زرت قبل أسابيع للمرة الثانية مدينة قازان، عاصمة جمهورية تتارستان المتمتعة بالحكم الذاتي في إطار الفيدرالية الروسية، بدعوة كريمة من الجامعة التربوية، وهي واحدة من أربع جامعات حكومية في المدينة، يعود تأسيسها إلى ما قبل مائة وثلاثين عاما، ويفخر طاقمها الإداري والتعليمي بكونها إحدى أشهر مؤسسات تكوين المدرسيين في مختلف المجالات العلمية، ومن بين خريجها الكثير من العلماء المشهورين على الصعيدين الروسي و التتري، وثمة طموح لدى القائمين عليها في تنمية علاقاتها مع جامعات الدول العربية والإسلامية، لا يقابله طموح مماثل لدى العرب والمسلمين، الذين يجهل غالبيتهم ربما، أين تقع قازان أو هل ثمة بلد من الأصل يسمى تتارستان؟
و تتارستان حسب سجلات التاريخ، بلد لإحدى الشعوب التترية عرف باسم quot;بلغار الفولغاquot;، ويقال أنهم أبناء عمومة لشعب بلغاريا الحالية الواقعة في البلقان، هاجروا معا من مواطنهم الأصلية في آسيا الوسطى خلال القرنين التاسع والعاشر الميلاديين، إلى مصب نهر الفولغا العظيم على الضفاف الشمالية للبحر الأسود، وهناك انقسموا إلى قسمين، قبائل اتجهت شمالا بمحاذاة النهر إلى حيث تتارستان الحالية، اعتنقوا الإسلام لاحقا على أيدي الدعاة العرب والأتراك والفرس، و قبائل أخرى عبروا البحر إلى شبه جزيرة البلقان وأسسوا مملكة على ضفاف نهر الدانوب، تعرف اليوم بجمهورية بلغاريا، و اعتنقوا المسيحية الأرثوذكسية على غرار شعوب السلاف الجنوبية.
و ينظر التتر في تتارستان اليوم إلى الإسلام باعتباره مقوما من مقومات هويتهم القومية، ويعملون من خلال جامعتهم الإسلامية حديثة العهد بالتأسيس، والتي زارها قبل فترة الرئيس مدفيدف مؤكدا على دورها في خدمة روسيا الجديدة، على التعريف بالتراث الإسلامي التتري وعلى تأويل العلماء التتر للنصوص الدينية على نحو عزز التعايش السلمي والتسامح بين المسلمين وغير المسلمين، وخصوصا منهم الروس المسيحيين الذين يقارب تعدادهم الأربعين بالمائة من سكان الجمهورية الصغيرة، بينما يصل تعداد التتر أنفسهم إلى نصف الساكنة البالغة أربعة ملايين.
وقد عبر لي بعض المسئولين في الجامعة الإسلامية في قازان، عن امتعاضهم من سعي بعض الدول الإسلامية لتصدير مذاهبهم الفقهية وتأويلاتهم العقائدية إلى تتارستان، بينما يرون أن الشعب التتري مسلم سني العقيدة حنفي المذهب منذ قرون، وأنه لا يحتاج دروسا في الفقه والعقيدة من أحد، بقدر ما يحتاج إلى تعاون مع العالم العربي الإسلامي على أساس من الاحترام المتبادل والاستفادة من المشتركة من الخبرات المتراكمة في هذا المجال أو ذاك لدى الجانبين، وأن لدى المسئولين التتر عن الشؤون الإسلامية تصميم على الاعتماد على الذات في تطوير الفقه الإسلامي وتكييف التشريع الديني مع الخصوصية المحلية، بما يخدم واقع التسامح والتواصل الإيجابي بين المسلمين وجيرانهم.
و لا يكتفي المشرفون على الحالة الإسلامية في تتارستان، على مستوى طموحهم الإصلاحي في خدمة مسلمي بلدهم فحسب، بل يتطلعون بثقة إلى خدمة المسلمين في سائر أنحاء روسيا، سواء أولئك الذين يعيشون في جمهوريات تتمتع بالحكم الذاتي كبشكيريا المجاورة أو الشيشان وأنغوشيا البعيدتين في القوقاز، أو أولئك الذين يعيشون قريبا من موسكو ويحظون بعلاقات مميزة مع الكرملين ويتمتعون بحريات كبيرة في ممارسة معتقداتهم الدينية ويملكون الكثير من الهيئات والأوقاف الإسلامية.
