قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية بشهر كان الفيزيائي والفيلسوف الألماني (فيرنر هايزنبرغ) متوجهاً على ظهر سفينة إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
ويقول في كتابه (الكل والجزء) في فصل (تصرف الأفراد في الكارثة السياسية) أن سحب الحرب كانت تغطي سماء أوربا، ومن يركب السفينة في العاصفة عليه أن يتصرف بما تمليه عليه الظروف؛ فيحزم حقائبه ويؤمن على عياله، ويعد نفسه للأسوأ.
يقول وهذا ما فعلته بعائلتي فقد أسكنتهم في جبال بافاريا بعيدا عن المدن إذا قصفت، ثم توجهت لأمريكا لوداع أصدقائي؛ فلعلي لا أجتمع بهم بعد ذلك.
وينقل عن لقائه مع الفيزيائي الإيطالي (انريكو فيرمي) وكان قد هرب من الفاشية الإيطالية فسأله الأخير عن احتمالات وقوع الحرب؟
قال له هي واقعة لا محالة.
قال انريكو: ومن تظن أنه سينتصر ألمانيا النازية أم خصومها؟
أجابه: من يقرر الحرب هي التكنولوجيا، وألمانيا لا طاقة لها بأعدائها. وهتلر يعرف هذه الحقيقة، وأتمنى أن يستوعبها، ولكن يا صديقي انريكو متى كانت الحرب عقلانية؟
وأقف أنا عند العبارة الأخيرة، فالحرب على ما يبدو يخوضها البشر بعد توديع العقل والعقلانية، ولكنهم مع هذا يخوضونها بحرص وإصرار وتخطيط ووعي فهل البشر مجانين؟
وللجواب على هذا يجب محاولة تفكيك ظاهرة الحرب ومنها التي تدور في غزة حالياً فلن تخرج عن جنون الحرب عبر التاريخ بفارق التكنولوجيا.
فمن وجهة نظر (علم النفس) يرى فرويد في الرسالة التي وجهها إلى آينشتاين أن الإنسان على ما يبدو تتنازعه غريزة (الليبيدوLibido) و(التانتوس Tantus) أي الميل لإعمار الحياة، أو الميل للموت والانتحار. ومن يخوض الحرب لا يخرج كما دخل، بل يتحول إلى مجرم، لأنه المكان الوحيد الذي يقتل فيه الإنسان بدون أن يحاسب.
أو كما يصفها (هرقليطس) الحرب أم كل شيء.
وحسب توينبي المؤرخ فهي أفظع مرض ابتليت به الإنسانية حسب بعد الرق، بل الرق تحصيل حاصل منها، فإذا انتهى الرق وجب أن تنتهي الحرب فلم يبق فيها رابح!!
وهي من وجهة نظر (قانونية) تعطيل لكل القوانين التي تعب الجنس البشري في تحصيلها.
ومنه اعتبر الفيلسوف الألماني (إيمانويل كانت) من وجهة نظر (فلسفية) أنه لا يجب خوض الحرب، تحت أي مسمى وذريعة، بما فيها الحرب العادلة؛ فطالما خاض الإنسان الحرب لا يبقى عدل.
وهذا يصب في الخانة التي أعلنها إبراهيم عليه السلام، حينما حرم التضحية بالإنسان في صورة ابنه إسماعيل، واستبدلها بالقربان الحيواني فكل الحروب هي تقديم قرابين بشرية.
وفي كثير من المناسبات يتم الضحك على الأمهات، أنهن قدمن أولادهن للحرب بلف التابوت بعلم؟! أو إطلاق فشك بنادق وطلقات مدفع زيادة في الكذب تحت دخان الاحترام وهي كلها قرابين مزيفة..
ودعوة إبراهيم هي إعلان للتوقف عن التضحية بالإنسان، وأن تضع الحرب أوزارها، كما قال القرآن (حتى تضع الحرب أوزارها)..
ولكن المسلمين يحجون بدون معرفة معنى كل هذه الرموز، وبدلا من الدعاء للناس بالهداية، يشعل الخطباء الحروب في الأرض باللعنة على معظم الجنس البشري أن يخرب ديارهم؟؟
وهو ما لم يدعو له إبراهيم.
