إيلاف من دمشق: "دعونا لا نمجّد شخصاً حتى لا يتكرر الخطأ نفسه"، كتبت الفنانة السورية يارا صبري يوم سقوط نظام بشار الأسد، كأنها تلخص حكاية 5 عقود مضت، وتضيء فكرة من أجل سوريا المستقبل.
وتعيش صبري، المعارضة للنظام والمدافعة عن حقوق المدنيين منذ 2012 خارج البلاد، وهي اليوم في كندا، وتنشط منذ سنوات في ملف المعتقلين والمغيبين قسرياً داخل الأراضي السورية.
بالمعنى ذاته كتب العديد من السوريين طيلة الأيام الماضية، محذرين من صناعة نموذج جديد للديكتاتور، إذا ما استمرّ الكثيرون بسرديات المديح المبالغ به لقائد هيئة تحرير الشام، المطلوب بتهم الإرهاب للولايات المتحدة، أحمد الشرع، المعروف بأبو محمد الجولاني.
توريث الصمت
والمديح ليس كل شيء، إذ يحذر آخرون من مغبّة أن يتم توريث الصمت والخوف للحقبة الجديدة في سوريا، ومن نماذج ذلك عدم انتقاد أي قرار يمس الحقوق والحريات اتخذته حكومة تصريف الأعمال بقيادة محمد البشير، التي ستستمر بعملها حتى مارس 2025.
فسقوط النظام البعثي، وهروب آخر خلفائه إلى روسيا، ليس النهاية بالنسبة للسوريين اليوم، إذ ينظر الكثير منهم لخارطة معقدة من القوى المسيطرة والولاءات المتعددة والمصالح المتناقضة.
وبينما يعيشون داخل وطنهم أو يرونه من المنافي واللجوء، يعاني من انهيار اقتصادي، بغالبية سكانية تحت خط الفقر وبنية تحتية متهالكة أو مدمرة، وحالات اعتقال وإخفاء قسري، ومقابر جماعية وألغام، وغير ذلك مما يحتاج أموالاً طائلة وجهد سنوات لتلبية الأساسيات على أقل تقدير.
بالنسبة للكثير من منتقدي شخصنة الثورة بالجولاني، يبدو الأمر طبيعياً وتعبيراً من الناس المقهورين والحالمين منذ عقود بالخلاص من نظام مستبد، عن حبهم وامتنانهم لقيادة عمليات الإطاحة به وتخليصهم من حقبة البعث.
لكن المسألة برأيهم تتجاوز هذه الدرجة من البساطة إلى صناعة نموذج سلطوي جديد إذا ما أبدوا رضاهم عن كل ما يفعله وانتقدوا أيضاً كل معترض بحجة "فلنمنحه فرصته.. ودعونا نصبر".
من الأمثلة، ما كتبه الصحفي يامن صبور: "نحن من نمنحهم الشرعية والقوة لفعل ما يشاؤون! هل انتهينا من ديكتاتور لكي نأتي بآخر؟"
الجولاني: المختَلف المتَفق عليه
منذ اليوم الأول لبدء العمليتين العسكريتين ضد قوى النظام السابق "ردع العدوان" و"فجر الحرية"، رافق صحفيون وإعلاميون سوريون المسلحين، غير مكتفين بالتغطية المباشرة للوقائع، وإنما مشيدين بكل خطوة لـ"الجيش الوطني" المدعوم من تركيا، وهيئة تحرير الشام المرتبطة تاريخياً بتنظيم القاعدة، المصنفة للآن في قوائم إرهاب وعقوبات أميركية وأوروبية.
هؤلاء الإعلاميون مستمرون لليوم في نقل الأخبار، وبعضهم برز مع بدايات الثورة السوري، يمثلون نواة لإعلام موالٍ للسلطة الجديدة في دمشق.