والخلاصة التترية الممكنة، أن للإسلام في تتارستان تأويل محلي، فهو من جهة مقوم أساسي من مقومات الشخصية القومية، ففي قلب الكرملين القازاني أصرت الرئاسة التترية على انتصاب مسجد quot;غول شريفquot; بألوان قبابه الزرقاء الزاهية و مناراته العثمانية الشاهقة، إلى جانب المقرات الحكومية الأخرى، وهو من جهة ثانية دين وعقيدة شخصية لكل من اعتنقه، أما المواطنة فمتساوية للجميع مسلمين ومسيحيين ويهود وغيرهم، وأما التأويل فمنتج لقيم المحبة والأخوة والتسامح، رافض للكراهية والتمييز العنصري وسائر أشكال العنف والتطرف، وتلك هي ملامح الرسالة الإسلامية التترية إلى المسلمين أينما كانوا، وإلى البشرية.
في طريق عودتي إلى تونس، مررت لفترة وجيزة باسطنبول، في غمرة الحملات الانتخابية، وقد بدت لي حاضرة العثمانيين العريقة، وكأنها غمرت بمصابيح العدالة والتنمية وراياتهم البرتقالية الإصلاحية، عقودا طويلا بعد سقوط الخلافة ورحيل السلطنة، في حالة رأى فيها البعض ردة إلى الوراء، بينما أرى فيها شخصيا عودة إلى الجادة الإصلاحية الحقيقية، فقد فقدت تركيا خلال الحقبة الكمالية الراديكالية دورها كقاطرة إصلاحية للعالم الإسلامي عندما انبتت عن محيطها، فيما عادت مع أردوغان إلى لعب وظيفتها الطبيعية الناجمة عن مكانتها التاريخية وموقعها الجغرافي، و الحالة هنا أشبه ما يكون بعداء ينتمي إلى فريق يتسابق مع غيره في حلبة، فارقه بأشواط في المقدمة، قبل أن يقرر أنه من الأفيد له العودة قليلا إلى الوراء ليستمر في قياده فريقه في السباق دون أن يفقد مكانه في الرأس.
و تلتقي تتارستان مع تركيا في أكثر من رابط وخصوصية، فمن الناحية العرقية، يعتبر الترك والغز والتتر والمغول أبناء عمومة وجيرة، فأصولهم جميعا تعود إلى سهوب آسيا الوسطى، ومنها خرجوا إلى العالم، فاعتنقوا في طريقهم الإسلام وشكلوا في مجملهم أحد أهم المساهمين في صناعة تاريخه وتجاربه الامبراطورية والسياسية، وعملوا في عمومهم على توسيع دائرة المؤمنين به و رقعة الأرض التي ساد فيها، من الهند جنوبا إلى روسيا شمالا، ومن الصين شرقا إلى البلقان غربا.
و في التاريخ الإسلامي القريب، تشابه وضع تتارستان مع تركيا أيضا، فقد عرف كلاهما ولمدة جاوزت النصف قرن، نظاما سياسيا متطرفا في علمانيته، حيث عمل الشيوعيون والكماليون على الرغم من عدائهما المعلن على محاربة الإسلام كدين، وعلى إلغائه كعقيدة. وقد كافح المؤمنون التتر والأتراك طويلا للبقاء كمسلمين والحفاظ على الحد الأدنى من هويتهم الإيمانية.
غير أن قساوة التجربتين الشيوعية والكمالية قد أفادت برأيي، الفكر الإسلامي التتري والتركي على السواء، حيث ثمة إصرار لدى التيارات الدينية الغالبة في تتارستان وتركيا على بلورة إسلام حداثي عصري تنويري يتعايش بإيجابية ودون عقد مع القيم السياسية والفكرية المعاصرة، وفي مقدمتها قيم الفصل بين الدين والحكم والديمقراطية والتسامح وحقوق الإنسان.
نهاية الرحلة كانت في مكان يسمى الوطن، فلتونس التي يصلها من قازان مرورا باسطنبول خط مائل من الأعلى في الشمال الشرقي إلى الأسفل في الجنوب الغربي للعالم الإسلامي، سبق في العمل على إصلاح الفكر الإسلامي، حيث استهلت المسيرة التنويرية منذ القرن الرابع عشرة مع مفكر إسلامي عظيم يدعى ابن خلدون لم ينتبه المسلمون إلى أطروحات النقدية إلا بعد خمسة قرون من وفاته.
