رغم تشاؤم دعاة حل القضية الفلسطينية ورعاة السلام بالمنطقة، من تولي بنيامين نتنياهو رئاسة وزراء إسرائيل، لتاريخه المعروف في التشدد، والذي يعطي المبرر للكثيرين لإدراجه ضمن أعداء السلام، الذين يبحثون عن العقبات لوضعها في طريقه، إلا أن الرجل قد فاجأ العالم بخطابه في الرابع عشر من يونيو الجاري، خطاب قد يصفه البعض بالتشدد، ويصفه العرب كالمعتاد بالعداء للسلام، رغم ندرة هواة السلام ومريده بين أبناء يعرب، وقد يصفه معسكر المتشددين في إسرائيل، أو الحمساويين الإسرائيليين، بالتفريط في حقوق إسرائيل التاريخية في فلسطين، وبتعريض مستقبل الشعب الإسرائيل للخطر، لكن المراقب المنصف ربما لا يملك غير الإقرار بأن الرجل كان بالفعل على مستوى الموقف، وأثبت أنه رجل اللحظة، ربما بلا منازع، سواء بالنسبة لواجباته تجاه أمته، حاضرها ومستقبلها، أو تجاه العالم الذي يسعى بكل الطرق، لوضع حد للصداع المزمن، لما يسمى بالصراع في الشرق الأوسط.
نرى جميعاً أن بنيامين نتنياهو واقع بين العديد من أحجار الرحى، وليس بين حجرين فقط كما اعتدنا التشبيه، فهو محاط بالمتربصين به من كل جانب، أو من كل حدب وصوب، جرياً على نهج البلاغة العربية، فأمامه إشكالية غزة الحمساوية بصواريخها أو مواسيرها المتفجرة، وبقضية الجندي جلعاد شاليط، الممتدة منذ ثلاث سنوات، ولديه رفقاء حكومته الإتلافية، وبعضهم لا يقل في تهوسه ونازيته، عن أحمدي نجاد وبن لادن، وسائر أبطال الجهاد والنضال، إلى آخر قطرة دم في شرايين شعوب المنطقة، وآخر حجر فوق حجر، في كل محيط الأرض اليباب. . لدى نتنياهو أيضاً موقف راعي إسرائيل وحاميها، الولايات المتحدة الأمريكية، وهجمة السلام العالمي، التي وصل على أساسها أمريكي من أصول أفريقية إلى البيت الأبيض.
موقف لا يمكن أن يحسد عليه حاكم، والاستحقاقات تحاصره وتلاحقه من كل جانب. . إزاء موقف كهذا قد يلجأ المناورون للمناورة، هروباً من مواجهة ما يتحتم عليهم مواجهته، ويلجأون لخطاب مراوغ، وربما لو أمكن خطاب مزدوج، كما اعتاد كثير من حكام العرب الميامين وطويلو العمر. . وقد يهرب من مثل هذا الموقف أشباه الرجال، ممن يكتفون من البطولة بالزعيق بالشعارات وخطف الطائرات واكتناز الدولارات، لكنهم إذا ما جد الجد، يهربون كهرة مدهشة النذالة، كما حدث من خالد الذكر والنضال والدولار ياسر عرفات، في الحلقة الأخيرة من مفاوضات كامب ديفيد عام 2000، التي كان يمكن أن تضع نهاية لمأساة الشرق الأوسط، تحصل بمقتضاها الدولة الفلسطينية المقترحة على 98% من مساحة الضفة الغربية، وهو بالتأكيد ما لم يعد معروضاً أو متاحاً الآن، أو حتى في المستقبل أيضاً.
لم ينتهج نتنياهو هذا الطريق أو ذاك، بل اختار الرجل طريق المواجهة القوية، ونظن الصادقة، إزاء جميع صنوف الاستحقاقات. . فإزاء التوجه والرغبة العالمية العارمة في إقرار السلام، دعى الفلسطينيين إلى مفاوضات سلام فورية غير مشروطة، لكن من الواضح أنه لم يعلن ذلك من قبيل المراوغة، لتأخذ المفاوضات مساراً أبدياً، وتظل الأوضاع على الأرض على حالها، أو بالأصح تستمر إسرائيل خلال الوقت المستهلك، في ابتلاع وهضم وقضم الأراضي الفلسطينية قطعة بعد قطعة. . لكنه حدد الأسس التي يمكن أن تتم على أساسها مفاوضات جادة، لا تحتاج لأكثر من رجال صادقي العزم في تبني خيار السلام.
