الانتخابات الإيرانية التي تمت مؤخرا هي أخطر حدث يواجهه النظام السياسي الذي أسست له الثورة الإيرانية بقيادة الأمام الخميني عام 1979. وهي أولى انتخابات تحظى بهذا الاهتمام وبهذه التغطية الإعلامية الواسعة، تأييدا لصحة نتائجها أو طعنا فيها، داخل إيران وخارجها.
لن نتوقف عند تصريحات المسؤولين الإسرائيليين التي أعلنت عن خيبة أملها بإعادة انتخاب الرئيس محمود أحمدي نجاد لولاية ثانية، وقالت أن انتخابه quot; بشارة سوءquot;، لأنها تصريحات حاقدة معدة مسبقا، ولان أصحابها كانوا سيطلقونها سواء فاز نجادي أو موسوي، فالسياسة الإسرائيلية إزاء إيران تحددها مسألة واحدة: هل ستنتج إيران قنبلتها النووية أم لا.
لن نتوقف، أيضا، عند الاهتمام المفاجئ من قبل بعض وسائل الأعلام بتصريحات رضا بهلوي، نجل شاه إيران السابق، ودعوته للإيرانيين أن ينفذوا quot;عصيان مدنيquot;، فهذا الاهتمام ليس أكثر من نفخ في قربة إمبراطورية مثقوبة.
ولن نتوقف، ثالثا، عند تصريحات ومواقف بعض المسؤولين الأوربيين التي أعلنوا من خلالها طعنهم بنتائج الانتخابات الإيرانية الأخيرة، لأن هولاء المسؤولين يكيلون بمكيالين ويستندون، في إطلاق تصريحاتهم، على أجندات تخص مصالح بلدانهم، أولا وأخيرا، وليس انطلاقا من حرصهم الحقيقي على إقامة نظام ديمقراطي في إيران. ولن نتوقف عند quot;شماتةquot; النظام العربي الرسمي، وتباكيه على سير الانتخابات الإيرانية، فهذه الانتخابات تظل، مهما قيل بحقها، أفضل ألف مرة من أنظمة سياسية عربية يتم التوريث لحكامها، أو تعديل دساتيرها لتتماشى مع بقاء الحكام لأكثر فترة، أو يحرم فيها حتى لفظ مفردة ديمقراطية أو حزب أو نقابة أو تظاهرة سياسية عامة.
لن نتوقف، كذلك، أو بالأحرى سنتناسى، ما ذكرته الكثير من وسائل الأعلام ومعهم أنصار مير حسين موسوي عن تحيز السلطات الرسمية الإيرانية للمرشح نجادي، بما في ذلك تسرع وزارة الداخلية في إعلان فوز نجادي حتى قبل انتهاء عمليات التصويت، والتأثير على أداء وسائل الإعلام الدولية التي كانت تغطي الانتخابات، والانتشار المكثف للحرس الثوري، والاعتداء على مقرات ومكاتب مير حسين موسوي في بعض أحياء مدينة طهران، وحملة الاعتقالات التي طالت بعض مساعديه عقب إعلان النتائج.

