حين تسود ثقافة الهيمنة لتصبغ العلاقات داخل مجتمع، فإنها لا تستثني أحداً من مثالبها، بمن فيهم منتجيها أنفسهم، كما لا يقتصر تأثيرها على المجال المحدود الذي يمثل محور تلك الهيمنة، بل تمتد دوائره مع الوقت لتحتوي المزيد والمزيد من علاقات الحياة في ذلك المجتمع، مادام الأساس هو الإنسان ورؤيته لذاته وللعالم من حوله، وبالتالي فمتى اصطبغ فكره بنهج الهيمنة وقهر الآخرين، لابد وأن يتصرف على ذات النحو في جميع ميادين الحياة، ومع جميع البشر الذين يتعامل معهم، سواء المحسوبين على حزبه وجماعته، أو الآخر المستهدف أساساً بالهيمنة.
فإذا ما سادت بمجتمع ثقافة هيمنة دينية لطائفة ما، تستبعد الآخر وتكفره، وتحاصره في حياته ومواطنته، فإن تأثيرات تلك الفاشية الدينية لا تتوقف سلبياتها عند مجرد التأثير على الآخر، وإنما تمتد لتشمل تصرفات ورؤية الأفراد لذاتهم وللآخرين داخل ذات الطائفة المهيمنة، فتعادي كل من يقول برأي مختلف عما تردده الرموز المهيمنة على خطاب الجماعة، كما تمتد إلى الحقل السياسي، فنجد عصف المسيطرين سياسياً بعامة الشعب وبالجماعات والأحزاب المعارضة، وإلى المجال الاجتماعي حتى في التعامل بين أعضاء الأسرة الواحدة، لتكون القاعدة هي هيمنة من الجميع على الجميع، وتتحول كل أركان الوطن إلى زنازين نعذب ونستعبد فيها أنفسنا بأنفسنا، والعكس صحيح وهو أننا إذا ما رفضنا وقاومنا هيمنة طائفة دينية على أخرى، فإننا لا نكون عندها ننتصر للطائفة المقهورة فقط، وإنما نكون بسبيل السعي لاستئصال ثقافة وممارسات الهيمنة من الأساس.
فإذا كنا نتفق على أن قضايا الأقليات في منطقة الشرق الأوسط هي الأعلى صوتاً، ولا يكاد يعادلها إلا قضية الديموقراطية، لتأتي بعدهما سلسلة تبدو بلا نهاية من مشاكل شعوب المنطقة الحياتية، لكن نظرتنا وتقييمنا لقضايا الأقليات يختلف حسب موقع كل منا، ورؤيته لذاته وللعالم من حوله، فالبعض يتعاطف مع الأقليات ومعاناتها من منطلق أخلاقي طوباوي، يهدف لرفع الظلم الواقع عليهم، وذلك من قبيل الرحمة بهؤلاء المقهورين، والبعض يضيق بمطالباتهم، معتبراً ما قد يحصلون عليه من حقوق لابد وأن تأتي خصماً من امتيازات وسلطات الجماعة المهيمنة التي ينتمي إليها، والتي قد يعتبرها في مقام السيد، فيما تحتل الأقلية المتظلمة موقع المسود، وقد يرى السيد أن المسود قد رفع رأسه أكثر مما ينبغي، كما أفتانا أخيراً رمز من رموز الإسلام السياسي في حديثه عن الأقباط، وإن لم يشأ أن يصرح بما يرى وجوب اتباعه إزاء تلك الرؤوس التي ارتفعت، وهل نكتفي بالضغط عليها لتعود لتطأطئ كالمعتاد، أو أنه من الأفضل أن نقطعها، حتى لا تتجرأ المزيد من تلك الرؤوس على الارتفاع؟!
بين هذين الرؤيتين المتناقضتين لمعاناة وشكوى الأقليات، الموقف الأخلاقي المتعاطف، والموقف الفاشي المعادي، لا نرى أن الأمر يتم مقاربته بصورة صحيحة، فكلا الموقفين ينظر للأقليات كقضية منفصلة، تخص أناساً محددين، لهذا لا نعدم من أصحاب نظرية المؤامرة من يعتبر حراك الأقليات ليس أكثر من مؤامرة على سلام واستقرار المنطقة، وجزءاً من مخطط إمبريالي صهيو أميريكي لتفتيت كياناتها السياسية المناضلة المجاهدة القوية، ويرى مثلاً أن ما يسمى استقواء الأقباط بالخارج، هو ما أتاح لهم إمكانية رفع الأصوات والرؤوس، ما يعتبر في نظر هؤلاء خيانة عظمى، وهو تقييم قد لا يكون خاطئ تماماً، إذا ما كانوا يقصدون خيانة ميراث القهر والتخلف الجاثم على صدر الشعوب منذ قرون طويلة!!