كان نتنياهو واضحاً في التركيز على ضرورة أن يفهم ويقر العرب أن التوافق العالمي على حل الدولتين، لا يعني إقامة دولة فلسطينية، وأخرى فلسطينية بجانبها، إذا ما تم إدخال جميع اللاجئين الفلسطينيين إلى إسرائيل، لكنه يعني إقامة دولتين، أحدهما للعرب، والثانية لليهود، وأي تصور آخر للتسوية غير ذلك، ربما لا يدخل في نطاق نهج السلام، وإنما في نطاق نهج الاستعباط!!
في مواجهة الصقور والذئاب داخل حكومته، وفي إسرائيل عموماً، كان نتنياهو قوياً وصادقاً، في إقراره بحق الفلسطينيين في الحياة الكريمة، داخل دولة موحدة (شعباً وسلطة بالطبع) قابلة للحياة، قادرة على النمو والازدهار. . نعم قد أوجب عليه الصدق والوضوح، أن يحدد أنها ستكون دولة منزوعة السلاح، وهذا لن يروق بالطبع لدعاة الجهاد والقتال إلى الأبد، كما لا يرضي من يستخدمون الشعب الفلسطيني كورقة يلعبون ويتاجرون بها كما يحلو لهم. . لكن نتنياهو الذي استدعى نبوءة أشعياء، عن عصر لا يتعلمون فيه الحرب فيما بعد، ويحولون سيوفهم إلى مناجل، إن كان بشرطه هذا يهدف لحماية الشعب الإسرائيلي، فإن لدينا نحن ما يبرر، أن نعتبر ذات الشرط حيوياً، لحماية الفلسطينيين من أنفسهم، وحماية الشعوب العربية المجاورة، من ممارسات العصابات مختلفة البيارق والشعارات، التي تجند أبناء الشعب الفلسطيني، ليكونوا تهديداً لأمن الشعوب التي تأويهم وتعينهم على وضعهم البائس. . نعرف جميعاً بالطبع أن هذه ليست اتهامات جزافية للشعب الفلسطيني، فالتاريخ مازال حياً، يروي ما فعلوا في الأردن ولبنان، وما يحاولون لو استطاعوا أن يفعلوه بمصر.
في قضية المستوطنات قدم الرجل ما يعد تراجعاً عن مواقفه السابقة المعلنة، والتي وصل بمقتضاها هو وحلفاؤه إلى السلطة، والأهم مما قاله هو ما سكت عنه، وهو المصير النهائي لهذه المستوطنات، مما يترك الأمر مفتوحاً لسير المفاوضات، ولنا في التجربة المصرية في هذا الشأن عبرة، لمن يريد صادقاً ومخلصاً أن يعتبر، فقد رحلت إسرائيل عن سيناء بمستوطناتها، التي كان يعتبرها الكثير من الإسرائيليين قضية مصيرية غير قابلة للنقاش أو المساومة.
نفس هذا يقال عما ورد بالخطاب بخصوص القدس، فالعموميات بخصوص وضع القدس كعاصمة موحدة لإسرائيل، مع ضمان الحرية الدينية لأتباع جميع الأديان، لا يمكن أن تغلق الباب أمام مفاوضات، تتوصل إلى حلول ترضي جميع الأطراف (كما يقولون).
المطلوب الآن (كما قال نتنياهو) أن يحسم الفلسطينيون (ومعهم العرب) خيارهم، وأن يعلنوا ذلك الخيار للعالم بوضوح واستقامة وصدق، هل سيختارون طريق السلام، الذي لابد وأن يكون شاقاً وعسيراً، بعد كل تلك العقود من الصراع والدماء، لكنه لابد وأن يصل إلى نهاية سعيدة، كما سبق لمصر أن حققت، وقد توفرت لها قيادة السادات المخلصة والشجاعة؟
أم سيفضل الفلسطينيون الاستمرار في ذات طريقهم ونهجهم، طريق الصراع والدماء، ذلك الطريق الذي توسع حالياً بما لا يقاس، فامتد الصراع وسفك الدماء إلى ما بين الشعب الفلسطيني ذاته، وبينهم وبين الشعوب المجاورة؟
أمامنا الآن واحدة من الفرص التاريخية، التي احترفنا إهدار العديد من أمثالها: صقر قوي ومتشدد، قادر على مواجهة متطلبات المرحلة والعصر، يمد يده للفلسطينيين وللعرب بالسلام، فهل تجد تلك اليد يداً مقابلة ممدودة، تتمتع بذات القوة والجرأة والإخلاص؟
- آخر تحديث :
التعليقات