بالرغم من ان العراق بلد زراعي غني بأراضيه الزراعية الخصبة ونهريه العظيمين دجلة والفرات وروافدهما وفروعهما وموارده البشرية وكذلك الثروة النفطية، فقد بقيت اغلبية السكان فقيرة ومتخلفة وبصورة خاصة سكان القرى والارياف، بعد ان كان العراق في العصور القديمة يسمى quot;بسلة الغلال:. كما بقي الانتاج الرئيسي في العراق من اجل الاستهلاك الذاتي الذي لم يساعد على التطور والنمو الاقتصادي من حيث الكم والنوع.
ولكن التحول في الانتاج من اجل الاستهلاك الى الانتاج من اجل السوق كان قد بدأ في نهاية القرن التاسع عشر. فمنذ فتح قناة السويس عام 1869 توسعت التجارة الخارجية بسبب الطلب على السلع الزراعية والحيوانية والدخول في الاقتصاد النقدي وحدوث تطور في وسائل النقل النهرية والبحرية والملاحة البخارية في نهري دجلة والفرات. غير ان تطور وسائل الانتاج الجديدة أثرت على العلاقات الاقتصادية والاجتماعية وشوهتها وادت الى تفكيك نظام الملكية القديم وكذلك نظام العشيرة، واخذت العشائر العراقية بانتاج يتعدى حدود الحاجة الذاتية الى البيع في السوق الخارجية وتصدير الحبوب الى خارج العراق وبصورة خاصة تصدير الشعير الى فرنسا لصناعة البيرة، وهذا ما قاد الى الاستغلال وعدم التوازن والتكافؤ في العلاقات الاجتماعية والاقتصادية وادى في الاخير الى تعميق الصراع بين ملاك الاراضي وبين الفلاحين في الريف العراقي.
يعود نظام ملكية الارض في العراق الى العهد الساساني القديم الذي دعي بنظام quot;اللزمةquot; اي ادارة الاراضي الزراعية من قبل وكلاء للمالكين الكبار للاراضي اطلق عليهم quot; الدهاقينquot; او quot;السراكيلquot; الذين كانوا في خدمة الملك الساساني وحاشيته، وقد مثلت علاقات حيازة الاراضي وملكيتها بدايات لنظام شبه اقطاعي ساد في اغلب الاراضي الزراعية آنذاك.
ولكن بعد الفتح الاسلامي للعراق اعتبرت جميع الاراضي الزراعية كغنائم حرب، واعتبرت الاراضي غير الرزاعية اراضي تابعة لملكية الدولة الاسلامية، ومع ذلك كانت هناك استثناءات: فالامويون والعباسيون أقروا مبدأ التملك الخاص للاراضي التي كانت في الاصل اراضي زراعية ممتلكة من قبل اشخاص، وبقيت الاراضي غير المزروعة اراضي تابعة لملكية الدولة.
بعد سقوط الدولة العباسية على يد التتار وانهيار الحضارة العربية ـ الاسلامية في العراق، تهدمت طرق الري والمنظومات الزراعية والتجارية وتحولت الاراضي الزراعية الى اراضي جدباء ولم يستطع العراق استعادة عافيته الا في بداية القرن الماضي.
ان شيوع الفوضى والدمار في انحاء العراق والحروب والنزاعات المستمرة واستبداد الدولة العثمانية وضعف الحكومات المركزية وبعدها عن الاطراف وعدم قدرتها على حماية الحدود ساعد على دخول موجات بدوية عديدة الى العراق مما جعله ولمدة اكثر من ثلاثة قرون مسرحا لصراعات وغزوات مستمرة بين القبائل البدوية من جهة وبينها وبين السلطات المركزية من جهة ثانية، وهو ما سهل لبعض القبائل القوية السيطرة على الاراضي التي احتلتها وجعلتها ملكا لها. وعلى هذا الاساس قامت امارات عشائرية فرضت سلطتها واستقلالها النسبي، ومع العلم ان حق التملك للاراضي في هذه الامارات بقي غير مستقر تماما. ولم يحدث ان سيطرت في الوسط والجنوب في العراق علاقات ملكية اقطاعية حتى نهاية القرن التاسع عشر. وما كان سائدا آنذاك هو نظام quot;ملكية جماعيةquot; او ما يدعى لدى العشائر العربية بنظام quot;الديرةquot; الى جانب نظام الملكية الصغيرة للفلاحين الذي انتشر حول المدن. وقد بقيت القبائل التي استقرت وتحولت الى الزراعة او التي بقيت نصف بدوية، وحتى التي استمرت في بداوتها وتجوالها محافظة على نمط حياتها الرعوية، واقرب