الأقليات بالفعل جديرة بالرعاية، والمظلومون جديرون برفع الظلم عنهم، وهذا الهدف والتوجه في حد ذاته جدير بالتثمين، لكن واقع مجتمعاتنا يقول أن هذا الأمر ليس هو الأساس، وإنما مجرد ناتج ثانوي لحالة مرضية أكبر وأشمل، أكبر بالنسبة لحجم من يقع داخل دائرتها من بشر، وأشمل بامتدادها لسائر ميادين وعلاقات الحياة، التي قد تبدو للوهلة الأولى بعيدة عن المحور الذي يتم حوله التصنيف وممارسة الهيمنة، فالسؤال الأساسي هو عن طبيعة العلاقات التي تحكم سائر مناحي حياة تلك المجتمعات، هل هي علاقات هيمنة الأقوى على الأضعف، والأغنى على الأفقر، أو هل العلاقات بين الأطراف المتنوعة تأخذ شكل السيد والمسود، سواء بين الأفراد وبعضهم البعض، أو بين مختلف المؤسسات والأفراد، أم أن العلاقات تقوم على التكافؤ والتوازن، وعلى الإعلاء من قيمة الإنسان وحقوقه؟
معاناة الأقباط في مصر مثلاً موضعها الصحيح هو أن توضع جنباً إلى جنب، ليس فقط مع ما يكابده الأنبا مكسيموس وأتباعه من تضييق واضطهاد، أو مع البهائيين وشهود يهوه والشيعة وما شابه من إشكاليات تتعلق باختلاف الدين والتنوع في فهمه، وإنما أيضاً مع الاضطهاد المزمن للمرأة، ومع انتهاكات حقوق الإنسان المتكررة في أقسام الشرطة، وفي السماح بتسيير العبَّارات غير الصالحة للإبحار ولا تتوفر فيها عوامل الأمان، ومع معاناة المرضى الفقراء في المستشفيات الأميرية والتأمين الصحي، كذلك مع استلاب حق المواطنين السياسي بتزوير الانتخابات وشراء الأصوات، وفي التجرؤ على تحويل نظام سياسي جمهوري إلى ملكية وراثية، ومع مصادرة حق التنوع والاختيار بالرقابة على الكتب والمصنفات الفنية، والحجر على الأعمال الجريئة منها، ينضم لقائمة الهيمنة واستلاب الحقوق أيضاً احتلال المقاهي والمتاجر للأرصفة، فلا يجد المشاة لهم موضع قدم . . هي باختصار شبكة من علاقات الهيمنة والاستلاب، تشمل كل مناحي حياتنا، وغالباً ما لا يفيد فيها المعالجات الجزئية لموضوع محدد، مع تجاهل سائر العلاقات المماثلة المرتبطة به، فالرجل فاشي النزعة الذي يقهر زوجته وأبناءه، ويتعامل بفظاظة وعدم احترام مع الجماهير التي تقضي احتياجاتها من المؤسسة التي يعمل بها، مثل هذا الإنسان من العبث أن تحدثه عن التسامح مع من يختلف معه في الدين، وبالتالي فمن غير المجدي في معالجة حوادث الاعتداءات على الأقباط أن نلجأ إلى رموز القيادات الدينية ليتبادلوا القبلات والعناق، أو إلى الخطاب الديني لنبين ما جاء بالأديان من الحض على التسامح، فما يبدو احتقاناً دينياً هو في الحقيقة مجرد جزء أو مظهر من مظاهر أزمة الثقافة وطبيعة العلاقات السائدة في المجتمع، وهذا بالطبع لا ينفي أن يكون لكل جزئية عناصرها الخاصة، والتي تحتاج معالجة متخصصة، قد يفيد المبادرة بإنجازها في دفع عجلة التطور المجتمعي إلى الأمام، كما لا يعني ما نقول وجوب الانتظار وعدم السعي لتحسين وضع الأقليات، إلى حين تسوية جميع مشاكل المجتمع دفعة واحدة.