لن نتوقف عند هذه الأمور، وسنركز على ما دار قبل وبعد الانتخابات وما يدور حتى كتابة هذه السطور في شوارع العاصمة الإيرانية نفسها، أي عن هذه الموجات البشرية التي ضمت المعارضين لنجادي والمؤيدين لموسوي، والذين تتكون غالبيتهم العظمى من الشباب، ذكورا وإناثا.
هولاء ولدوا ونشأوا داخل رحم النظام الإسلامي الإيراني، ورضعوا من حليبه، و لم يتسن لهم، على العموم، زيارة دولة أجنبية، ولا الاحتكاك بأي زائر أجنبي داخل بلادهم. ولم يعرفوا حياة حزبية اعتيادية مثلما في بلدان العالم الأخرى. وعلينا أن نعرف أن أكثر من ثلثي إيران تقل أعمارهم عن 30 عاما. وعندما نقول الشباب، نقول المستقبل.
ومثلما صوت الشباب في عامي 1997 و 2001 لمحمد خاتمي، أملا منهم في هزيمة أفكار المتشددين، فان شباب اليوم اختاروا مير حسين موسوي إصرارا منهم لإلحاق الهزيمة باحمدي نجادي، بل بالنظام الإسلامي القائم نفسه، وليس بالضرورة حبا في أفكار موسوي. فهذا الأخير هو، مثلما حال نجادي، أبن المؤسسة السياسية الدينية الحاكمة. فقد كان موسوي أول رئيس حكومة إيرانية بعد نجاح الثورة الإسلامية، ولم يعرف عنه ميلا لإحداث قطيعة شاملة مع النظام الرسمي القائم، ولم يعرف عنه شغفا استثنائيا بالأفكار الليبرالية، ولا حماسا منقطع النظير لتطبيق نظام ديمقراطي بمؤسسات ديمقراطية.
اختيار هولاء الشباب للوقوف مع موسوي يعني، في نهاية المطاف، اعتراضهم، إذا لم نقل رفضهم، للنظام السياسي القائم في إيران،أي نظام ولاية الفقيه. لكنهم لم يجدوا، بسبب طبيعة النظام السياسي القائم في البلاد والقوانين السائدة، حزبا سياسيا ديمقراطيا يتوافق مع مواقفهم وأفكارهم وطموحاتهم، فاختاروا موسوي. إنهم يقفون على يسار مير حسين موسوي، ويتقدمونه كثيرا في الأفكار والتطلعات، وفي الروح الاقتحامية، أيضا. ولعل الجميع لاحظ كيف أن هولاء الشباب الساخطين على النظام السياسي القائم، الذين صوتوا لموسوي، بدأوا يصرخون quot;موسوي، موسوي، عد لنا أصواتناquot;، لأنهم وجدوا أن الرجل الذي وضعوا فيه ثقتهم ليس بمستوى طموحهم، ولا يجاريهم في روحهم الاقتحامية الرافضة للتواطيء والتخاذل، وأن أصواتهم راحت هباء منثورا. ولهذا، أيضا، فأنهم لم يستجيبوا لنداء مرشحهم موسوي عندما أعلن إلغاء التجمع المنوي أقامته في الخامس عشر من هذا الشهر بسبب عدم منح ترخيص من وزارة الداخلية، احتجاجا ضد التزوير، فتجمعوا رغما عنه، قبل أن يجد موسوي نفسه مجبرا على مجاراتهم، فشاركهم اللقاء وألقى كلمة أمامهم.

ما الذي يريده هولاء الشباب، وما الذي يفرق بينهم وبين نجادي والنظام السياسي القائم الذي يدعمه ؟
الجواب نجده في الشعارات التي رددوها بعد إعلان هزيمة مرشحهم، وفي الشعارات التي رددها نجادي بعد فوزه، وفي المفردات السياسية التي استخدمها في خطاب النصر.
نجادي شبه الاعتراض على نتائج الانتخابات، وحال السخط التي انتابت هولاء الرافضين لحكمه بquot;مباراة كرة قدمquot; تتم بين فريقين مؤلفة قلوبهم، ينتمون لعائلة (سياسية) واحدة، وعليهم quot;التسليم بالخسارةquot;، لان الرابح والخاسر، وفقا لفلسفته السياسية، في هذه الانتخابات هو الشعب الإيراني. نجادي حرص، أيضا،بل قبل كل شيء أخر، على صب اللعنات ضد quot;الديمقراطيات الليبرالية، إذ يتم ضم السارقين ومثلي الجنس وكل الأشخاص غير الطاهرين إلى الناخبين لكسب بعض الأصواتquot;، مقارنة مع النظام السياسي الإيراني، أي نظام ولاية الفقيه، حيث quot;يقوم كل شيء على القيم الأخلاقية، والطهارة والعدالة ومكافحة الطغيان والفساد.quot;

لكن نجادي، شأنه شأن جميع أصحاب النظرة الواحدية، لم يسمع، ولا يريد أن يسمع وهو يردد خطابه الغوغائي الشعبوي التبسيطي، أصوات المعترضين وهم يهدرون في الشوارع: quot;لا للديكتاتوريةquot;. ونجادي لم يشاهد، ولا يريد أن يشاهد هراوات رجال الثورة، أي قوات الباسيج وهي تكسر أضلاع quot;أشقائهمquot; من quot;مشجعي الفريق الرياضي الإيرانيquot; الذين quot;ينتمون لنفس العائلة الواحدةquot;.

