يواظب كثير من مفكري الحركات الإسلامية في العالم العربي، على إرجاع جذور حركة quot;الإخوان المسلمينquot;، حركتهم الأم، إلى ما عرف خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشرة والنصف الأول من القرن العشرين، بحركة الإصلاح الإسلامي، التي أسس لها وقادها في مراحلها الأولى جمال الدين الأفغاني أو جمال الدين الأسد آبادي، المولود في إيران سنة 1838 والمتوفى في اسطنبول سنة 1897، و قد كان هدف الحركة الأساسي تجديد الفكر الإسلامي على نحو يسمح للمسلمين باللحاق بركب التقدم والحداثة.
و يضع الإسلاميون العرب لحركة الإصلاح الإسلامي سلسلة متشابكة الحلقات من القادة والزعماء، تستهل بالأفغاني، وتمر بالشيخ محمد عبده والشيخ محمد رشيد رضا، لتنتهي بمؤسس و زعيم حركة الإخوان المسلمين الشيخ حسن البنا، على اعتبار أن هذه الحركة قد جاءت بمثابة تتويج لأعمال وأطوار الحركة الإصلاحية، فيما يعتقد آخرون ndash; وأنا من بينهم- أن مسار حركة الإصلاح قد انكسر مع وصول الأمانة إلى رشيد رضا الذي ابتدأ حياته إصلاحيا وانتهى سلفيا، لتكون حركة الإخوان من الناحية الفكرية والسياسية إعلانا على الفشل وليست دليلا على النجاح، إن كانت هناك صلة بين الحركتين من الأصل، وهو أمر يحتاج إلى مزيد من البحث والتدقيق العلميين.
وتتوارث أجيال الإسلاميين العرب ndash; وغير العرب ربما- حلقة الأسماء المذكورة، أي الأفغاني و عبده ورشيد رضا و البنا، وهناك من يضيف إليهم سيد قطب، في سياق شبيه بذلك الذي ركب من قبل للخلفاء الراشدين أو لأئمة الشيعة السبعة أو الثمانية أو الإثني عشرة، دونما تمحيص أو تدقيق أو انتباه، فقد رفعت الأسماء عند كثير إلى درجة القداسة، وأضحى وضعهم في دائرة الضوء وتفقد مسيرة حياتهم الحافلة بنقاط التساؤل والإثارة، نوعا من التعدي على معروف من الدين بالضرورة.
لكن الأهم في كل سجال حول الصلة المزعومة أو الممكنة بين حركة الإصلاح وحركة الإخوان، تظل برأيي الكشف عن كم التناقضات المهول في سيرة الرجال الأربعة المذكورين، سواء على مستوى مرجعياتهم الفكرية والدينية أو سلوكياتهم الشخصية، بل لعلي أقول بأن كل دراسة موضوعية لتراجم هؤلاء ستفضي حتما إلى مسارعة غالبية الإسلاميين إلى إعلان البراءة من أي صلة بالزعيم المؤسس جمال الدين الأفغاني، وهو إعلان لن يغضبه على أية حال، ليس فقط لأن أفكاره ومشاريعه كانت في أسسها ومنطلقاتها وحتى نتائجها مخالفة ومتناقضة مع تلك التي عرف بها الإخوان، بل لأن ارتباطاته الخاصة وسلوكه الشخصي يحطم تلك الصورة التي حاول الإسلاميون دائما رسمها لقادتهم وزعمائهم باعتبارهم أطهارا وأخيارا وأقرب البشر إلى العصمة بعد الأنبياء والمرسلين.
لقد شكلت سيرة جمال الدين الأفغاني موضوعا لمئات الكتب والدراسات والمقالات والسجالات، التي كتبها مفكرون و باحثون عرب ومسلمون وغربيون، من بينهم المعروف والمجهول، والأكاديمي والسياسي، والصديق والعدو، والبعيد والقريب، غير أن هذه الكتابات جميعها تكاد تجمع فيما بينها على مجموعة من القضايا والأمور، تكفي لبيان الفارق المشار إليه سلفا، ولتشكيل صورة ولو نسبية عن ملامح رجل ملأ الدنيا وشغل الناس وأسال حبرا غزيرا، لكنه ظل مع كل هذا غامضا شديد الغموض قابلا كل صورة و تراثه مناط نزاع، ومن هذه القضايا والأمور ما يلي:
1-غموض أصله، فقد نسب الأفغاني نفسه عندما جاء إلى مصر سنة 1871، واستقر بها حتى سنة 1879، إلى بلاد الأفغان، لكن وثائقه الشخصية التي نشرت سنة 1963 من قبل جامعة طهران، أثبتت أنه إيراني الأصل، وأنه لم يذهب إلى أفغانستان إلا وعمره 27 عاما، ليكون قريبا من أميرها الدوست محمد آنذاك. كما أظهرت الوثائق أيضا أنه تلقب بquot;الاستانبوليquot; وquot;الروميquot; و ألقاب أخرى كثيرة منسوبة إلى أماكن في المنطقة. ولا يزال التنازع شديدا بين الإيرانيين والأفغان حتى اليوم، حول انتماء الرجل القومي.
2-غموض مذهبه، ففي حين ذكر تلميذه محمد عبده أنه سني وأنه كان يتعبد على طريقة أهل السنة، كشفت وثائقه الشخصية أنه شيعي النحلة والمنشأ والتربية، بل إنه درس في النجف الأشرف و اشتغل سنينا بالشأن الإيراني معارضا شرسا للشاه ناصر الدين القاجاري، الذي قيل أنه اغتيل على يد أحد تلاميذ جمال الدين. و قد عرف الأفغاني بترديده لخاصته مبدأ شيعيا معروفا quot;أنه من لا تقية له لا دين لهquot;.