لكننا نستطيع من هذا أن نخرج بنتيجتين، الأولى أنه لا يمكن حل مشاكل الأقليات حلاً شاملاً وجذرياً بالتعامل مع تلك المشاكل بمعزل عن سائر مظاهر ثقافة وعلاقات الهيمنة السائدة بالمجتمع، والثانية أن علو صوت الأقليات بالصراخ لا يصب فقط في صالح هذه الأقلية أو تلك، وإنما أيضاً وبالأساس في صالح المجتمع كله، لتخليصه من البائد والرديء في ثقافته وعلاقاته، وهنا تكون أصوات الأقلية بمثابة رائد للتغيير والتحديث المجتمعي، أو أطواق نجاة تنقذ المجتمع كله من الغرق في مستنقعات القهر والفاشية، وتكون حالة وأوضاع الأقليات مؤشراً هاماً وعميق الدلالة على طبيعة المجتمع، ومدى توافقه مع العصر، ومع مبادئ حقوق الإنسان بصفة عامة، ومدى الحرية التي يتمتع بها كل فرد، وليس فقط الأفراد المنتمون للأقلية المتظلمة.
فالمقاربة الصحيحة لقضايا الأقليات هي التي تنظر إليها في معرض تساؤل: ماذا نريد لمجتمعنا أن يكون؟ هل نريده مجتمعاً شمولياً، يختنق فيه الإنسان وتسحق ملكاته الإبداعية، ويعصف فيه القوي بالضعيف، أم نريده مجتمع الحرية والإنسانية والإبداع؟!
هكذا تكون قضية الأقليات هي مهمة على عاتق الأغلبية بالدرجة الأولى، ليس من قبيل الغيرية وسمو الأخلاق، وإنما لمرجعية نفعية عامة وشاملة بالأساس، فإذا كانت الأقليات هي أول أو أكثر من يتضرر من تفشي القهر والهيمنة، فإن أجراس الإنذار التي يدقونها ينبغي أن توقظ الأغلبية الغافلة، أو التي تأقلمت مع الهيمنة من طول الرضوخ لها، فهكذا حرر البيض السود في أمريكا وجميع أنحاء العالم الحر، وهكذا أيضاً حرر الرجل المرأة، وقد عاد هذا بالتقدم والازدهار لتلك المجتمعات كلها، وليس فقط القطاعات التي تم تحريرها، ويكون علينا جميعاً أن نفزع لنداء الأقليات، لنخلصهم ونخلص أنفسنا جميعاً من ربقة العبودية والقهر.
[email protected]
فإذا ما سادت بمجتمع ثقافة هيمنة دينية لطائفة ما، تستبعد الآخر وتكفره، وتحاصره في حياته ومواطنته، فإن تأثيرات تلك الفاشية الدينية لا تتوقف سلبياتها عند مجرد التأثير على الآخر، وإنما تمتد لتشمل تصرفات ورؤية الأفراد لذاتهم وللآخرين داخل ذات الطائفة المهيمنة، فتعادي كل من يقول برأي مختلف عما تردده الرموز المهيمنة على خطاب الجماعة، كما تمتد إلى الحقل السياسي، فنجد عصف المسيطرين سياسياً بعامة الشعب وبالجماعات والأحزاب المعارضة، وإلى المجال الاجتماعي حتى في التعامل بين أعضاء الأسرة الواحدة، لتكون القاعدة هي هيمنة من الجميع على الجميع، وتتحول كل أركان الوطن إلى زنازين نعذب ونستعبد فيها أنفسنا بأنفسنا، والعكس صحيح وهو أننا إذا ما رفضنا وقاومنا هيمنة طائفة دينية على أخرى، فإننا لا نكون عندها ننتصر للطائفة المقهورة فقط، وإنما نكون بسبيل السعي لاستئصال ثقافة وممارسات الهيمنة من الأساس.