الفرق، الفرق الجوهري بين محمود أحمدي نجادي والنظام السياسي القائم الذي يؤيده، من جهة وبين هولاء الشباب الساخطين والمؤيدين لهم، من جهة ثانية هو، أن الفريق الأول ما يزال يعيش، ويصر على العيش في عصر (الثورة)، بينما يريد الساخطون أن يعيشوا عصر (الدولة). والفجوة بين رؤى الفريقين عميقة وجذرية، لا يهدمها الخطاب الشعبوي التبسيطي، مهما كان صادقا، ولا تقلصها الاستعانة بالاستعارات المجازية الرومانتيكية التبسيطية: مباراة كرة القدم.
أي مباراة قدم ؟ إنه صراع تحركه عوامل سياسية وطبقية واجتماعية وثقافية. وقد علمنا التاريخ أن التغني، مهما كان صادقا، بالتآخي بين أبناء الشعب الواحد، وأفراد العائلة الوطنية الواحدة لم يمنع اندلاع حروب ومعارك أهلية دامية، داخل أبناء الشعب الواحد.
لقد مرت على الثورة ثلاثة عقود وها هو أبن الثورة البار، نجادي، يعد الناخبين بتحقيق quot;الطهارة والعدالة ومكافحة الطغيان والفساد.quot; أي ، أن نجادي quot;الثوريquot; يعترف بأن الثورة فشلت، بعد انقضاء ثلاثين عاما من حدوثها، في تحقيق العدالة الاجتماعية، ناهيك عن توفير الحريات.
ما الذي قاله الساخطون، المعترضون على نجاح نجادي في الانتخابات أكثر من هذا ؟ لقد قالوا الكلام نفسه، ولكنهم اختصروه بمفردات سياسية واضحة هي quot;لا للديكتاتوريةquot; و quot;الموت للطاغيةquot;. وعندما يرفضون الديكتاتورية، فأنهم لا يقصدون الرئيس نجادي بعينه، بقدر ما يقصدون طبيعة النظام السياسي القائم نفسه. إنهم يريدون مؤسسات دستورية ينتخبها الشعب، ويراقب أدائها الشعب، وquot;يصونquot; دستورها الشعب، وquot;يرشدquot; مسؤوليها الشعب. هم يطالبون بحياة حزبية حرة ووسائل إعلام حرة، وقضاء مدني نزيه وحر. هم يريدون مجتمع مدني تحصل فيه المرأة الإيرانية على مكانة، ليست مثل تلك التي تحتلها المرأة الغربية، وإنما أقله تتلاءم مع المكانة التي احتلتها المرأة في المجتمع الإيراني قبل حدوث الثورة، وعلى مر العصور.

السؤال الآن هو: هل ينجح أنصار الثورة، أم الدولة ؟
لا نظن أن هناك، في الوقت الحاضر، مؤشرات قوية وملموسة على تراجع أنصار الثورة، العكس هو الصحيح. ومهما كانت الطعون التي وجهت ضد النتائج التي حصل عليها الرئيس نجادي، فالرجل ما يزال يحظى بشعبية واسعة. وهذه الشعبية التي يتمتع بها نجادي لم يقطفها بالقوة، إنما وفرتها له قاعدة شعبية ما تزال واسعة، تدعمها مؤسسات رسمية بأحجام هائلة، كالحرس الثوري.

لكن، ما هي الجسور الذي تربط بين الرئيس نجادي وبين قاعدته الشعبية ؟
الجسور تتمثل في شخصية الرئيس نجادي نفسه: تواضعه وبساطته، وقربه من quot;المستضعفينquot; الذين يشكلون السواد الأعظم من سكان الأرياف والطبقات الشعبية داخل المدن. والجسور، أيضا، هي خطاب نجادي، الشعبوي، quot;النوويquot;، الظافر بأي ثمن، والمعبأ بشحنات قومية تدغدغ مشاعر الكثيرين، وهي تتحدث عن قوة وعزة ومكانة إيران. لكن هذه النبرة القومية البطولية لم يتفرد بها نجادي، إنما وجدناها سابقا عند الكثير من قادة الأنظمة الشمولية، وأخرها صدام حسين. وكلنا يعرف ماذا كانت نتيجة تلك الحكم الشمولية.
وحتى إذا نجح الرئيس أحمدي نجادي ومعه النظام السياسي القائم القضاء على البطالة وخفض حالات التضخم، أي توفير الخبز، وحتى إذا نجح في فك عزلة إيران وأبعادها عن شبح العقوبات الدولية المراد تشديدها ضدها، فأنه لن يقدر على توفير الحرية، بسبب طبيعة النظام السياسي الإسلامي الثوري نفسه.
إما إذا استمر الرئيس نجادي على السير في طريق إدارة الظهر لمطالب المجموعة الدولية، وتم تطبيق عقوبات دولية جديدة، خصوصا في المجال الاقتصادي، فان القاعدة الشعبية التي يستند عليها حاليا الرئيس نجادي، ستتقلص كثيرا، وستزداد أعداد الساخطين.
وعلى أي حال، فأن موقعة الانتخابات الرئاسية التي ما تزال فصولها مستمرة، لن تمر مرور الكرام بعد الآن، بعد أن بدأت الثورة تأكل أبنائها الأكثر أخلاصا لها، ويأكل هولاء بعضهم البعض الأخر. وسيكون أمام النظام السياسي القائم طريقان: أما أن يبادر quot;أبناءquot; الثورة الإسلامية بإحداث تعديلات بنيوية على النظام السياسي، أو تجرع كأس سم بدأ أحفاد الثورة يضعونه على مائدة الثوار.