اعترف بداية أنني اقتبست هذا العنوان من اسم آخر أفلام الصديق المخرج المبدع مجدي أحمد علي quot;خلطة فوزيةquot;. وفوزية هذه امرأة مصرية بسيطة تسكن أحد أحياء القاهرة الشعبية، وقد تزوجت أربع مرات واستطاعت أن تبقى على علاقة متينة مع أزواجها الأربعة، الذين يجتمعون في منزلها كل أسبوع لتناول وجبة طعام جماعي، وليعربوا في ما يشبه المبارزة عن عشقهم جميعا لفوزية، التي تمكنت من نسج حالة اجتماعية نادرة في محيطها، وقلبت عن قصد أو بدونه المعادلة السائدة والمعروفة عن المرشحين لحالات الضعف والقوة.
ما شجعني أيضا على التمسك بهذا العنوان السينمائي وأنا أسعى إلى تلخيص رؤيتي للسياسة القطرية الحالية، قراءاتي لبرنامج الدورة الخامسة لمهرجان الجزيرة الوثائقي، الذي كنت عضوا في لجنة تحكيمه خلال دورته الأولى، فقد لاحظت انقلابا كليا في خطه الفني من مهرجان يسعى إلى إثبات جدارته الفنية بين المهرجانات السينمائية العربية، إلى تظاهرة quot;بروباغنداquot; شعبوية، تتخذ من الفيلم الوثائقي غطاء لإسناد مشروع سياسي ينظر إلى الفن كوسيلة دعائية، وفي الأمر سنة quot;إخوانيةquot;، ابتدأت بالقناة الفضائية وتمددت أصابعها الشمولية لتخنق quot; الجزيرةة الوثائقيةquot; فquot;المهرجان التسجيليquot;، وفي مخططها القريب القادم قناة quot;الجزيرة للأطفالquot; المعصومة إلى حد الآن بسمو quot;الشيخةquot;، ولا أحد يعلم إلا الله، كم ستصمد أمام المخططات الغوغائية.
في برنامج مهرجان الجزيرة الوثائقي لهذا العام، لفيف من الأعمال الوثائقية، التي قدم عدد كبير منها من دول كالصين وإيران، واحتفال بالسينما الوثائقية الكوبية، وأفلام تسجيلية لثوريين من أقطار متعددة، جامعهم الأساسي العداء للامبريالية الأمريكية ومقاومة مشاريعها في المنطقة ونصرة المقاومات على أنواعها، وسبحان من وحد المؤمنين بالملاحدة، وألف بين قلوب الإسلاميين والشيوعيين وجعلهم جميعا في سلة قطرية واحدة.
الحقيقة أن التوجه الحالي لمهرجان الجزيرة الوثائقي، منسجم تماما مع توجهات القناة الأم، ومعالم السياسة القطرية، حيث تتجلى خلطة فوزية العجيبة الغريبة غير المفهومة، بوضوح يربك المحللين ويقوي حدة السؤال نفسه، عن منطلقات قطر ودوافعها الحقيقية في بناء مثل هذه التوجهات المتناقضة، والتي حولت البلد الخليجي الصغير إلى ملجأ للمتطرفين الإسلاميين واليساريين الراديكاليين والمغضوب عليهم من الليبراليين الإصلاحيين، وإلى مقر لقناة الجزيرة الثورية وقاعدة العيديد الامبريالية الأمريكية، وإلى قاعدة للتنظيم الدولي للإخوان المسلمين، ومستقر لأول كنيسة في المنطقة الخليجية وأول سفارة إسرائيلية وإن لم تكن معلنة.
قبل سنوات قليلة تابعت الشيخ حمد بن جاسم رئيس الوزراء وأحد مهندسي السياسة القطرية، وهو يدافع بحماسة شديدة عن علاقات بلده مع الدولة العبرية، وعن سابقة بيع الغاز الرخيص والنفط لاسرائيل، مؤكدا حينها على مبدأ الواقعية السياسية وكراهيته الشديدة للازدواجية والشعاراتية، ولا أرا الشيخ حمد اليوم يقدم تفسيرا مقنعا لانسجام دفاعه ذاك مع صرف قطر الملايين على قناة الجزيرة لتكون أهم وسيلة إعلامية تعمل على تحطيم ثقافة الواقعية السياسية وتكرس عقلية الازدواجية والشعاراتية في الشارع العربي، وتقدم بوقا لكل إرهابي ومجرم وسفاح لبث بياناته الدموية إلى العالم بحجة الحيادية الإعلامية والمهنية.
و لم يتردد الشيخ حمد بن جاسم مؤخرا في إعلان توبته على الملأ، فيما يشبه الاعتذار عن دعوة خالد مشعل وأحمدي نجاد إلى القمة العربية الاستثنائية، بعد أن لمس بنفسه أن التجاوز على معطيات الواقع العربي والقفز على حقائقه، لا يمكن أن يخدم أبدا وعمليا المصالح القومية العربية، حتى وإن جعل من شعار الدفاع عنها راية وحيدة، إذ ليس بمقدور أحد أن يفهم كيف أن تسعى دولة عربية إلى التقرب من إيران مثلا، رغبة في تعزيز المصلحة العربية لديها، لتخسر علاقاتها بالضرورة مع مصر أو السعودية، وهما دولتان عربيتان غاية في الأهمية.