و قد تجددت الحالة مع خير الدين باشا و ابن أبي الضياف في نهاية القرن التاسع عشرة، والطاهر الحداد والطاهر بن عاشور وغيرهم في بداية القرن العشرين، لتصل إلى أوجها مع التجربة التطبيقية التي مارسها الزعيم الرئيس الحبيب بورقيبة منذ الأيام الأولى لنشأة الدولة المستقلة، بسن مجلة الأحوال الشخصية وسواها من الإجراءات الثورية الهادئة التي وضعت أسس ما يمكن الاصطلاح عليه بquot;الإسلام التونسيquot;، وهو التأويل الديني الداعي إلى إيمان إسلامي يحث معتنقه على التعايش بايجابية و بلا عقد مع الإنتاج العلمي والقيم الإنسانية.
و في الوطن يعمل مفكرون مسلمون تونسيون بجد و بلا كلل على تقديم مراجعات نقدية حقيقية، لا تطال فقط مراحل التاريخ الإسلامي المتأخرة التي كرست التخلف والدونية و أغلقت باب الاجتهاد، بل تذهب بطموحها بعيدا، إلى دراسة أسس الدين في مراحل الإسلام المبكر، وإلى أسس الفقه والفكر الإسلاميين في نصوص القرءان والسنة القاعدية، و لأسماء علمية بارزة من قبيل هشام جعيط واحميدة النفير ومحمد الطالبي و عبد المجيد الشرفي و أبو يعرب المرزوقي و صلاح الدين الجورشي ومحمد الحداد وبسام الجمل وسواهم إسهامات متميزة في مجال تجديد الفكر الديني، لن تقف إفادتها عند حدود الوطن بل ستسري بردا وسلاما في عموم النطاق العربي الإسلامي المريض بهيمنة تأويلات مأزومة معينها أفكار الانغلاق والتقليد والتطرف البالية، هذا على الرغم مما قد يبدو في ظاهر هذه الأطروحات من جدل وتناقض وتباعد في النهايات والاستنتاجات.
من قازان إذا، مرورا باسطنبول، ووصولا إلى تونس، يجتهد بعض البشر المتنورين ليعيش الوطن في تصالح مع الذات، مع الإسلام والعصر. ومن تتارستان، مرورا بتركيا، ووصولا إلى أفريقية، قامت الدولة على اعتبار الإسلام مقوما للهوية الوطنية ورأسمال للأمة لا يجوز لأحد الاتجار به أو تسخيره لخدمة أغراض فئوية ضيقة أو لبذر مشاعر الحقد والكراهية، وفي التجارب التترية والتركية والتونسية على اختلافها في التفاصيل وظروف الزمان والمكان عبرة لمن يعتبر من أولي الألباب.
و تتارستان حسب سجلات التاريخ، بلد لإحدى الشعوب التترية عرف باسم quot;بلغار الفولغاquot;، ويقال أنهم أبناء عمومة لشعب بلغاريا الحالية الواقعة في البلقان، هاجروا معا من مواطنهم الأصلية في آسيا الوسطى خلال القرنين التاسع والعاشر الميلاديين، إلى مصب نهر الفولغا العظيم على الضفاف الشمالية للبحر الأسود، وهناك انقسموا إلى قسمين، قبائل اتجهت شمالا بمحاذاة النهر إلى حيث تتارستان الحالية، اعتنقوا الإسلام لاحقا على أيدي الدعاة العرب والأتراك والفرس، و قبائل أخرى عبروا البحر إلى شبه جزيرة البلقان وأسسوا مملكة على ضفاف نهر الدانوب، تعرف اليوم بجمهورية بلغاريا، و اعتنقوا المسيحية الأرثوذكسية على غرار شعوب السلاف الجنوبية.
و ينظر التتر في تتارستان اليوم إلى الإسلام باعتباره مقوما من مقومات هويتهم القومية، ويعملون من خلال جامعتهم الإسلامية حديثة العهد بالتأسيس، والتي زارها قبل فترة الرئيس مدفيدف مؤكدا على دورها في خدمة روسيا الجديدة، على التعريف بالتراث الإسلامي التتري وعلى تأويل العلماء التتر للنصوص الدينية على نحو عزز التعايش السلمي والتسامح بين المسلمين وغير المسلمين، وخصوصا منهم الروس المسيحيين الذين يقارب تعدادهم الأربعين بالمائة من سكان الجمهورية الصغيرة، بينما يصل تعداد التتر أنفسهم إلى نصف الساكنة البالغة أربعة ملايين.