في علاقاتها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية الى العلاقات والقيم والاعراف البدوية، منها الى علاقات الانتاج الاقطاعية او شبه الاقطاعية. كما بقيت بنية القبيلة متماسكة ومحافظة على اعرافها وعصبياتها حتى نهاية القرن التاسع عشر، حيث اخذ نظام العشيرة بالتفكك والانحلال التدريجي. ويعود ذلك الى سياسة الدولة العثمانية التي حاولت السيطرة على العشائر العراقية واخضاعها للنظام الضريبي. فاصدرت عام 1880 مرسوما اعتبرت فيه الاراضي الزراعية اراضي اميرية تابعة للدولة. وقد استطاع بعض شيوخ العشائر، الذي استطاعوا دفع الضرائب للحكومة العثمانية، فرض سيطرتهم على الاراضي التي يزرعونها، الامر الذي أدى الى تقوية مكانتهم لدى الحكومة العثمانية وبسط نفوذهم على اراضيهم وافراد عشائرهم وتحولهم بالتدريج الى ملاكيين كبار. كما استغل شيوخ العشائر تأسيس دائرة الطابو في بغداد، التي اسسها الانكليز لتنظيم الفوضى السائدة في الاراضي الزراعية آنذاك وتسويتها ومن ثم القضاء على النزاعات القائمة بين العشائر العراقية من جهة وبينها وبين الحكومة العثمانية من جهة اخرى، لتسجيل اراضي العشيرة باسمائهم، وكذلك عمل تجار المدن والمتنفذين والعسكريين وتحولوا الى ملاك اراضي زراعية.
ان تسجيل الاراضي الزراعية باسماء الشيوخ والمتنفذين في الدولة اثار نزاعات حادة بين افراد العشائر والشيوخ من جهة وبين العشائر والحكومة من جهة اخرى، واصبح عدد كبير من الفلاحين لا يملكون الارض التي يزرعونها وتحولوا الى مزارعين اجراء في اراضيهم التي فقدوها.
ومنذ الاحتلال البريطاني في العراق بدأت المحاولات الجادة للتحول من نظام الملكية للاراضي الزراعية الى نظام الملكية الكبيرة وشبه الاقطاعية، عن طريق السيطرة على العشائر العراقية واخضاعها، حيث اصدرت الحكومة البريطانية عام 1918 quot;قانون العشائر العراقيةquot; الذي يعطي لشيوخ العشائرعددا من الامتيازات ويحل جميع القضايا التي تخص ملكية الاراضي الزراعية بموجب العرف العشائري. وبذالك اصبحت الاراضي المسجلة بالطابو بايدي عدد قليل من ملاكي الاراضي شبه الاقطاعيين، وتحول ابناء العشائر الى فلاحين اجراء يعملون في خدمة شيوخهم، في نظام quot;اللزمةquot; الذي يقوم على علاقات عمل لاحق لهم فيه ولا منفعة من محاصيل الارض التي يزرعونها بايديهم ولا يحصلون منها الا بما يسد الرمق، بينما يذهب المنتوج الزراعي كله الى مالك الارض.
ومن اجل تنظيم العلاقات السائدة آنذاك كلف الخبيرالانكليزي داوسون بدراسة وضعية علاقات الملكية بصورة جذرية ثم قدم مقترحات عامة لتنظيمها. وبحسب داوسون فإن أول خطوة يجب القيام بها هي مسح وتسجيل جيع الأواضي في دائرة الطابو. وفي عام 1932 rlm;صدر قانون التسجيل العقاري رقم 50 rlm;بحسب مقترحات الخبير الانكليزي. وكان هدف هذا القانون هو الاعتراف حقيقة بعلاقات الملكية المتواجدة فعلأ وتسجيلها في دائرة الطابو وهذا يعني الاعتراف بما يملكه الشيوخ من مستندات وتسجيل أراضي العشائر كملك خاص بأسمائهم بحجة القضاء على النزاعات الدائرة بين العشائر العراقية حول تقسيم الاراضي الزراعية بينهم. ومن أجل تطبيق هذا القانون تشكلت لجنة للنظر في الوضع القانوني لكل قطعة أرض زراعية بمفردها وتصنيفها بحسب قانون ملكية الأراضي وكما يلي:
rlm;1. أراض ملك صرف، وهي ملك خاص للأفراد
2rlm;. أراضي متروكة وهي أراضي خصصت للمرافق العامة
rlm;3. أراضي الوقف، وهي الأراضي التي أوقفت لأغراض دينية
4 rlm;. أراض أميرية، وهي الأراضي التابعة للدولة عمومأ
rlm;وفي عام 1932 rlm;قررت حكومة الانتداب البريطانية مسح الأراضي، وقد سجلت أجزاء كبيرة منها بأسماء الشيوخ.
