أرسل لي صحفي من بلد عربي أنه لمس ذي العزة والجلال بنصف كلمة ـ عفوا الحاكم ـ فكلفته الحبوس والأصفاد والفلق..
وقل أعوذ برب الفلق
وفي بلد عربي ثان حاول أحدهم فتح موقع للمعارضة، وإرسال مقالتين ونصف إلى شخصين ونصف، فكلفه ذلك حبس سنتين ونصف، مع الرأفة بحاله بإعفائه من الأغلال نصف عام، ليلحق بها حرمان من الحقوق المدنية عشر سنوات.
وفي بلد ثالث حاول مسكين مجند، أن يزور عمه في بلد مجاور مخاصم سياسيا للبلد الذي هو فيه، فكلفه ذلك حبس ثلاث سنوات، فلما خرج كان ينصف عقل، ثم فقد عقله في ليلة فألقى بنفسه في بئر ارتوازي فمات غريقا كسيرا مختنقا.
ولم يتمكن والده من انتشال جثته إلا بحفر بئر موازي آخر بعمل هرقلي لمدة 16 ساعة، ثم حفر نفق جانبي بين البئرين، ثم سحب الجثة الحطام.
وفي الدفن كانت تعليمات المخابرات الصمت الكامل، فدفن مثل هرة مسكينة، ليس لها من يسأل عنها!
ولكن هل السجن هي الأغلال والانفرادية، في قصر النهاية وتزمامارت، وتدمر والحائر، وأيفين ومرمرة، وشاتو ديف وجزيرة روبن والكاترز وجزيرة الشيطان!
وفي الواقع فإن العرب يرزح معظمهم في سجن كبير، في أعناقهم أغلالاً فهي إلى الأذقان فهم مقمحون؛ فلا يشترط أن يكون جميع الناس خلف (القضبان)، بل يمكن إدخال القضبان إلى الرؤوس؛ فيحبس الإنسان من الداخل، كما في دائرة (اليزيدي) بأشد من حبسه بالقضبان من الخارج.
ويبقى المواطن يرتعش طيلة حياته فرقاً من القضبان؟
وكلمة (مقمحون) معبرة؟ فعندما يضغط طوق الغل على الرقبة، ليس أمام السجين إلا رفع رأسه فلا يرى أمامه إلا باتجاه واحد؟
واليزيدي إذا رسمت حوله دائرة على الأرض، انحبس فيها فلم يخرج منها، حتى يأتي من الخارج من يكسر له الحلقة بإصبعه.
وهو لم يحبس بقضبان من الخارج، بل بقضبان من داخل العقل، حيكت بأوهام، هي أشد من حديد السجون.
وهي ليست أوهام اليزيدي لوحده؛ فمعظمنا يزيديون في كثير من الأمور.
والأنظمة لعربية ذكية؛ فهي لا تتورط في اعتقال الكثير، بل ترتهن (القليل) مقابل إغلاق فم (الكل) فتصطك الأفواه رعباًَ.
وفلسفة السجن تقوم على (التخويف)؛ فمتى خافت الأمة من السجن الصغير، دلفت إلى السجن الكبير إلى أجل غير مسمى.
وهو سلاح فرعوني قديم هدد به فرعون موسى؛ فقال:
لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين.
كما كان السجن أحد أضلاع المؤامرة ضد النبي، من ثلاث وسائل تفاوتت بين التهجير والتسفير والتصفية الجسدية:
وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون و يمكر الله.
وحسب رواية (جدار بين ظلمتين) للزوجين العراقيين الجادرجي وشرارة، أو كتاب (عندما غربت الشمس) لعبد الحليم خفاجة، أو رواية (تذكرة ذهاب وعودة من الجحيم) لمحمد الرايس، أصبحت ثقافة الاعتقال والسجن غذاءً يومياً لمواطن عربي أضحى في يد الأنظمة العربية مستباحا مسكينا ويتيما وأسيرا، لا ترقب فيه إلاً ولا ذمة، فليس هناك من مواطن من بلد عربي يزيد وينقص، إلا واعتقل هو أو جاره، أو سمع عمن اعتقل فكسرت أسنانه، أو خلع ظهره؛ فخرج من غرفة التعذيب يزحف على بطنه مثل الزواحف زحفاً.