وهو ما دعوت به هذا الصباح في صلاتي أن ينزل السلام ويحقن الدماء في فلسطين أرض النبوات والسلام، فتحولت إلى مسيل الدم وباسم الديانات..
ومنه فإن أعظم شيء فعلته محكمة (نورمبرغ) عام 1945 م أنها اعتبرت الحرب، أي حرب جريمة من الناحية (القانونية).
ولكن أمريكا وإسرائيل وكثير من مغفلي العالم يخوضون الحروب بما يعكس عسرة تطور العقل الإنساني.
والحرب من الناحية البيولوجية ضد قانون الحياة، فبدلاً من أن يدفن الأبناء آباءهم يحصل العكس.
والحرب مرض ينبت من تربة الكراهية كما يقول (سكينر) من مدرسة علم النفس السلوكي، وأنها تنبت في الرؤوس قبل أن تمارس بالفؤوس، فوجب نزع الكراهيات، ولعل أفضل حل للنزاع العربي الإسرائيلي تفاديا لقيامة نووية أن يتزاوج الطرفان، كما فعلت المرأة من تايوان التي قطعت رحلة عشرة آلاف كيلومتر لتلتقي بحبيبها الكردي الذي تعرفت عليه بالانترنت فحضرت إلى أربيل..
ولكنها أحلام جحا وأبليس..
والحرب هي استسلام للدماغ السفلي، حيث تعصف الانفعالات، ويتعطل المخ العلوي عن ضبط مسار الأحداث.
ولعل أهم ميزة لكنيدي في تجنب الحرب النووية عام 1962م أنه وضع أمامه ليس ما ذا نتصرف بل كيف نحل المشكلة؟
والحرب هي ذروة العنف، لأن فيها القضاء على الإنسان كليةً، وتصفيته جسديا.
والحرب لا تحل مشاكل بل تخلق مشاكل لأن العنف يستجر العنف.
والدم يفجر الدم.
وكما يرى غاندي في اللاعنف أنه يمتاز بالمحافظة على الطرفين، من خلال تفاعل الإرادتين، ولكن الحرب هي هرس طرف مقابل نهوض طرف.
وكان مجانين البشر خلال التاريخ المعروف يشعلون الحروب، بمعدل 13 سنة مقابل سنة واحدة للسلام، بما يعجز عنه أعتى المجانين في المصحات العقلية كم تفعل ليفي و اولمرت في برد 2009م، فلم يستفيدوا من درس 2006 في لبنان، ولا ذكريات هولوكوست النازيين، فهم يكرروا دروس هملر السادي، وخلفهم سلاح شمشون الجبار، ليوم الفصل وما أدراك ما يوم الفصل؟ ولم يكن الإنسان يوما ليولد من رحم القوة بل من رحم الحب فالزواج أعظم حب في الأرض..
وحسب إحصائيات معهد (غاستون بوتول) فإنه خلال مائتي سنة حصل أكثر من 360 نزاع مسلح، مات فيه أكثر من ثمانين مليون إنسان، وفي حرب برلين لوحدها مات ثلاثة ملايين إنسان، وفي الجبهة الروسية في الحرب الثانية مات أكثر من عشرين مليون إنسان.
فهذا الإنسان القاتل الناطق أمره عجيب.
والحاصل فحيثما نظر الإنسان للمسألة يتعجب من اندلاع الحرب؟ فهل هناك مفتاح لها يوحي بالأمل في الإنسان؟
في الواقع الحرب هي جنون وجريمة وإفلاس أخلاقي مهما كان مبررها.
وحينما اعترضت الملائكة على خلق الإنسان؟ لم تسأل أتجعل فيها من يكفر فيها؟ بل سألت أتجعل فيها من يسفك الدماء؟
ويبدو أن الحرب تحدث بسبب معقد بيولوجي انثروبولوجي اجتماعي نفسي.
فالدولة بناها الإنسان من أجل أمن الأفراد داخلها، ومع ولادة الدولة ولدت الحضارة التي نتمتع بثمراتها، مقابل احتكار الدولة لآلة العنف، وهذا لم يحصل في مستوى مربعات الدول.
