فلسفة كانت النقدية للأخلاق
ان فلسفة كانت المتشددة في اخلاقيتها لعبت وما تزال دورا هاما في تاريخ الفلسفة الاوربية وفتحت الطريق لقيام عصر التنوير, في ارجاعه المعرفة الموضوعية الممكنة الى الانسان, بالرغم من ان كثيرا من افكاره مقارنة بمفكري عصر التنوير الراديكاليين, تعتبر معتدلة, وبخاصة عند مقارنته بالمفكر الفرنسي هلفيسيوس او بمفكري التنوير الفرنسيين الآخرين. والحقيقة فان افكار كانت الفلسفية تعود الى التراث الروحي الالماني الذي كان منذ عهد مبكر مكسور الجناح بالنسبة لطرح التساؤلات واتخاذ القرارات التي كانت معروفة خلال القرن الثامن عشر.
وعلى أية حال, فقد جاءت افكار كانت بالنسبة للقيم الاجتماعية والأيديولوجية تنويرية, وربما كانت اكثر تنويرا, وبخاصة, بالنسبة للشروط الذاتية للمعرفة, اذا ما قارناها سلبا او ايجابا باراء جون لوك وغيره. كما كان لكانت فضل كبير في تطور المعرفة الموضوعية عن طريق نقده لها, مثلما عمل اصحاب الاتجاه الشكي في الفلسفة. وبالرغم من ان كانت كان آخر المحاربين من اجل التنوير, الا انه اعتبر ايضا المؤسس الحقيقي لمدرسة اخرى نقدت التنوير وهي الحركة الرومانتيكية التي ظهرت في نهاية القرن الثامن عشر وبخاصة في المانيا وانكلترا, ليس كحركة فكرية هدفها مجرد تغيير اساليب الكتابة الادبية والاعمال الفنية فحسب, بل ودعوة الى فلسفة جديدة كانت رد فعل ضد الفلسفة العقلانية التي سادت عصر التنوير.
في كتابه quot;تأسيس ميتافيزيقيا الأخلاقquot; الذي صدر عام 1785 استطاع كانت دعم فلسفته النقدية للأخلاق وتمهيد الطريق لثلاثيته النقدية: quot;نقد العقل الخالصquot; quot;ونقد العقل العمليquot; وquot;نقد ملكة الحكمquot;, والإجابة عن الأسئلة التي تكون موضوع الفلسفة النقدية, التي وقفت بالتضاد مع الفلسفة المثالية, فاتحاً بذلك طريقاً جديداً للعقل, الذي اتخذ مذاك مكانته الأساسية, انطلاقاً من قدرة العقل على تفحص الواقع وحضوره في التاريخ وقدرته على النقد. وبهذا استطاع كانت إعلان انبعاث فلسفة جديدة تتخطى الفلسفة المثالية التي حددت حضور العقل في التاريخ انطلاقاً من مسلمات قبلية جاهزة.
وبالرغم من الاسئلة المثيرة التي طرحها كانت في كتابه ميتافيزيقيا الاخلاق، فإن موضوعه ملائم للفهم العام كونه محاولة للبحث عن المبدأ الأعلى للأخلاق وتثبيت دعائمه حيث اتبع فيه كانت منهجاً حدد فيه المبدأ الأعلى للمعرفة المشتركة بطريقة تحليلية ثم سار فيه بطريقة تركيبية من خلال اختبار هذا المبدأ ومصادره صعوداً الى المعرفة العامة التي سيتم تطبيقه عليها. ينتقل كانت في كتابه هذا من المعرفة العقلية المشتركة بالأخلاق الى المعرفة الفلسفية, ومن الفلسفة الأخلاقية الشعبية الى ميتافيزيقيا الأخلاق ومنها الى نقد العقل العملي الخالص, مع تأكيده على مبدأ استقلال الإرادة. كما يعتبر ان الفعل الخيّر اخلاقياً هو الفعل الذي يستجيب الى القانون الأخلاقي وحده, وهو القانون الذي يعبّر عن العقل والذي يرتبط بمفهوم quot;الحريةquot; التي تأخذ مكانة اساسية في منظومته الفلسفية بصفتها تعبيراً عن قدرة العقل على تحديد سلوك الإنسان. كما ان تشكيل الحياة الأخلاقية الخلفية الفكرية للحرية التي تفترض شرطاً قبلياً. ففي quot;نقد العقل العمليquot; تصبح الحرية مسعى تتطلع إليه الأخلاق, بمعنى ان المبدأ الأخلاقي يرتبط مباشرة بمبدأ الحرية ويصبح العقل الخالص نفسه عملياً. وبهذا تصبح الحرية ليست محور فلسفته الأخلاقية فحسب, بل ونواتها الجوهرية.