فإذا كنا نتفق على أن قضايا الأقليات في منطقة الشرق الأوسط هي الأعلى صوتاً، ولا يكاد يعادلها إلا قضية الديموقراطية، لتأتي بعدهما سلسلة تبدو بلا نهاية من مشاكل شعوب المنطقة الحياتية، لكن نظرتنا وتقييمنا لقضايا الأقليات يختلف حسب موقع كل منا، ورؤيته لذاته وللعالم من حوله، فالبعض يتعاطف مع الأقليات ومعاناتها من منطلق أخلاقي طوباوي، يهدف لرفع الظلم الواقع عليهم، وذلك من قبيل الرحمة بهؤلاء المقهورين، والبعض يضيق بمطالباتهم، معتبراً ما قد يحصلون عليه من حقوق لابد وأن تأتي خصماً من امتيازات وسلطات الجماعة المهيمنة التي ينتمي إليها، والتي قد يعتبرها في مقام السيد، فيما تحتل الأقلية المتظلمة موقع المسود، وقد يرى السيد أن المسود قد رفع رأسه أكثر مما ينبغي، كما أفتانا أخيراً رمز من رموز الإسلام السياسي في حديثه عن الأقباط، وإن لم يشأ أن يصرح بما يرى وجوب اتباعه إزاء تلك الرؤوس التي ارتفعت، وهل نكتفي بالضغط عليها لتعود لتطأطئ كالمعتاد، أو أنه من الأفضل أن نقطعها، حتى لا تتجرأ المزيد من تلك الرؤوس على الارتفاع؟!
بين هذين الرؤيتين المتناقضتين لمعاناة وشكوى الأقليات، الموقف الأخلاقي المتعاطف، والموقف الفاشي المعادي، لا نرى أن الأمر يتم مقاربته بصورة صحيحة، فكلا الموقفين ينظر للأقليات كقضية منفصلة، تخص أناساً محددين، لهذا لا نعدم من أصحاب نظرية المؤامرة من يعتبر حراك الأقليات ليس أكثر من مؤامرة على سلام واستقرار المنطقة، وجزءاً من مخطط إمبريالي صهيو أميريكي لتفتيت كياناتها السياسية المناضلة المجاهدة القوية، ويرى مثلاً أن ما يسمى استقواء الأقباط بالخارج، هو ما أتاح لهم إمكانية رفع الأصوات والرؤوس، ما يعتبر في نظر هؤلاء خيانة عظمى، وهو تقييم قد لا يكون خاطئ تماماً، إذا ما كانوا يقصدون خيانة ميراث القهر والتخلف الجاثم على صدر الشعوب منذ قرون طويلة!!
الأقليات بالفعل جديرة بالرعاية، والمظلومون جديرون برفع الظلم عنهم، وهذا الهدف والتوجه في حد ذاته جدير بالتثمين، لكن واقع مجتمعاتنا يقول أن هذا الأمر ليس هو الأساس، وإنما مجرد ناتج ثانوي لحالة مرضية أكبر وأشمل، أكبر بالنسبة لحجم من يقع داخل دائرتها من بشر، وأشمل بامتدادها لسائر ميادين وعلاقات الحياة، التي قد تبدو للوهلة الأولى بعيدة عن المحور الذي يتم حوله التصنيف وممارسة الهيمنة، فالسؤال الأساسي هو عن طبيعة العلاقات التي تحكم سائر مناحي حياة تلك المجتمعات، هل هي علاقات هيمنة الأقوى على الأضعف، والأغنى على الأفقر، أو هل العلاقات بين الأطراف المتنوعة تأخذ شكل السيد والمسود، سواء بين الأفراد وبعضهم البعض، أو بين مختلف المؤسسات والأفراد، أم أن العلاقات تقوم على التكافؤ والتوازن، وعلى الإعلاء من قيمة الإنسان وحقوقه؟
معاناة الأقباط في مصر مثلاً موضعها الصحيح هو أن توضع جنباً إلى جنب، ليس فقط مع ما يكابده الأنبا مكسيموس وأتباعه من تضييق واضطهاد، أو مع البهائيين وشهود يهوه والشيعة وما شابه من إشكاليات تتعلق باختلاف الدين والتنوع في فهمه، وإنما أيضاً مع الاضطهاد المزمن للمرأة، ومع انتهاكات حقوق الإنسان المتكررة في أقسام الشرطة، وفي السماح بتسيير العبَّارات غير الصالحة للإبحار ولا تتوفر فيها عوامل الأمان، ومع معاناة المرضى الفقراء في المستشفيات الأميرية والتأمين الصحي، كذلك مع استلاب حق المواطنين