دعيت قبل أسابيع من قبل منتدى الجاحظ في تونس، لإلقاء محاضرة حول التجارب الاجتهادية التي شهدتها بعض دول العالم العربي والإسلامي في إعادة بناء علاقة الدين بالدولة، على نحو يحرر الممارسة السياسية ويجعلها مسؤولية بشرية، كما يحرر الإيمان الديني ويجعله قناعة شخصية عميقة أو مؤسسة أهلية مستقلة لا تتواكل على فتات السلطة أو عصاها.
و قد وفر لي الأصدقاء في مجلس إدارة المنتدى مشكورين، وعلى رأسهم الصديقين صلاح الدين الجورشي ومحمد القوماني، مجالا للتعبير عن أفكاري بكل حرية، على الرغم من معرفتهم المسبقة بأن ميول غالبية الحضور قد تكون محافظة، وسيغضبها حتما قول كالذي صدعت به، وهو أنني مؤمن بأن الإسلام هو دين وأمة كما يقول أستاذنا جمال البنا، و أن شؤون الحكم والسياسة يجب أن تكون شأنا بشريا صرفا، تطرح بعيدا عن أي مزاعم لامتلاك القداسة أو الحقيقة أو القبض على حقائق الوحي.
و مما قلت في منتدى الجاحظ، وهو جمعية ثقافية مرخص لها من قبل السلطات التونسية، أن وضع الإيمان الإسلامي في دول عربية وإسلامية علمانية، هو أفضل بكثير من وضعه في دول دينية، قادت ممارسات أنظمتها ورجال الدين فيها إلى بروز شكيزوفرينيا اجتماعية وثقافية حولت القيام بالشعائر إلى حالة نفاق جماعي في غالب الأحيان، و حملت الدين مسؤولية انحرافات وفساد وأخطاء رجال الحكم والسياسة.
كما أكدت على أن الحركة الفكرية والسياسية التي طالبت بالفصل بين الدين وأصول الحكم، ما تزال إلى حد الآن نابعة من قناعات ومطالب المفكرين والسياسيين، لكن الأمر لن يتحقق على أرض الواقع، إلا من خلال حركة من داخل الفكر الديني والمؤسسة الدينية، تنطلق من قناعة راسخة بأن مصلحة الإسلام تكمن حقا في أن يكون quot;الدين كله للهquot;، وأن يكون تأثيره الاجتماعي والسياسي تأثيرا بعيد المدى، غير مباشر، أخلاقي بالدرجة الأولى، إذ لا غنى للسياسة عن الفضيلة، و الأديان مصدر عظيم ملهم للفضائل.
و ذكرت بأن مصير العلماء الإصلاحيين المسلمين، الذين وعوا فكرة أن الإسلام ملك الأمة وأن مصلحته في المحافظة عليه رأسمال جمعي للمسلمين، بعيدا عن نوازع السياسة واختلاف تياراتها وبرامجها وأحزابها، قد كان مصيرا بائسا ابتداء من ابن رشد وانتهاء بعلي عبد الرازق و أحمد صبحي منصور، غير أن لا مندوحة من الإصرار على الإصلاح من داخل المؤسسات العقدية الإسلامية وتحرير الفكر الإسلامي من ربقة الكهنوتية، وكما جاء كالفن ولوثر وغيرهم من مصلحي المسيحية، فإنه لا بد من ظهور من سيقوم بالثورة اللاهوتية ذاتها من داخل الإسلام.
إن عدم حسم الموقف من علاقة الدين بالدولة في جانب الفكر والفقه الإسلاميين، والاعتماد على قوة السلطة في فرض مشروع الفصل بين الدين والممارسة السياسية، سيبقى جذوة المشكلة قائمة، كما النار تحت الرماد، و ستضل تتهدد الدولة المدنية برامج ثيوقراطية، فصلابة النظام العلماني الديمقراطي في أوربا على سبيل المثال، ليست مستمدة فحسب من علمانية القوى السياسية والايديولوجية، بل أيضا من علمانية المؤسسات الكنسية المسيحية، ومن علمانية المؤسسات الدينية الأخرى الجديدة، اليهودية والإسلامية.