أو حبس وعمره ثلاث سنوات مع أمه، ليخرج هربا، فيدعس طريق أسفلت فيتعجب منه فهو لم يعرف أسفلت الطرق بعد، ولا يمضغ الفاكهة فلم تبق أسنان مثل الخدج والرضع!.
أو وضع الأشهر الطويلة في غرفة لا ترى النور، إذا قام اصطدم رأسه بالجدار، وإذا مدّ رجله انعقفت، لا يأكل في 24 ساعة سوى ثلاث (فلقات) وقطعة خبز فيبعر البراز مثل البعير بعرا.
رحمة الله عليك أبو محمد خوجا الحلبي!
وعندما دخلت أنا شخصياً الإفرادية للمرة الأولى في حياتي، أصبت بما يشبه الدوار، فلم يكن في تصوري أن يهبط الإنسان في لحظة، إلى هذا الدرك الأسفل من الجحيم، وينهار كومةً من الذكريات، ويخسر في لحظات كل شيء، ويتحول إلى رقم، يحدق في جدران كئيبة!!
رفيقه بطانيتان قذرتان، ووسادته حذاؤه، وحديقته دورة مياه مرافقة، مكانا ضيقا مقرنين هنالك يدعو ثبورا.
وبقيت فيها أربع وخمسين ليلة لا أنساها ولا أتمناها لمن حبسني من عتاة البعث، ونقشت لياليها في أعصابي، ولن تكفي كل حياتي لإزالة مرارتها.
وأظن أن أحلامها سترافقني حتى القبر.
وفي الواقع لا يعرف السجن إلا من دخله. ولا وحشة الانفرادية إلا من ذاقها. ولا التعذيب إلا من امتلأت مفاصله بالرعب، وأذنيه بصراخ المعذبين، في ظلمة الليل البهيم، مع نعيق البوم، ونشاط الحشرات الليلية والخفافيش وعناصر المخابرات.
ألا لعنة الله على الظالمين.
ولكن كما اكتشف الفيلسوف الفرنسي فوكو أن السجن والجلاد أدوات لوظيفة؟
فما هي وظيفة السجن؟ لنحاول التفكيك؟
السجن وظيفته أداة قمع للفكر، وأسلوب اضطهادي في ثلاث إطارات:
ـ محنة فيما يملك الإنسان من ماله وبدنه.
ـ ومحنة في علاقاته الاجتماعية.
ـ وأخيرا ضربة لأهم مقوماته النفسية: الحرية.
ويبدو أنه ينجح إلى حد ما.
وحسب العلوم الطبية فإن لكل جهاز وظيفة؛ فجهاز التنفس يقوم بتأمين المبادلات الغازية، بين الجسم وخارجه، من أكسجين وغاز فحم.
والجهاز البولي مهمته الرئيسية تنقية الدم من الشوائب.
وجهاز الدوران وظيفته الرئيسية ضخ الدم إلى كافة الأنسجة العطشى لترتوي.
وعندما تمرض العضوية يبقى الجهاز وتختل الوظيفة؛ فاللوزات مثلا في مدخل الحلق تعمل كحارس على هذه الفوهة، ولكن قد تنقلب كما في قسم كبير من مخابرات العالم العربي؛ فتصبح (حاميها حراميها) كما يقول المثل!!.
وهكذا تتحول اللوزات إلى مستعمرات جرثومية، تلتهب وتنتفخ، وتبث الذيافين والسموم إلى كل الجسم؛ فتعضّ وريقات القلب والشغاف، وتضرب الكلية بالنفروز، وتلحس المفاصل بداء الروماتزم!.
ويترتب على هذا قصور دسامات القلب، والقصور الكلوي متطلبا الغسيل، أو زرع الكلى، وضرب الجهاز العصبي فيرقص المريض رقصا؛ (داء هونتنجتون أو مرض الكنع الكوريا Chorea)
والمجتمع كائن حيوي، يؤدي وظيفة حيوية للأفراد، ووظيفة السجن في المجتمعات المتخلفة الاستبدادية، هي أداة قمع وإرهاب، ضد الفكر النقدي.