rlm;لقد رأى قانون التسجيل العقاري الجديد، بأن كل من يستطيع البرهنة على زراعة الأرض لمدة سنوات، يكون مالكأ لها قانونيأ. وبهذا خسر الفلاحون الصغار الارض التي زرعوها، rlm;لأنهم لم يستطيعوا البرهنة على ذلك لأنهم كانوا ينتقلون من ارض إلى أخرى. أما الشيوخ فقد استطاعوا عمل ذلك، لأن الحكومة الانكليزية كانت قد وعدتهم بذلك فيما إذا حققوا أهدافها المرسومة.
rlm;ليس شيوخ العشائر وحدهم تحولوا إلى ملاك كبار للأراضي، وانما العائلة الملالكة وكبار موظفي الحكومة وبعض المتنفذين من تجار المدن، الذين استطاعوا تسجيل أراض زراعية كبيرة كملك خاص بهم، في دائرة الطابو.
لقد كان هدف حكومة الانتداب البريطانية من اصدار هذا القانون هو أولأ، محاولة جعل القبائل البدوية تحت سيطرتها وتجنب غزواتها ومن ثم إجبارها على دفع الضرائب، وثانيأ، محاولة حكومة الانتداب من خلال ذلك، رفع مستوى الانتاج الاقتصادي وربط مناطق الشمال مع الوسط والجنوب في سوق مركزي داخلي وربطه في الوقت نفسه مع السوق الخارجي.
rlm; والى جانب ذلك فقد كان من أهداف قانون التسجيل العقاري هو السيطرة على النزاعات القائمة بين أهل المدن ورؤساء العشائر. وقد وجدت الحكومة في الشيوخ وسيلة نفعية وضرورية، فاعتمدت عليهم. وكانت الحكومة حينذاك في حالة ضعف اقتصادي وعسكري نسبي وبذلك قامت بعملية توازن ملائمة للقوى الاجتماعية المختلفة التي تتحكم في البلاد بين سكان المدن والريف وبين الفلاحين والشيوخ وبين الملك والانكلير. ومن جهة أخرى حاول الانكليز إبقاء الجيش العراقي في حالة ضعف مستمرة، في حين أبقوا الملك أقوى عسكريأ من أي رئيس عشيرة بمفرده، ولكنهم تر كوه في الوقت نفسه أضعف من بعض أو كل رؤساء العشائر مجتمعين.
rlm;وبهذه الطريقة استطاع الانكليز استخدام شيوخ العشائر في كبح أي انحراف محتمل من قبل الملك عن السياسة المرسومة له من جهة، وفي الوقت نفسة، استخدام هذه السياسة ضد أي شيخ يحاول أن يتمرد على السلطة.
rlm;وبالطبع فإن هذه السياسة منحت في الأخير امتيازات عديدة للشيوخ، حيث تم إعفاؤهم من ضريبة العقارات وتثبيت أرجلهم في مواقعهم الاقتصادية مما كون نظامأ شبه إقطاعي لم يستمد قوته من أية قوة حيوية داخلية، بقدر ما كان يستمدها من الانتداب البريطاني الذي كان له مصلحة في تقويته وديمومته.
rlm;في عام 1958 كان هناك 32 مليون دونم من الاراضي الزراعية في أيدي أقلية قليلة من الملاكين الكبار. وهذا يعني ظهور نظام الملكية الكبيرة (شبه الاقطاعية)، الذي كان نتيجة سياسة اقتصادية خاطئة بدأت منذ ولاية مدحت باشا وقويت وترسخت في ظل السياسة البريطانية في العراق، حيث كان أكثر من نصف الاراضي الزراعية ملكا خاصا في الوسط والجنوب وان 80% من الاراضي المزروعة لا تعود الى من يزرعها من الفلاحين.
وهكذا تفككت القبيلة بعد ان تحول افرادها الى مزارعين اجراء في اراضيهم الزراعية وبقي الحال حتى ثورة 14 تموز 1958.
المصادر:
1- ابراهيم الحيدري الحيدري، تراجيديا كربلاء-سوسيولوجيا الخطاب الشيعي، دار الساقي 1999
2- Ibrahim Al-Haidari, Zur Soziolgie des Schiitische Chilismus, Freiburg,1975
3 - هشام جعيط، الكوفة، بيروت1993
4 - عباس العزاوي، العراق بين احتلالين،ج7،بغداد 1955
5- حنا بطاطو، العراق،ج1، بيروت 1990