الجزء الأول
في الجزء الأول من هذا المقال، كان زعمنا أن ظواهر الصراع والصدام في منطقة الشرق الأوسط، باختلاف مستويات تلك الظواهر، لا ترجع فقط إلى وجود قضايا وإشكاليات معلقة لم تحسم بعد، سواء بين كيانات المنطقة وبين كيانات خارجية عالمية، أو في داخل مكونات المجتمعات المحلية ذاتها، وإنما يعود أساس ديمومة حالة الصدام إلى ما هو أعمق مما يبدو على السطح.. إلى شيوع ما وصفناه بسيكولوجية الصدام بين الجماهير، ودللنا على زعمنا بعرض رؤية للعديد من ظواهر الصدام في المجتمع المصري، في حدود ملاحظات وانطباعات مراقب فرد، وهو بالطبع ما لا يصح اعتباره حكماً علمياً دقيقاً على حالة مجتمع، أو رؤية ثاقبة لمشاكل مجتمع ينتظم فيه ملايين البشر.
لا بأس أن نستمر في ادعاءاتنا، في ظل التشكك في مستوى دقتها، فنحاول تقصي أسباب حالة سيكولوجية الصدام المزعومة تلك، حتى لو كانت محاولتنا لا تعدو أن تكون كمحاولة البحث عن قطة سوداء في غرفة مظلمة، علها تكون مقدمة ودعوة، لبحث الأمر بنهج علمي، يتناول الموضوع من جميع جوانبه، عبر استخلاص النتائج من الواقع الميداني، وليس من موقع التنظير والأدلجة.
نستطيع تصنيف تلك الأسباب إلى نوعين، ثقافية ومادية، مع عدم إغفال الارتباط العضوي، والتأثير المتبادل بين النوعين، والذي ينتج فيه كل منهما الآخر، في دائرة مغلقة، لو تركت لحالها لتفاقمت حالتها، سواء صعوداً أم هبوطاً، قياساً بمقاييس النهضة أو التخلف الحضاري.. هنا لا يفوتنا أن نلحظ دور المؤثرات الخارجية الجوهري، في كسر تلك الدوائر المغلقة، لتنفتح على العالم، وتتمكن من التوافق مع العصر، والفكاك من العود الأبدي لإعادة إنتاج الذات، وهو المصير البائس، الذي يتهدد حتى المجتمعات الناهضة، إذا ما فرض وانغلقت على ذاتها.
نقصد بالأسباب المادية، الواقع المادي الاقتصادي والحضاري، وطبيعة أساليب الإنتاج الحالية، أما الأسباب الثقافية فنقصد بها القيم والعادات والتقاليد، والخطاب السائد والموروث، والذي قد ترجع أصوله إلى جذور مادية، وقد ترجع إلى جذور ثقافية، ساعد الانغلاق والعزلة الثقافية على بقائها حية وفعالة، لتعبر القرون، وتبقى إلى الآن مؤثرة، رغم تغير وزوال الظروف المادية، التي أتاحت لها في أزمنة مضت النمو والانتشار، ليتسلمها العصر الراهن خطاباً ثقافياً محضاً، مفارقاً ومضاداً لكل ما تشي به حقائق الواقع الراهن والمعاش.
