في زاويا هذا العالم المزدحم، تتناثر صرخات الأفكار المكبوتة كأشباح هائمة في فراغٍ لا يسمعها فيه أحد…!

هنا، حيث الحقيقة تُباع بثمن الخوف، وحيث يُجرَّم التفكير كما لو كان جريمة، نجد مسالخ الثقافة تعمل بصمت مريب، تلتهم العقول قبل أن تُبصر نور السؤال. ليست الثقافة مجرد ورق أصفر في كتاب مهترئ تُحاصر غباره الأرفف، بل هي صوت العقل الحر حين ينطلق، والوعي المتوثب حين يجرؤ على الهروب من سجون التبعية.

تُقام مسالخ الثقافة على أرض التكرار، هناك حيث يتم تدريب العقل على تلقي الإجابة لا طرح السؤال، تُنحر الأفكار باسم الطاعة العمياء، وتُصنع الحقائق من عجين الوهم لتُصبغ على جدران الوعي. يُقال للإنسان: لا تفكر، لا تبحث، كل شيء قد كُتب ، فيُحكم على عقله بالجمود، ويُختزل كيانه إلى مجرد آلة تُنفّذ ولا تُجادل.

المثقف ككبش فداء في هذا المشهد الدامي، هو الضحية الأولى والأخيرة؛ إنه كبش الفداء الذي تتدافع عليه السكاكين كلما حاول تحطيم الجدار بين العقل والحقيقة، إن تكلم كان جزاؤه التشويه، وإن صمت أُعدم بنسيان أقسى من الموت. مثقف اليوم لم يعد مجرد حامل للحقيقة، بل صار شاهداً على الجريمة ومعذباً بسكين الصمت الذي فُرض عليه.

إن أخطر ما تُنتجه مسالخ الثقافة هو الجهل المتعلم، ذلك الذي يُلبس عباءة المعرفة الزائفة ليغطي بها خواءه. يُوهمون الناس أنهم يعرفون، بينما كل ما يملكونه هو إجابات مُعلبة لا تصمد أمام السؤال الأول. تصبح الكتب مجرد ديكور، وتتحول المنابر إلى أدوات تُردد ما يُراد لها أن تقول، ويُمنح الجهل أجنحة ليحلق عالياً، بينما يُقص جناح السؤال.

أسلحة المسالخ: الطاعة والخوف
في هذه المسالخ، تتعدد الأدوات لكن يبقى السلاح الأهم هو الخوف. الخوف من المجهول، الخوف من المختلف، الخوف من النقد. يُفرض على العقول أن تقبل ما يُلقّن لها دون نقاش، ويُخنق كل من يُصرّ على طرح السؤال. وهكذا تُصبح الحقيقة نفسها رهينة للسلطة، للمجتمع، وللقوالب الجاهزة.

لكن، وسط هذا الركام، ينبت دائماً شيء ما، بذرة صغيرة لا تُرى، مقاومة عنيدة لا تعرف الاستسلام. هي الكلمة التي تخرج من رحم الصمت، والسؤال الذي لا يموت مهما حاولوا طمسه. السؤال، كالشعلة، قد ينطفئ للحظة لكنه لن يزول. إنه الحقيقة التي تتخفى في الظلال وتنتظر من يُعيد لها ضوءها.

إنَّ السؤال الأكبر الذي علينا طرحه: من يجرؤ على كسر السكين؟ من يعيد للثقافة هيبتها بعدما قُتلت بسكين الخوف والتبعية؟ الإجابة لا تحتاج إلى معجزة. يكفي أن نؤمن أن الأفكار لا تُقتل، وأن الثقافة، مهما سُحقت، لا تُمحى. الفكرة كالماء، تُغير شكلها لكنها تجد دائمًا طريقها لتتدفق.

إن إحياء الثقافة يبدأ حين نُعيد للسؤال مكانته. عندما نتوقف عن ترديد الأجوبة الجاهزة ونبدأ بطرح الأسئلة الصعبة. حين نسأل: لماذا؟ وكيف؟ وماذا بعد؟ حينها فقط، نستطيع أن نكسر السكين التي تُهدد أعناق الحقيقة.

في النهاية، مسالخ الثقافة ليست مجرد ظاهرة عابرة، بل هي مرض يحتاج إلى مواجهة حقيقية. مواجهة تبدأ بالفرد: أن ترفض الخضوع، أن تفتح نافذة جديدة للسؤال مهما كانت الرياح شديدة. إن الثقافة ليست رفاهية، بل سلاح، والسؤال ليس خطراً بل هو أولى خطوات النجاة.

ربما يتردد صدى السؤال في البداية كصرخة معزولة، لكن شيئاً فشيئاً يتحول إلى نار تحرق المسالخ وتُعيد للإنسان صوته. لأن الحقيقة، مهما طال صمتها، تُولد دائماً من رحم السؤال… والسؤال، مهما سُلخ، لا يموت.