وقد عبر لي بعض المسئولين في الجامعة الإسلامية في قازان، عن امتعاضهم من سعي بعض الدول الإسلامية لتصدير مذاهبهم الفقهية وتأويلاتهم العقائدية إلى تتارستان، بينما يرون أن الشعب التتري مسلم سني العقيدة حنفي المذهب منذ قرون، وأنه لا يحتاج دروسا في الفقه والعقيدة من أحد، بقدر ما يحتاج إلى تعاون مع العالم العربي الإسلامي على أساس من الاحترام المتبادل والاستفادة من المشتركة من الخبرات المتراكمة في هذا المجال أو ذاك لدى الجانبين، وأن لدى المسئولين التتر عن الشؤون الإسلامية تصميم على الاعتماد على الذات في تطوير الفقه الإسلامي وتكييف التشريع الديني مع الخصوصية المحلية، بما يخدم واقع التسامح والتواصل الإيجابي بين المسلمين وجيرانهم.
و لا يكتفي المشرفون على الحالة الإسلامية في تتارستان، على مستوى طموحهم الإصلاحي في خدمة مسلمي بلدهم فحسب، بل يتطلعون بثقة إلى خدمة المسلمين في سائر أنحاء روسيا، سواء أولئك الذين يعيشون في جمهوريات تتمتع بالحكم الذاتي كبشكيريا المجاورة أو الشيشان وأنغوشيا البعيدتين في القوقاز، أو أولئك الذين يعيشون قريبا من موسكو ويحظون بعلاقات مميزة مع الكرملين ويتمتعون بحريات كبيرة في ممارسة معتقداتهم الدينية ويملكون الكثير من الهيئات والأوقاف الإسلامية.
والخلاصة التترية الممكنة، أن للإسلام في تتارستان تأويل محلي، فهو من جهة مقوم أساسي من مقومات الشخصية القومية، ففي قلب الكرملين القازاني أصرت الرئاسة التترية على انتصاب مسجد quot;غول شريفquot; بألوان قبابه الزرقاء الزاهية و مناراته العثمانية الشاهقة، إلى جانب المقرات الحكومية الأخرى، وهو من جهة ثانية دين وعقيدة شخصية لكل من اعتنقه، أما المواطنة فمتساوية للجميع مسلمين ومسيحيين ويهود وغيرهم، وأما التأويل فمنتج لقيم المحبة والأخوة والتسامح، رافض للكراهية والتمييز العنصري وسائر أشكال العنف والتطرف، وتلك هي ملامح الرسالة الإسلامية التترية إلى المسلمين أينما كانوا، وإلى البشرية.
في طريق عودتي إلى تونس، مررت لفترة وجيزة باسطنبول، في غمرة الحملات الانتخابية، وقد بدت لي حاضرة العثمانيين العريقة، وكأنها غمرت بمصابيح العدالة والتنمية وراياتهم البرتقالية الإصلاحية، عقودا طويلا بعد سقوط الخلافة ورحيل السلطنة، في حالة رأى فيها البعض ردة إلى الوراء، بينما أرى فيها شخصيا عودة إلى الجادة الإصلاحية الحقيقية، فقد فقدت تركيا خلال الحقبة الكمالية الراديكالية دورها كقاطرة إصلاحية للعالم الإسلامي عندما انبتت عن محيطها، فيما عادت مع أردوغان إلى لعب وظيفتها الطبيعية الناجمة عن مكانتها التاريخية وموقعها الجغرافي، و الحالة هنا أشبه ما يكون بعداء ينتمي إلى فريق يتسابق مع غيره في حلبة، فارقه بأشواط في المقدمة، قبل أن يقرر أنه من الأفيد له العودة قليلا إلى الوراء ليستمر في قياده فريقه في السباق دون أن يفقد مكانه في الرأس.
و تلتقي تتارستان مع تركيا في أكثر من رابط وخصوصية، فمن الناحية العرقية، يعتبر الترك والغز والتتر والمغول أبناء عمومة وجيرة، فأصولهم جميعا تعود إلى سهوب آسيا الوسطى، ومنها خرجوا إلى العالم، فاعتنقوا في طريقهم الإسلام وشكلوا في مجملهم أحد أهم المساهمين في صناعة تاريخه وتجاربه الامبراطورية والسياسية، وعملوا في عمومهم على توسيع دائرة المؤمنين به و رقعة الأرض التي ساد فيها، من الهند جنوبا إلى روسيا شمالا، ومن الصين شرقا إلى البلقان غربا.