وإن كانوا أفرادا متفرقين تجمعهم معارضة نظام الأسد، يوجد على الجانب الآخر عربياً ودولياً إعلام يُعد طرحه لشخص الجولاني بأنه "محاولة لتلميع صورته" وترسيخ صورة "رجل الدولة لا المتشدد الديني عنه"، وفق سوريين في مواقع التواصل.
وخلال اليومين الماضيين، انتقد العديد من السوريين ما وصفوه بالمبالغة "المقصودة" في "تمجيد" الجولاني، عندما بكى إعلامي شهير في مقابلة معه، قبل أن يقدّمه للمتابعين كأنه "صحابي مبشّر في الجنة" بحسب تعبير أحد السوريين على فيسبوك، في كناية عن جماعة النبي محمد الذين يحوزون مكانة خاصة لدى المسلمين.
مشاهد "لا نراها في إدلب"
وكان بعض السوريين لفت في أول يوم بعد إسقاط النظام، إلى وجود صور للجولاني في متاجر بدمشق ومدن أخرى وقعت تحت سيطرة المعارضة، مبدين سخريتهم واستغرابهم من ذلك.
كما وضع العديد من المواطنين ملصقات لصور الجولاني على مركباتهم أو أبواب متاجرهم، تعبيراً عن المحبة والامتنان لدوره في إسقاط النظام.
هذا الأمر انتقده سوريون من إدلب نفسها التي تديرها "حكومة الإنقاذ" التابعة لهيئة تحرير الشام، وكتب أحدهم يُدعى مصطفى على منصة إكس: "10 سنين بالشمال المحرر (يقصد من نظام الأسد) ماحدا من أهل إدلب أو حلب وضع صورة الجولاني على السيارات، أو طبع صورته بالشوارع".
"بل كانت المظاهرات شبه أسبوعية في إدلب ضد الجولاني أو أحمد الشرع. بعد يومين من دخوله لدمشق، ما ضل حدا ما حط صورته على السيارات أو أمام المحلات أو البروفايلات"، أضاف مصطفى.
واعتبر ما حدث في دمشق مظهراً من مظاهر "صناعة الطُغاة".
وقبل أيام، أثارت صورة لفتاة سورية مع الجولاني ضجة كبيرة على مواقع التواصل بسبب طلبه منها تغطية شعرها قبل التقاط الصورة، وتسابقت وسائل إعلام محلية للقائها من أجل أن تتحدث عن الحادثة بعد الإعجاب الكبير الذي أبداه متابعون بتصرفها وقائد هيئة تحرير الشام نفسه.
وتبذل حكومة تصريف الأعمال جهداً كبيراً لإزاحة وصمة الإرهاب عن الهيئة ورجالاتها، من خلال تحركات إقليمية ودولية.
إلا أن هناك نوعا من التناقض بين تصريحات الجولاني نفسه وتصريحات آخرين من قيادات المرحلة وممارسات الشرطة في دمشق، بخصوص قضايا الحريات والمساواة الجندرية، وغيرها من أمور.
وأحدث هذه المظاهر، تصريحات الناطق باسم الإدارة السياسية في الحكومة الانتقالية عبيدة أرناؤوط، لقناة "الجديد" اللبنانية، أحدثت موجة من الغضب بين السوريين.
وقال أرناؤوط إن طبيعة المرأة لا تمكنها من شغل بعض المناصب الهامة في الدولة، مثل وزارة الدفاع.
وفي عام 2013، صنفت الولايات المتحدة الجولاني "إرهابيا"، وقالت إن تنظيم "القاعدة" في العراق كلّفه بإطاحة حكم الأسد، وفرض الشريعة الإسلامية في سوريا، وإن "جبهة النصرة" (اسم هيئة تحرير الشام السابق) نفذت هجمات انتحارية قتلت مدنيين، وتبنت رؤية طائفية عنيفة.
وقال مساعد وزير الدفاع الأميركي الأسبق لاري كورب إن الولايات المتحدة قد تضطر للتعامل مع الجولاني، من أجل تحقيق أهدافها الأمنية.
التعليقات