إذا بدأنا بالأسباب الثقافية، التي تتولد عنها سيكولوجية الصدام، سنجد في مقدمتها الخطاب الديني، الذي يدخل في روع من يتشبعون به بنسبة عالية من مساحة رؤيتهم للوجود، أنهم يمتلكون الحقيقة المطلقة، وأنهم هكذا يكونون وكلاء أو خلفاء لله على الأرض، وأن الآخر الذي يعتنق مقولات دينية مخالفة هو عدو لهم، بل وأيضاً عدو لله، حتى لو كانت تلك المقولات المخالفة تنتمي لنفس العقيدة التي ينتمون إليها، مع اختلافات طفيفة، كأنها درجة من درجات طيف لون واحد.. هذا ما نشهده في سيكولوجية الصدام التي تقف وراء ما يفعله الشيعة والسنة في بعضهم البعض في العراق، إذ لا يمكننا أن نعزو التفجيرات الانتحارية في الحسينيات والمساجد، إلى صراع مادي بين الطائفتين على اقتسام السلطة والثروة، ذلك أن هذه العمليات تبدو بوضوح كعلميات إبادة لمن نصنفهم كأعداء الله، كل طرف من وجهة نظره بالطبع.. على نفس النهج أيضاً تتم أعمال القتل والصدام مع المسيحيين العراقيين في الموصل، وقريب منها بعض الحوادث التي تستهدف الأقباط في مصر، تلك التي لا تقوم بها جماعات إسلامية إرهابية، وإنما تقترفها الغوغاء من عوام الناس وبسطائهم، الذين يقدمون على ما يرتكبون وكأنهم يؤدون طقوس نصرة لله ولدينه، متلبسين تماماً بسيكولوجية الصدام، التي كانت من الأساس وراء إقبالهم وشغفهم باحتفاليات التدمير هذه، وتثمينهم واستجابتهم لخطاب التحريض، الذي يكون غالباً لجماعات ذات أغراض وخطط محددة لامتلاك الساحة، لكن رواج خططها ونجاح مساعيها، يتوقف بالأساس على شيوع سيكولوجية الصدام، فهي وحدها التي تجعل جماعة الإخوان المسلمين مثلاً، هي الجماعة ذات الحظ الأوفر من النجاح في الساحة المصرية، بل وفي أغلب مجتمعات ما يدعى بالعالم العربي.
هناك أيضاً في مصر على وجه الخصوص، الخطاب السياسي الموروث عن الحقبة الناصرية، والذي رسخ في عقلية وسيكولوجية الناس، أنهم مستهدفون من كل العالم، في استقلالهم ومقدرات حياتهم وهويتهم وثقافتهم، وأن هناك قوى خارجية مهيمنة، لا هم لها إلا تدبير المؤامرات لإضعافنا والسيطرة علينا ونهب ثرواتنا.
الأخطر في التراث السياسي الثقافي الناصري، هو تصوير رجال الأعمال، بداية من أصحاب المصانع، إلى ملاك العمارات السكنية التي يستأجرها الناس للسكنى وإقامة حياة أسرية، على أنهم لصوص ومصاصي دماء وأعداء للشعب.. وعندما يجد الناس الآن رجال الأعمال المصريين يضعون أيديهم في أيدي رجال الأعمال الأجانب، ليقيموا مشروعات استثمارية مشتركة، تتأكد لدى العامة الرؤية الناصرية للعالم، فها هم أعداء الداخل يتحالفون مع أعداء الخارج، في مؤامرة كبرى لإفقار الفقراء وسحقهم، وليس لإقامة مؤسسات منتجة، يعمل بها من يحتاج إلى وظيفة ودخل يعيل به أسرة!!
لا نستهدف في مقاربتنا هذه إدانة موضوع القضايا، التي يتبناها ما أشرنا إليه من فكر ديني وسياسي، فوجهات النظر في مثل تلك الأمور والقضايا تتعدد، ربما بتعدد البشر، لكننا نستهدف تركيز النظر على التأثير الفكري والسيكولوجي لمثل تلك التوجهات، التي تطبع البشر بطابع العداء والعدوانية والصدام مع الآخر، بغض النظر عن صدق أو زيف القضايا موضوع الخلاف، ذلك أن النتيجة تكون دائماً واحدة، سواء كنا محقين في عدائنا مع الآخر أم لم نكن، وهي أننا قد تبرمجنا عقلياً وسيكولوجياً على العداء، ومن ثم على النزعة الصدامية، وهي المواصفات التي متى تلبست إنسان أو مجتمع، لن يستطيع بعد أن يقصر أو يحد تأثيراتها على مجالات محددة، هي فقط وبالتحديد موضوع القضايا التي ولدت تلك التوجهات، وإنما سيجد الإنسان أسير سيكولوجية الصدام نفسه، يمارس حتى حياته الأسرية، بنفس تلك السيكولوجية الصدامية.. العكس أيضاً صحيح، فالزوج الذي لا ينظر لزوجته على أنها رفيقته وشريكة عمره، بل على أنها الآخر المنتقص العقل والدين، ويتعامل معها بآليات الضرب والهجر في الفراش، أو بالطلاق والطرد من حياته، شبه مجردة من الحد الأدنى من الحقوق الإنسانية، مثل هذا الإنسان من العبث أن نتوقع منه أن يقف موقفاً متزناً وغير عدائي أو صدامي مع الآخر الديني أو السياسي، أو من الآخر زميل العمل وجار السكن.