لقد طرح علي الصديق محمد القوماني، وهو ناشط حقوقي وسياسي معروف في تونس، وأحد قادة مجموعة الإسلاميين التقدميين، الذين ظهروا في سبعينيات القرن العشرين، مجموعة من الأسئلة عقب انتهاء المحاضرة، من بينها سؤال استوقفني كثيرا، يثبت رجاحة القول بأن عملية الفصل بين الدين والحكم، لا مناص من أن تكون تجسيدا لقناعة دينية وسياسية في آن، وإلا فإن احتمالات انتكاسها واردة في كل لحظة وحين، مهما بلغت شوكة الدولة من قوة.
و يستفسر سؤال الأستاذ القوماني عن الطبيعة التي ستصبح عليها إدارة المساجد وسائر المؤسسات الدينية الإسلامية في حال جرى الفصل بين الدين وشؤون السياسة، ففي هذه الحالة سيكون المفترض أن لا تتدخل الدولة في شؤون المساجد، في مقابل التزام المؤسسات الدينية بعدم التدخل في الشؤون السياسية.
من الناحية النظرية يعتقد كثير من أنصار العلمانية والديمقراطية بأن الضرر كان غالبا مصدره تهديد الزعماء الدينيين والإسلاميين للحياة السياسية، والواقع يثبت أن تحرير المؤسسة السياسية من سلطة الكهنوت لا يشكل إلا وجها واحدا من العملة، وأن تسيير المؤسسات الدينية بمنأى عن تدخل أو توجيه الدولة، يكتنه الكثير من المخاطر، لعل أقربها للحدوث وقوع هذه المؤسسات تحت سيطرة جماعات الغلو والتطرف.
إن دولا إسلامية كتركيا أو تونس، تبنت أنظمة سياسية علمانية أو شبه علمانية، لم تستطع أن تترك المساجد خارج دائرة الإشراف الرسمي، وهو أمر يفترض أنه متناقض مع أحد أهم المبادئ العلمانية، وهو مبدأ الفصل بالدين والحكم، غير أن التبرير المعتمد في إلحاق مسؤولية الإشراف على المساجد بوزارة الشؤون الدينية المستحدثة، هو أن الدولة هي أفضل ضامن لحياد المؤسسات الدينية وجعلها فعلا ملكا للمؤمنين جميعا، وليس لجماعات أو أحزاب بعينها تحتكر النطق باسم الله وتزعم تمثيلها دون غيرها الإسلام الصحيح.
و لأن الدولة التركية أو التونسية قد اضطرت للاضطلاع بهذه المهمة، فقد وجدت نفسها باستمرار في مواجهة اتهامات دينية وعلمانية على السواء، تتهم أنظمتها بتسخير الدين لأهداف سياسية، فهل ثمة ضمانات فعلا تحول دون هيمنة المتطرفين وغلاة الدين على المساجد في حال تخلت الدولة عن أي دور إشرافي أو توجيهي للمؤسسات الدينية؟
تقول الآية القرآنية quot;إن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداquot; (سورة الجن، آية 18)، وهي آية صريحة في بيانها أن المؤسسة المسجدية يجب أن تكون خالصة للإيمان، و أن لا تكون مجالا لمزايدة المزايدين و تنافس المتنافسين، غير أن التاريخ الإسلامي الممتد إلى اليوم يؤكد أن المساجد كانت في كثير من الأحيان غير خالصة لله، وأن منابرها كانت بوقا للدعوة للسلاطين والحكام على اختلاف سيرهم ومرجعياتهم، وأن التقاليد والأعراف السائدة قد غلبت على أصل ومنطوق الآية، ولو التزم المؤمنون صريح قول الله تعالى لنأت المساجد بنفسها عن صراعات البشر وحروبهم السياسية والعسكرية التي لا تنتهي.
ما يخلص إليه، أن الثورة الإصلاحية داخل الفكر والفقه الإسلاميين ضرورية لضمان أن تكون المساجد لله فقط، وأن تضطلع بدورها الإيماني الصرف في مقابل اضطلاع مؤسسات الحكم بوظيفتها السياسية، و بدون هذه الثورة الفكرية والفقهية الإسلامية فسيكون من المستحيل تقريبا إقامة نظام فصل حقيقي، لأن الدولة المدنية ستضطر لحماية نفسها بالتدخل في شؤون المسجد باعتباره مجالا محتملا للعمل ضدها.