السياسي بتزوير الانتخابات وشراء الأصوات، وفي التجرؤ على تحويل نظام سياسي جمهوري إلى ملكية وراثية، ومع مصادرة حق التنوع والاختيار بالرقابة على الكتب والمصنفات الفنية، والحجر على الأعمال الجريئة منها، ينضم لقائمة الهيمنة واستلاب الحقوق أيضاً احتلال المقاهي والمتاجر للأرصفة، فلا يجد المشاة لهم موضع قدم . . هي باختصار شبكة من علاقات الهيمنة والاستلاب، تشمل كل مناحي حياتنا، وغالباً ما لا يفيد فيها المعالجات الجزئية لموضوع محدد، مع تجاهل سائر العلاقات المماثلة المرتبطة به، فالرجل فاشي النزعة الذي يقهر زوجته وأبناءه، ويتعامل بفظاظة وعدم احترام مع الجماهير التي تقضي احتياجاتها من المؤسسة التي يعمل بها، مثل هذا الإنسان من العبث أن تحدثه عن التسامح مع من يختلف معه في الدين، وبالتالي فمن غير المجدي في معالجة حوادث الاعتداءات على الأقباط أن نلجأ إلى رموز القيادات الدينية ليتبادلوا القبلات والعناق، أو إلى الخطاب الديني لنبين ما جاء بالأديان من الحض على التسامح، فما يبدو احتقاناً دينياً هو في الحقيقة مجرد جزء أو مظهر من مظاهر أزمة الثقافة وطبيعة العلاقات السائدة في المجتمع، وهذا بالطبع لا ينفي أن يكون لكل جزئية عناصرها الخاصة، والتي تحتاج معالجة متخصصة، قد يفيد المبادرة بإنجازها في دفع عجلة التطور المجتمعي إلى الأمام، كما لا يعني ما نقول وجوب الانتظار وعدم السعي لتحسين وضع الأقليات، إلى حين تسوية جميع مشاكل المجتمع دفعة واحدة.
لكننا نستطيع من هذا أن نخرج بنتيجتين، الأولى أنه لا يمكن حل مشاكل الأقليات حلاً شاملاً وجذرياً بالتعامل مع تلك المشاكل بمعزل عن سائر مظاهر ثقافة وعلاقات الهيمنة السائدة بالمجتمع، والثانية أن علو صوت الأقليات بالصراخ لا يصب فقط في صالح هذه الأقلية أو تلك، وإنما أيضاً وبالأساس في صالح المجتمع كله، لتخليصه من البائد والرديء في ثقافته وعلاقاته، وهنا تكون أصوات الأقلية بمثابة رائد للتغيير والتحديث المجتمعي، أو أطواق نجاة تنقذ المجتمع كله من الغرق في مستنقعات القهر والفاشية، وتكون حالة وأوضاع الأقليات مؤشراً هاماً وعميق الدلالة على طبيعة المجتمع، ومدى توافقه مع العصر، ومع مبادئ حقوق الإنسان بصفة عامة، ومدى الحرية التي يتمتع بها كل فرد، وليس فقط الأفراد المنتمون للأقلية المتظلمة.
فالمقاربة الصحيحة لقضايا الأقليات هي التي تنظر إليها في معرض تساؤل: ماذا نريد لمجتمعنا أن يكون؟ هل نريده مجتمعاً شمولياً، يختنق فيه الإنسان وتسحق ملكاته الإبداعية، ويعصف فيه القوي بالضعيف، أم نريده مجتمع الحرية والإنسانية والإبداع؟!
هكذا تكون قضية الأقليات هي مهمة على عاتق الأغلبية بالدرجة الأولى، ليس من قبيل الغيرية وسمو الأخلاق، وإنما لمرجعية نفعية عامة وشاملة بالأساس، فإذا كانت الأقليات هي أول أو أكثر من يتضرر من تفشي القهر والهيمنة، فإن أجراس الإنذار التي يدقونها ينبغي أن توقظ الأغلبية الغافلة، أو التي تأقلمت مع الهيمنة من طول الرضوخ لها، فهكذا حرر البيض السود في أمريكا وجميع أنحاء العالم الحر، وهكذا أيضاً حرر الرجل المرأة، وقد عاد هذا بالتقدم والازدهار لتلك المجتمعات كلها، وليس فقط القطاعات التي تم تحريرها، ويكون علينا جميعاً أن نفزع لنداء الأقليات، لنخلصهم ونخلص أنفسنا جميعاً من ربقة العبودية والقهر.
[email protected]
التعليقات