كما فعل جهاز (الستازي STASI) في ألمانيا الشرقية السابق، بكل الدقة الألمانية المعهودة، فتحول ثلث الشعب الألماني إلى مخابرات، وحفظت عينات لكل مشبوه من لعابه ورائحته، وتم استبدال ثلاثين ألف معتقل سياسي مع الغربية بـ 3,6 مليار مارك، ضخت كلها في أعظم تقنيات للمراقبة، في عشرين ألف غرفة تنصت على 18 مليون من السكان!!
إن مبررات السجن متعددة؛ فهي:
أولاً تهدف إلى كسر العلاقة بين المناضل ومثله الأعلى، فالنظام لا تهمه التصفية الجسدية، وقيمة الجسد هي من قيمة الأفكار، وقيمة النشاط السياسي من قيمة الذي يمارسه حامل الأفكار!
ولذا كانت مهمة السجن الأولى أن يتوب صاحبها، ويقلع عن نشاطه، بشروط التوبة النصوح الثلاث: عما بدر منه، والتبرؤ من هذا الفكر الثقيل الذي يحمله على عاتقه، وكل ما قرب إليه من قول وعمل، والتعهد الصارم على عدم العودة إلى هذا الذنب مستقبلا، بفتح الفم بأي لون من النقد.
وأخيرا التكفل بأن يتابع حياته على شكل نبات أو زاحف بري.
إذن عليه فتح كتاب النبات ودراسة وظائف النبات والاقتداء به وكفى به واعظا عليما! مثلا النبات يتنفس؟ فهو يتنفس! النبات يتكاثر؟ إذن هو يتكاثر وينجب أولادا للعبودية والفقر! النبات يفكر ويكفر؟ لا إذن عليه أن لا يفكر ولا يكفر ولا يؤمن ولا يفعل سوى التصفيق والهتاف في مظاهرات القرود..
ـ وهي ثانياً باعتقال عينات ليس لذاتها، بل لإرهاب غيرها، من أجل قطع سلسلة انتشار الأفكار، فعندما يتجرأ شاب على قراءة مقالة من الانترنيت، نشرتها المعارضة، ويكون السجن مأواه؛ فهي إشارة من باب أولى، لكل سكان المنطقة التي تم اعتقال الشاب منها، أن يتخلص كل إنسان فيها من الكمبيوتر عنده.
وصورة النجاة هنا هي في التحول إلى أمي مسطح الدماغ، مثل حدوة الحصان فالمعلومة شر يدخله الإنسان على بيته، والأفضل أن يبقى أميا.
والعلم خطير والوعي مصيره السجن.
ـ والاعتقالات ثالثا تهدف إلى وضع اليد على العنق المغذي والرأس المفكر.، كما تفعل اللبوة حينما تصطاد الغزال؛ فهي تطبق على العنق فتخنق الضحية.
والنظام يقوم باعتقالات محدودة، وللخلايا العصبية في أي تنظيم، فيجب أن يسود الشخير العام في المجتمع، ويجب تطهير المجتمع من مقلقي النوم العام، ويجب تعقيمه من المفكرين بأشد من فيروس السارز وأنفلونزا الخنازير!.
وأن يسود الصمت مثل معهد الصم، ويتم الحديث بحذر بالإشارات؛ فيشهد القاصي والداني على استتباب الأمن.
وأن لا يعكر هدوء المقابر أي شيء، ولو كان طنين نحلة أو دبيب نملة.
وبذلك تقطع العلاقة بين التنظيم والأمة، كما يقطع الرأس عن الجسد؛ فتقتل الأمة قتلا، وتصبح جاهزة لأي احتلال خارجي أو انفجار داخلي، فيدخل جنود الأمريكان إلى بغداد في ثلاث أسابيع وهم من يسقط صنم الطاغية الذي صوتت له الجماهير المنافقة بأصواتها مائة بالمائة 100%!!!