و في التاريخ الإسلامي القريب، تشابه وضع تتارستان مع تركيا أيضا، فقد عرف كلاهما ولمدة جاوزت النصف قرن، نظاما سياسيا متطرفا في علمانيته، حيث عمل الشيوعيون والكماليون على الرغم من عدائهما المعلن على محاربة الإسلام كدين، وعلى إلغائه كعقيدة. وقد كافح المؤمنون التتر والأتراك طويلا للبقاء كمسلمين والحفاظ على الحد الأدنى من هويتهم الإيمانية.
غير أن قساوة التجربتين الشيوعية والكمالية قد أفادت برأيي، الفكر الإسلامي التتري والتركي على السواء، حيث ثمة إصرار لدى التيارات الدينية الغالبة في تتارستان وتركيا على بلورة إسلام حداثي عصري تنويري يتعايش بإيجابية ودون عقد مع القيم السياسية والفكرية المعاصرة، وفي مقدمتها قيم الفصل بين الدين والحكم والديمقراطية والتسامح وحقوق الإنسان.
نهاية الرحلة كانت في مكان يسمى الوطن، فلتونس التي يصلها من قازان مرورا باسطنبول خط مائل من الأعلى في الشمال الشرقي إلى الأسفل في الجنوب الغربي للعالم الإسلامي، سبق في العمل على إصلاح الفكر الإسلامي، حيث استهلت المسيرة التنويرية منذ القرن الرابع عشرة مع مفكر إسلامي عظيم يدعى ابن خلدون لم ينتبه المسلمون إلى أطروحات النقدية إلا بعد خمسة قرون من وفاته.
و قد تجددت الحالة مع خير الدين باشا و ابن أبي الضياف في نهاية القرن التاسع عشرة، والطاهر الحداد والطاهر بن عاشور وغيرهم في بداية القرن العشرين، لتصل إلى أوجها مع التجربة التطبيقية التي مارسها الزعيم الرئيس الحبيب بورقيبة منذ الأيام الأولى لنشأة الدولة المستقلة، بسن مجلة الأحوال الشخصية وسواها من الإجراءات الثورية الهادئة التي وضعت أسس ما يمكن الاصطلاح عليه بquot;الإسلام التونسيquot;، وهو التأويل الديني الداعي إلى إيمان إسلامي يحث معتنقه على التعايش بايجابية و بلا عقد مع الإنتاج العلمي والقيم الإنسانية.
و في الوطن يعمل مفكرون مسلمون تونسيون بجد و بلا كلل على تقديم مراجعات نقدية حقيقية، لا تطال فقط مراحل التاريخ الإسلامي المتأخرة التي كرست التخلف والدونية و أغلقت باب الاجتهاد، بل تذهب بطموحها بعيدا، إلى دراسة أسس الدين في مراحل الإسلام المبكر، وإلى أسس الفقه والفكر الإسلاميين في نصوص القرءان والسنة القاعدية، و لأسماء علمية بارزة من قبيل هشام جعيط واحميدة النفير ومحمد الطالبي و عبد المجيد الشرفي و أبو يعرب المرزوقي و صلاح الدين الجورشي ومحمد الحداد وبسام الجمل وسواهم إسهامات متميزة في مجال تجديد الفكر الديني، لن تقف إفادتها عند حدود الوطن بل ستسري بردا وسلاما في عموم النطاق العربي الإسلامي المريض بهيمنة تأويلات مأزومة معينها أفكار الانغلاق والتقليد والتطرف البالية، هذا على الرغم مما قد يبدو في ظاهر هذه الأطروحات من جدل وتناقض وتباعد في النهايات والاستنتاجات.
من قازان إذا، مرورا باسطنبول، ووصولا إلى تونس، يجتهد بعض البشر المتنورين ليعيش الوطن في تصالح مع الذات، مع الإسلام والعصر. ومن تتارستان، مرورا بتركيا، ووصولا إلى أفريقية، قامت الدولة على اعتبار الإسلام مقوما للهوية الوطنية ورأسمال للأمة لا يجوز لأحد الاتجار به أو تسخيره لخدمة أغراض فئوية ضيقة أو لبذر مشاعر الحقد والكراهية، وفي التجارب التترية والتركية والتونسية على اختلافها في التفاصيل وظروف الزمان والمكان عبرة لمن يعتبر من أولي الألباب.
التعليقات