لن تتيح لنا هذه العجالة أن نوفي الجانب الثقافي المولد لسيكولوجيا العداء حقه من البحث، لنرجئ تناول ما تجاوزناه إلى مقاربات أخرى، وننتقل إلى الجانب المادي، الذي يؤدي إلى تشكيل وشيوع سيكولوجيا الصدام.
زيادة الكثافة السكانية، التي تعني تجمع عدد أكبر من المفروض من الناس، في دائرة ضيقة، سواء كان الضيق المقصود بالمعنى الجغرافي، أو بمعنى محدودية فرص العمل والكسب وندرتها، حيث يؤدي هذا المؤشر الكمي لأوضاع مجتمع، إلى تغير كيفي في نوعية العلاقات بين أفراد ذلك المجتمع، فيتحول التنافس المعتاد والصحي بين الناس على فرص العمل والكسب، والذي من المتوقع أن يتسلح الناس للسبق فيه بالإجادة والكفاءة في الأداء، يتحول التنافس في ظل الكثرة غير الاعتيادية للمتنافسين، قياساً بعدد الفرص المتاحة، إلى صراع وتناحر، لابد أن نتوقع اتسامه بروح عدائية.. تجعل هذه الحالة الأفراد يعيشون تحت ضغوط نفسية وعصبية، وفي حالة توتر دائم، علاوة على تنامي الإحساس بالدونية تجاه الآخر، وكلها عوامل تؤدي إلى تنامي وشيوع سيكولوجيا العداء، ليس فقط للآخر، بل وحتى للذات، ليكون الصدام مع الآخر في بعض الأحيان، نوع من الانتقام من الذات، ومحاولة التخلص منها، وقد ضاقت بنا وضقنا بها.
هناك أيضاً ما يعرف بأخلاقيات الزحام، فالنزوح الدائم والعشوائي من الريف إلى العواصم الحضرية، يخلق حالة من الزحام غير المخطط في المدن، فتختنق بالبشر وبالسيارات، بل ويختنق الهواء أيضاً بالدخان والزفير للملايين التي حشرت حشراً في تلك المدن.. هنا تتحقق عملياً مقولة quot;الجحيم هو الآخرquot;، ويكون التصادم بين الناس هو نوع العلاقة الحتمي بينهم.
الفقر أيضاً وضنك العيش، يستهلك مقدرة الإنسان النفسية على التحمل والصبر، ليكون كما لو إناءاً مغلقاً على بخار محبوس، ينتظر ولو لمسة حانية، لينفجر بما فيه من أبخرة محبوسة، بعكس الرخاء أو بحبوحة العيش، التي تزود الإنسان بمقدرة على احتمال ما يصادفه من إشكاليات وعقبات.
كثيرة هي أيضاً ومتنوعة العوامل المادية التي تؤدي إلى تنامي سيكولوجيا الصدام، وكلها متوفرة في البيئات التي يعيش فيها إنسان الشرق الأوسط، لتكون النتيجة تلك الورطة التي نعيشها، والتي لا تفلح في إخراجنا منها مجرد حلول سياسية، أو دعوات ديموقراطية، وإن كانت هذه تعتبر بلاشك واحدة من الخطوط التي يتحتم السير فيها، إذا ما أردنا الزحف نحو شواطئ مستنقعاتنا الأزلية.
[email protected]