مع هذا فيمكن تحطيم السجن بثلاث قواعد:
ـ القاعدة الأولى تقول إن أي نظام لا يستطيع أن يعتقل كل الأمة، ولا عشرها، بل هو يحرص على اعتقال (أقل عدد ممكن) لتحقيق (أكبر خوف ممكن)، وخاصة من خلال تسريب المعلومات عن التعذيب والإهانات، وأن النظام يشبه آلهة الأولمب تنفث بالنار على عباد مسحوقين سحقأ، لا يستطيعون رد هذه المصيبة عن أنفسهم من هذا التنين الاستخباراتي ولا هم ينصرون.
ولكن ما حدث في ألمانيا الشرقية أن أعتى جهاز استخبارات أصبح رمادا تذروه الرياح، لأنه ضد الطبيعة الإنسانية، واليوم تتكوم أطنان من الوثائق، مما ترك الستازي، تحتاج إلى دراسة ربع قرن ويزيد.
إن كيد الشيطان كان ضعيفا.
ـ والقاعدة الثانية تقول أن اعتقال أو قتل الناس في الأعمال المسلحة سهل ومبرر، ويقبله الناس حرصاُ على الأمن، وهو قانون اعترف به مكيافيللي في كتابه (الأمير) ونصح بأن يضرب الحاكم ضربة واحدة شديدة ولا يكررها، كما حدث في حلبجة في العراق حينما تساقط الناس كالذباب بالأسلحة الكيماوية، أو تحت أرغن ستالين بالصورايخ فتهدمت نصف مدينة حماة على رأس سكانها، وقتل منهم ربما أربعين ألف نسمة.
وفي جو الفتن يمكن اعتقال عشرات الآلاف ،ولا يفتح أحد فمه بالاعتراض.
ولكن هذه القاعدة يمكن خرقها بالمقاومة المدنية، بأن نحول المقاومة المسلحة إلى فكرية، فيعتقل الإنسان من أجل رأيه وليس لأنه قام بالتفجيرات.
وهو أسلوب أسهل، وأضمن، وأكثر بركة وأقل في عدد الضحايا، وأفعل في تحريك الضمائر، وتجنيد معظم الأمة.
وهي ليست مثل العمل المسلح الذي يقوم به ثلة من الشباب أنصاف المجانين القساة المتعصبين.
وهنا في مثل هذه الحالة ـ أعني المقاومة السلمية المدنية ـ لا يقتل الناس بسهولة ولا يعذبون، هكذا بل يصبح المعتقلون مصدر (عسرة هضم) للنظام يفاوضهم للتخلص منهم.
وفي مثل هذه الحالة ينقلب القانون إلى عكسه، أي أن النظام يمكن أن يتأثر بمزيد من الاعتقالات.
وهذا يدفعنا إلى طرح نظرية تفجير السجن من داخله، فلا نطالب بالإفراج عن معتقلي الرأي، بل نورط النظام بمزيد من الاعتقالات، لتفجير السجن من داخله كما يحصل للكرية الحمراء، حينما تنفجر بمزيد من إدخال الماء إلى داخلها.
وهنا يصبح السجن مكان لقاء، في دورة أعمال مستمرة، لمناقشة كل شي وفرها النظام مع الإقامة والطعام والشراب والاستراحة.
وهو الذي مارسه غاندي ويوسف من قبل وسعيد النورسي الذي سمى السجون مدارس يوسفية، أو جواهر لال نهرو و نلسون مانديلا فخرجا من السجن إلى الرئاسة.
في النقاش الذي دار بين الفيلسوف الرواقي (ابكتيتوس) وتلميذه:
سأل التلميذ أستاذه متى يكون الإنسان حرا؟
أجابه الفيلسوف: هل يستطيع أحد أن يكرهك على تصديق ما ليس بصدق؟
التلميذ: لا .
الفيلسوف: فهل يستطيع أحد أن يكرهك على فعل ما لا تعتقده؟
التلميذ: نعم.
الفيلسوف: وكيف ذلك؟
التلميذ: إذا هددني بالموت أو السجن؟
الفيلسوف: فإذا لم تخش من السجن أو الموت؟
التلميذ: لا يستطيع.
الفيلسوف: أنت حر حينئذ.
التعليقات