3-غموض علاقته بالشيخية والبابية والبهائية، التي ظهرت في الأوساط الشيعية بين العراق وإيران خلال القرن التاسع عشرة، وشكلت عنصر المعارضة والقلاقل الرئيسي للنظام الشاهنشاهي، فقد تحدثت مصادر تاريخية عن تأثير كبير لأفكار هذه الفرق والديانات الناشئة على الأفغاني، وربما على عائلته، بل لقد ثبت أن الأفغاني طرد من اسطنبول سنة 1870، بعد قوله في محاضرة ألقاها في دار الفنون أن quot;النبوةquot; صنعة من الصنائع، و هي فكرة قال بها الشيخ أحمد الأحسائي مؤسس الشيخية، وقال بها الباب والبهاء من بعده. و المعروف أن الفرق المذكورة تعد كافرة ومارقة عن الملة في نظر غالبية المسلمين السنة والشيعة على السواء.
4-غموض صلته بالماسونية، فقد أثبت المؤرخون أن جمال الدين الأفغاني قد انتمى لأول مرة للحركة الماسونية في مصر سنة 1876، وأصبح رئيسا لأحد محافلها الكبرى، قام بنفسه بتأسيسه ودعا إلى عضويته الكثير من معارفه وتلاميذه، كان من بينهم الخديوي توفيق قبل أن يتقلد مهام الخديوية بعد والده إسماعيل. كما توضح الوثائق أن الأفغاني واصل اتصالاته بالماسونيين بعد مغادرته مصر إلى الهند، ثم إقامته لاحقا في فرنسا وأنجلترا. والمعروف أيضا أن الماسونية في نظر الإسلاميين حركة صهيونية باطنية تهدف إلى تدمير الأخلاق الحميدة ونشر الرذائل.
5-غموض موقفه من التدين، فقد ذكر الشيخ محمد عبده فيما يشبه الرد على تهم وجهت للرجل، أنه كان ملتزما بفرائض الإسلام متعبدا على طرق أهل السنة، لكن آخرين ممن عاشروه، ومن بينهم بعض أصدقائه وتلاميذه، قد أكدوا على أنه لم يكن متدينا، إذ لم يكن مقيما للصلاة أو مؤديا للصوم، وكان ارتباطه بالإسلام ارتباطا سياسيا وفكريا لا التزاما دينيا. بل إن بعض الدارسين يشير إلى موقف نقدي لاذع للإسلام سجله الأفغاني في رده على الفيلسوف الفرنسي رينان، وهو رد لم ينقل إلى العربية، أو نقل في صيغة مشوهة وغير أمينة، حتى أن رينان نفسه وصف الأفغاني كما تنقل بعض المصادر، بأنه يذكره بكبار الملحدين المسلمين الكبار من أمثال إبن سينا وإبن رشد ممن أسدوا جليل الخدمات للبشرية.
6-غموض صلته بالمرأة، فعلى الرغم مما يشبه إجماع دارسي سيرته، على أنه كان أقرب إلى العزوف عن النساء، اللاتي كانت علاقاته بهن محدودة جدا، إلا أنه ثبت أيضا أنه كان على صلة بفتاة ألمانية عزباء في باريس، أظهرت في رسائلها اللاحقة إليه كثيرا من العشق له، كما أظهرت وثائق المخابرات الفرنسية، أن الفتاة كانت سببا في خصومة حادة بين الأفغاني ومؤجره الإيطالي الذي كان يرفض صعودها إليه في شقته. وتظل هذه التهمة برأيي، أقل خدشا لصورة الرجل من تهم أخرى واجهها في حياته وأثناء مماته، من قبيل شرب الخمر أو الشذوذ أو ارتياد أماكن لهو وترفيه.
7-غموض علاقته بالمستعمر الغربي، وخصوصا الأنجليزي، فعلى الرغم من قناعة جل الباحثين في سيرة الأفغاني، بأن الخيط الرفيع الذي ربط مختلف مراحل حياته الزاخرة بالأحداث والتقلبات والقضايا والتغيرات، هو إيمان الرجل العظيم بأهمية العمل على تحرير أرض المسلمين من الاستعمار الأوربي، كخطوة أولى على درب إنجاز نهضتهم وتقدمهم، فإن علاقات الرجل المتناقضة والمتبدلة، ورهاناته المتحولة على الدوام، جعلت من العسير القول بأن للرجل خطوطا حمراء في مواقفه أو معاملاته، على نحو ما يصور الإسلاميون أنفسهم عندما يتعلق الأمر بالصلات الممكنة مع الدول الغربية. لقد عادى الأفغاني الأنجليز ثم عرض صداقته وخدماته عليهم، وعارض الروس ثم طلب مودتهم، وناهض الفرنسيين ثم أقام عندهم.
إن استعراض مواطن الغموض والجدل هذه في حياة مفكر وسياسي عظيم كجمال الدين الأفغاني، لا تهدف بأية حال إلى العمل على تشويه صورته أو الإنقاص من قيمة دوره أو إسهاماته الإصلاحية، بقدر ما هو محاولة بسيطة ترفد جهود محاربة الايديولوجيات المغلقة التي تعيش على تكريس الكسل الفكري وقتل روح النقد والتفكير الحر لدى الأجيال الشابة من أتباعها الحاليين والممكنين؟