قضى كانـت سنوات طويلة وهو يسأل: كيف أوفق بين عالم الطبيعة التي تسيطر عليها الضرورة وبين عالم الأخلاق الذي تسوده الحرية؟ وكيف يصنع العقل قوانين العالم وما هي حدود معرفته؟ يضع كانت الوجود العيني الواقعي بجانبيه: الإنسان والطبيعة نصب عينيه دائماً. وهو لا يقدم لنا حالة فردية ولا موقفاً جزئياً, وإنما طابع أنموذجي عام وفي شكل تجريدي ويطالب القارئ باستخلاص الخاص من العام والفردي من المجرد, وإن كان الخاص والفردي هما النقطة التي تنطلق منها تأملاته العسيرة. إن ما يريد كانت تحديده هو ان الأصل في الأفكار الأساسية في الأخلاق ومقدمتها هو الأمر الأخلاقي المطلق, اي العقل الخالص نفسه.
والمعارف عند كانت نوعان: معارف عرضية جزئية نستمدها من التجربة, ومعارف ضرورية مطلقة وشاملة تنبع من العقل, ومنها المعارف الرياضية والطبيعية التي تساعدنا على التنبؤ بما يحدث في الكون. غير ان معرفتنا بـquot;الأمر الأخلاقيquot; الذي يصلح لكل انسان وفي كل زمان ومكان هو كونه قانوناً عقلياً مطلقاً يصدر عن العقل, مستقلاً عن التجربة. يقول اننا نعيش في عالمين مختلفين فنحن ننتمي بأحاسيسنا ودوافعنا وميولنا الى العالم الحسي ونخضع للقوانين الطبيعية التي تتحكم بنا, ونحن بعقولنا وحدها اعضاء في هذا العالم المعقول ومواطنون في مملكته, التي يطلق عليها quot;الغايات في ذاتهاquot; والتي نجد فيها مفتاح هذه الازدواجية. فالتجربة لا تستطيع ان تقدم لنا مثالاً واحداً يؤكد ان الأمر الأخلاقي يمكن ان يرد فيها في صورته الخالصة, ولكن اذا امعنّا النظر في هذه الازدواجية التي يتميز بها الوجود الإنساني فمن الممكن تفسير كيف يمكن ان يصبح الأمر الأخلاقي ممكناً وذلك بالانتقال خطوة خطوة من التجربة الى الميتافيزيقيا, اي من تصور الإنسان لطبيعته, من حيث هو كائن عاقل ويكون العالم بالنسبة إليه وحدة تجمع في شخصه الطبيعة وعالم العقل (الشيء والشيء في ذاته). كما ان هناك العالم الحسي الذي ننتمي إليه باعتبارنا كائنات حسية. وهناك العالم المعقول الذي تشرّع فيه قوانين افعالنا ونعتبر احراراً بمقدار خضوعنا لهذه القوانين. وليست الحرية سوى هذا الخضوع الإرادي للقوانين. والإنسان حر بقدر ما يخضع للقانون الذي يضعه لنفسه. وأن فكرة الحرية هذه, التي يستمدها الإنسان من العقل والتي تجعله عضواً في هذا العالم المعقول, هي الشرط الوحيد الذي يجعل الأمر الأخلاقي المطلق ممكناً.