و أن تجد شخصية عربية محترمة كالدكتور عزمي بشارة في الدوحة ملاذا آمنا، فالأمر بلا شك محمود، لكن الرجل قد فر إلى مكان يرحب بقادة الدولة العبرية على الملأ كذلك، فقد زار الدوحة مرات شيمون بيريز وتسيبي ليفني وشالوم وغيرهم، ولئن أغلقت القيادة القطرية ظاهريا مكتب الاتصال الخارجي، فإن زلة لسان الشيخ حمد بن جاسم قبيل القمة العربية الاستثنائية وحديثه عن استعداده للتوسط للرئيس أبو مازن من أجل استصدار التراخيص اللازمة من الإسرائيليين لتيسير حضوره القمة، أثبت أن الود لم ينقطع أبدا بين الدوحة وتل أبيب، وأن المنقطع ظاهريا متواصل عمليا، أخذا للعرب على quot;قدquot; عقولهم كما يقول المثل المصري.
ومن الطرائف القطرية أيضا، إنشاء الدوحة للمؤسسة العربية للديمقراطية، وهي مؤسسة تعمل على نشر الوعي الديمقراطي في العالم العربي، وتسعى إلى إعادة بناء الأنظمة السياسية العربية على أسس تعددية ودستورية، ولا أحد يعلم إن كانت أهداف المؤسسة تشمل الدولة القطرية، التي على الرغم من كل توجهاتها الثورية على صعيد السياسة الخارجية، تظل دولة محافظة بلا انتخابات دورية أو مؤسسات دستورية رقابية أو فصل بين السلطات أو أحزاب أو تداول على السلطة أو غيرها من مقومات الحياة السياسية الديمقراطية، وهو أمر تسبقه فيها دول خليجية قريبة، حتى لا يحتج بخصوصية الثقافة السياسية السائدة في المنطقة.
و على الرغم من كل هذه التناقضات المثيرة للحيرة، فإن الثابت أن الخلطة القطرية قد أتت على مستوى الدعاية أكلها، فقطر التي تعتبر أصغر بلد عربي من حيث عدد السكان ndash; بما في ذلك جزر القمر- أصبح رأسها برأس مصر قائدة العرب التاريخية، وتحولت على الصعيد العالمي ربما، إلى ما يشبه الظاهرة، والظواهر ليست حكرا على الطبيعة أو البشر الفرادى، إنما تطال الدول أيضا، بل إن الظاهرة القطرية قد أضحت أهم الأدلة على حالة الانحدار العربي، إذ عندما تبلغ درجة العجز لدى الدول العربية الرئيسية هذا الحد الجلي، يكون من الطبيعي أن يطمح الصغار إلى ملئ الفراغ بطريقة كريكاتورية، وأن يطمعوا في حس الكبار توهما.
و كريكاتورية الخلطة القطرية، مردها أن السياسات الخارجية عادة ما تراعي أحجام بلدانها وموقعها وأهميتها الاستراتيجية وقدراتها الدفاعية، أما في حالة الدوحة فإن لا أحد بمقدوره أن يقدم تفسيرا مقبولا لدوافع سياسة قطر الخارجية، واستثمارها خيرات البلد من الغاز والنفط في مصالحة متمردي دارفور مع إسلاميي الخرطوم، أو دعم تنظيم القاعدة إعلاميا، أو التواصل مع الأنظمة اليسارية الجديدة في أمريكا اللاتينية، أو حتى بحث المسألة النووية الإيرانية، وإلا لكان الأولى بحكومات ليشنشتاين وموناكو وأندورا ولكسمبورغ التدخل في توجيه السياسة الأوربية، باعتبارها أيضا دولا غنية جدا، ولمواطنيها وحكامها جراء الوفرة المالية الكثير من وقت الفراغ لتمضيته في حل النزاعات الإقليمية.
لست اعترض شخصيا على أي دور إيجابي يمكن أن تلعبه الدوحة عربيا أو إقليميا أو دوليا، كما أنني لم أملك الرغبة يوما، في الماضي والحاضر والمستقبل، لإعمال نظرية المؤامرة في تحليل السياسة الدولية، غير أن الخلطة القطرية مدهشة وعجيبة لدرجة تقرب أي محلل أو باحث من هذه النظرية، وذلك لاستحالة رؤية مصلحة حقيقية وراء هذه السياسة.
ولست أشك لحظة، في أنه لو كان في قطر برلمان يسقط الحكومات، على غرار الكويت الملاصقة مثلا، لقام بإسقاط حكومة حمد بن جاسم على الفور، بحجة عدم ادخار فوائض الأموال العامة للأجيال القادمة مثلما تفعل النرويج بريعها النفطي، والعمل في المقابل، على تبديدها في الصرف على البروبغاندا الفارغة، التي لا تحتاجها قطر من الأصل، ولا يحتاجها العرب حيث أصبحت مطية لتخريب العقل العربي وأداة لنشر أكثر أنواع الفكر الإسلامي رداءة، وقد كان الأولى بهذه الأموال أن تستثمر في محو الأمية العربية، أو زيادة الرقعة الزراعية في الدول العربية الفقيرة، أو تطوير البنى التحتية والصناعية والتجارية في قطر والعالم العربي من أجل إيجاد فرص عمل لملايين الشباب العرب، ممن أصبح أملهم في أن تأكل أجسادهم الغضة حيتان البحر، أكبر من أي أمل.
هل مصدر الخلطة القطرية محلي صرف، أم أن للخلطة مصادر خارجية، واحدة أو متعددة، على غرار سائر خلطات البخور والعطور والبهارات، وهل أن للخلطة صانع واحد ومشرف واحد على البيع، أم أن الواقفين وراء خلقها وتوزيعها أناس متعددون، وهل أن فعالية الخلطة ستكون دائمة أم محدودة، قابلة للتوريث أم مؤهلة للرحيل مع صناعها، تلك أسئلة من أسئلة ستكشف السنوات القادمة عن مدى أحقيتها بالطرح، ناهيك عن التصدي للإجابة عنها، فهل من مجيب؟
* كاتب تونسي