية لا متناهية ومتناقضة في آن، وان حصيلة هذا التناقض هو تشكيل اعلى وافضل. اما جدلية ابن خلدون فهي في تجدد ابدي مستمر وتظهر في تحليله لخصائص كل من البداوة والحضارة.
والدولة ( الملك) تقوم على حركة حلزونية وفي دورة اجتماعية دائرية تستغرق ثلاثة اجيال حتى تستكمل الدولة عمرها. وتمر الدولة في اغلب الاحيان بمراحل مختلفة لا تتعدى خمسة مراحل
وهي:-
1- مرحلة النشوء والتكوين. فالدولة تنشأ اولا في القبيلة ذات العصبية القبلية القوية. وتتماثل هذه المرحلة مع مرحلة ولادة الانسان ونشوء الدولة.
2-مرحلة التوسع، حيث تقوم القبيلة بغزو المناطق المجاورة لها واحتلال اراضي زراعية غنية حيث يتحول البدو الرحل الى حياة الاستقرار والتحضر والتنعم بمستوى اقتصادي اعلى. غير ان العصبية في هذه المرحلة تبدأ بالضعف وتصبح quot; المشيخةquot; معزولة تقريبا لان همها الاساسي هو جمع اكبر عدد من الافراد المؤيدين، وبذلك تتحول سلطة القبيلة الى سلطة الفرد الواحد. وهذه المرحلة تتماثل مع مرحلة الشباب عند الانسان.
3-مرحلة ازدهار الدولة الذي يظهر في ارتفاع مستوى المعيشة وتوسع المدن وتقدم التجارة والصناعة وازدهار العمران. غير ان ارتفاع مستوى المعيشة والثراء يدفع الى الجاه والسلطة فيزداد جمع الضرائب من جهة وتراكم الثروة والبذخ والاسراف من جهة اخرى، وفي ذات الوقت لا يعود للعصبية من وجود، لان الدولة تعتمد الان على الجيش والشرطة لاستتباب الامن والنظام. هذه المرحلة تماثل مرحلة الرجولة عند الانسان.
4-مرحلة الكفاية والدعة. فالحكام يقلدون فيها من سبقهم فلا يبدعون. وتتحول الدولة بالتدريج الى مرحلة الهرم والشيخوخة. وتبدأ مرحلة التفكك. وبذلك تصبح الدولة مريضة ولا امل في انقاذها.
5-في المرحلة الخامسة تقوم قبيلة بدوية ذات عصبية قبلية قوية فتهجم على الدولة المفككة وتستلم السلطة بقوة عصبيتها. وهكذا تبدأ ومن جديد دورة اجتماعية جديدة لحركة حلزونية أبدية حسب القانون الاجتماعي لمسيرة التاريخ الخلدونية، الذي يعني quot;ان الموت عند ابن خلدون لا يعني الفناء، وانما ولادة حياة جديدةquot;. وهكذا دواليك.

علم التاريخ
والتاريخ عند ابن خلدون هو فن من الفنون. فهو في ظاهره لا يزيد على اخبار الايام والدول وتقلب الاحوال وزوال الدول و quot; في باطنه نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق وعلم في علومها خليقquot;.
وقد انتقد ابن خلدون المؤرخين القدماء وفساد منهجهم وطريقة تفكيرهم وعدم توصلهم الى طبيعة الاشياء وكذلك توهمهم للصدق وذلك بسبب اعتمادهم على النقل دون النظر العقلي ومعرفة اصول العادة وقواعد السياسة وشؤون المجتمع وتزلفهم للامراء والعلماء واهل السلطان ثم الثقة العمياء بالرواة الناقلين للاخبار. وعلى المؤرخ ان يضع الحقائق التاريخية تحت المجهر العلمي ويستعمل منهج المقارنة والنقد للتأكد من صحة وامانة الرواة واتفاقها مع طبيعة الاشياء. ويعود قصور المؤرخين القدماء في ذلك الى جهلهم بطبائع العمران واحوال الناس وعدم اعتمادهم على منهج علمي استقرائي.
ويمكننا ايجاز افكار ابن خلدون وأهمية نظريته في ثلاثة محاور رئيسية هي: اولا انه وضع نظرية في فلسفة التاريخ كشف بموجبها عن خصوصية المجتمع العربي وادراك عوامل تقدمه ونكوصه. وثانيا هو انه مؤسس اصول علم الاجتماع الحديث الذي اطلق عليه quot; العمران البشري والاجتماع الانسانيquot;، وثالثا انه اعتمد منهجا علميا كشف فيه عن حقائق التاريخ باستخدامه المنهج الاستقرائي الذي ربط فيه بين السبب والنتيجة.

المصادر:
1 ndash; عبد الرحمن ابن خلدون، مقدمة ابن خلدون، المكتبة التجارية، القاهرة بدون تاريخ
2 ndash; علي الوردي، منطق ابن خلدون في ضوء حضارته وشخصيته، لندن 1994
Geschichtsphilosophie, in Philosophisches Woerter buch, Stuttgart,1065 - 3
Vico,Giovanni,in Philosophisches Woerterbuch.,Ibid - 4 - 5 Heinrich Simon ,Ibn Khaldons Wissenschaft von der Menhlicher Kultur, Leiozig,1959