اما كيف يخضع الإنسان لهذا الأمر الأخلاقي المطلق الصارم فيجيب كانت, لأن الإنسان هو الذي يشرّع القوانين لنفسه ويحدد الفعل الذي يقدم عليه, وأن احترامه للقانون الذي شرعه بنفسه يجعله ينفذ ما امر به الأمر الأخلاقي المطلق بالعقل, لأنه فعل صحيح وحق في ذاته, الذي رفعه الى مستوى القانون الضروري المطلق.
النقد والحكم الجمالي
كان كانت في كتابه quot; نقد ملكة الحكم quot; قد اغنى النظرية الجمالية بتخصيصه فصلا حول النقد والحكم الجمالي وتحديد دلالته وكيفية تكوينه والاثر الذي يخلفه الموضوع الجمالي في الذات. فالجمال عند كانت هو ما يبعث في الذات الانسانية شعورا بالارتياح والرضا، واحساسا باللذة يختلف عن احساس اللذة الذي نشعر بها مثلا عندما نكون ازاء طعام لذيذ. فالاحساس بلذة الطعام تنتهي بمجرد استهلاكه وتحقيق الاشباع، بينما اللذة الجمالية هي لذة دائمة لا يصدق عليها مقياس الاشباع. كما ان الحكم الجمالي يختلف عن الحكم المعرفي اختلافا اساسيا من حيث المقوم الذي يتكون به الحكم : فالحكم المعرفي هو نتاج وعي بالموضوع وادراك لخصائصه، بينما الحكم الجمالي هو نتاج احساس ذاتي. ان هذا التصور للجمال حدده كانت بكونهquot; ما يبعث في النفس شعور الرضا من دون تصورquot;.
ويتمثل الجمال عند كانت في اربع لحظات هي :
اولا ـ الحكم الذوقي من حيث النوعية الذي يؤكد فيه ان الذوق هو الملكة التي نتخذ بها رأيا في الجمال.
ثانيا ـ الحكم الذوقي من حيث الكمية، والجميل هنا هو ما يسرنا بصورة شاملة ويكون فيه موضوع رضى كلي، بمعزل عن أي تصور عقلي.
ثالثا ـ الحكم الذوقي من حيث الارتباط، والجميل هنا يدرك كتعبير عن قضية لا قصد فيها ومعنى، ذلك ان الجميل هو غاية في حد ذاته، لكن ليس ذلك هو قصده.
رابعا ـ الحكم الذوقي تبعا لكيفية الغبطة، والجميل هنا هو الذي يجري التقاطه موضوعا للسرور، اي ان الجمال يعتبر، بدون توهم، موضوعا لغبطة ضرورية.
هذه اللحظات الاربعة هي جوهر نظرية كانت الجمالية وكذلك نظريته في الانسجام التي تفسر جميع خواطره الجمالية.
وكما قال دني هوبسمان، ان كانت quot; هو الوحيد الذي تمكن من تطبيق المنطق على الجمال، وتحليل الفن بالدقة العلمية الكلية، إذ فرق بين الجميل والخير والجليلquot;.

المصادر:
1- Behrens, R , Kritische Thorie, Wissen, 3000 Hamburg 2002
2- امانوئيل كانت، تأسيس ميتافيزيقيا الاخلاق، ترجمة عبد الغفار مكاوي، منشورات الجمل2002
3- AdornoTheodor W.,Vorlesung in die Erkenntntheorie,Frankfurt,1957/58.
4-Kroener,Stuttgart 1965 Kant, in Philosophisches Worterbuch,
5- فرانسوا اوبرال وجورج سعد، معجم الفلاسفة الميسر دار الحداثة، بيروت، ص90
6- هروتيز، أصول الطبقة الوسطى في عصر التنوير(ترجمة) بغداد 1960
7-الطيب بو عزة، دلالة النقد والحكم الجمالي،ثقافات/ايلاف، في 31.8,2005
8- محمد علي محمد، تاريخ علم الاجتماع، الرواد والاتجاهات المعاصرة، القاهرة 1986
9 - دني هوبسمان، علم الجمال (ترجمة) بيروت 1975