والجنس البشري اليوم في طريقه لتكوين الدولة العالمية التي ستحقق أمن الدول فيما بينها، كما فعلت الدولة بالأفراد داخلها، مقابل احتكار العنف بمؤسسات محدودة جيدة التسلح سريعة القفز لبؤر التوتر.
ومشكلة الديكتاتوريات ستزول مع هذه العتبة من التطور، ولكن علينا أن نعاني كأفراد طويلاً من مرض أشباه صدام.
ولعل نموذج الوحدة الأوربية هو الذي سيسود، لأنها بنيت على العدل وليس التوسع الإمبراطوري،
لم تبن بألمانيا فوق الجميع بل ألمانيا مثل الجميع.
لم تبن بمدرعات غودريان ومدفعية نابليون بل باتفاقية الحديد والصلب المونتان..
واليوم مع كل مراجعة للحرب يحزن العقلاء.
ولكن الطب كان يعالج يوما السعال الديكي بلبن الحمير.
وكان العسل يؤخذ بعد قتل النحل.
والطفل يخلف قاذوراته ولا يستطيع تنظيفها بنفسه.
فهذا تطور وقدر لا فكاك منه.
والجنس البشري اليوم يحل المعضلات السياسية بالحرب، ليس لأن المشكلة غير قابلة للحل، ولكن لعجز الطب السياسي، فمازال عند مرحلة معالجة السعال الديكي بلبن الحمير، كما كان يعتقد أن مرض الإفرنجي سببه تعكر مزاج المريخ إله الحرب.
ويقول عالم السياسة الأمريكي (شالمرز جونسون ـ 70 سنة Chalmers Johnson) ومستشار الاستخبارات المركزية في الحرب الباردة من جامعة بركلي: quot;إن بلدنا مولع بضرب الصواريخquot;.
ويرى في كتابه (الصدمة المضادة Blowback) أن المٍسألة ليست (صراع الحضارات) كما تنبأ بذلك (صمويل هنتجتون) الذي توفي غير مأسوف عليه، متنبئا ومشجعا علة الحرب والضرب؛ بل هي ردة فعل لشعوب تم دمجها قسراً في نظام اقتصادي، بما يسيء إليها مما جعلها تكن أشد الكراهية لبلده، بعد أن بلغ سلطان أمريكا ما بلغ الليل والنهار.
ويرى الرجل أن بلده قام بما يشبه احتلال العالم فهناك 65 قاعدة أمريكا في العالم منها فقط 38 في أوكيناوا، وتحولت دول الحلفاء من الحرب الباردة إلى ما يشبه محميات أمريكية (Protectorate).
ومضى على القول مع كارثة سبتمبر أن ما ذهب إليه كيسنجر في أن أمريكا سوف ترتكس كما فعلت مع ضرب بيرل هاربر، يجعله يخشى أن يصل الرأي العام الأمريكي إلى نتائج خاطئة من وراء كارثة أيلول 2001 وأنه يخشى جداً من عسكرة الحياة العامة وزيادة حقد العالم على أمريكا، في الوقت الذي يمكن أن تكسب احترام وود العالم، وأن الشيء الملح حاليا هو دبلوماسية ذكية).
ولكن طبول بوش الخاسئ وشارون المستلقي في فراش الموت بالأنابيب دفعت العالم إلى حافة أعمق من ذرى جبال الحماقة والعته..
أما أوري افنيري الصحفي الإسرائيلي السلامي فقد ذهب إلى أن أمريكا سوف تبتلع العراق، ولكنها في النهاية سوف تستجر المنطقة إلى المقاومة، كما يفعل الجسم مع البكتريا التي تدخل الدوران، المترافق بتشنجات وسخونة وهذيان، وهي في عالم السياسة الشغب والقلاقل والغليان الشعبي وغياب العقلانية حتى يتم طرد الجسم الغريب.
يقول أفنيري وعندما يرحل الأمريكيون ماذا سيحل بدولة بني صهيون.
ولكن كما قال (فيرنر هايزنبرغ) متى كانت الحرب عقلانية؟