إن من لم يقرأ التاريخ يدفع فاتورة أخطاءه مع الفوائد مركبة، وحين انبثق الوعي في أوربا تحرر العقل بالورق كما يقول المؤرخ ويلز، ولم يكن يصدق الإنسان دخول أوربا عصور التنوير لولا مائة عقل أو يزيديون. ولذا كانت قراءة التاريخ مفيدة وممتعة وويل لمن استخف بدرس التاريخ.
وبالنسبة لي كطبيب أقرأ جانب الوعي في تطور الطب ومن هذه القصص الممتعة قصة الطبيب الإيطالي فيساليوس الذي شق الطريق إلى المحرم بتشريح جثة الإنسان، وضرب ضربته مع كوبرنيكوس وماجلان ودارون، فكلا منهم خرق المحرم في زاوية، فأما كوبرنيكوس فقد قلب تصور الكون ومعه سقط عرش البابا. وأما ماجلان فدار دورته الأرضية فكتب مع كولومبوس عصر الاطلنطي وحبس العرب في قمقم المتوسط بتعبير النيهوم. وأما دارون فقلب قصة الخليقة فخرت قبة الكنيسة حتى اعترفت به قبل أيام وبعد طول عذاب ومماحكة..
لذا كانت قراءة التاريخ مفيدة ومنها قصة هذا الطبيب المبدع..

أثناء زيارة الطبيب الايطالي (فيساليوس Visalius) المولع بالتشريح بلاط الملك الاسباني فيليب الثاني في مطلع القرن السادس عشر (1562 م) أصيب ولي العهد الوحيد (الدون كارلوس) بصدمة في رأسه أدخلته في غيبوبة؟!
استدعي الطبيب ( فيساليوس ـ VESALIUS) للاستشارة؟ فنصح بهدوء بعمل مرعب تخلخلت له مفاصل الملك!!
ماذا تقول أعد مرة أخرى؟
كان جوابه هادئاً وقاسياً بدون أية مشاعر رحمة: أيها الملك ليس أمامنا لإنقاذ حياة ولي العهد إلا ثقب رأسه وربما بأكثر من ثقب، بواسطة (سفود) حاد للغاية، يحمى في النار ثم يدفع فيُحفر به رأس ولي العهد الغالي في مكان الكدمة على الجمجمة، كما يثقب أي حجر قاسي؟!
وعندما استشار الملك من حوله أجمعت الآراء على أن ما يقوله هذا الطبيب هو الجنون بعينه ولا أقل من ذلك، وإن كسر الجمجمة مثل (البطيخة) سوف يقود ولي العهد إلى الموت على وجه التأكيد، وهمس البعض في أذن الملك: إنه مجرم وليس طبيباً، ولعل في قتله إراحة لعباد الله من هذا الهرطيق الذي يزعم أن ما حدث لولي العهد لا علاقة له بالشياطين والجن وطلسمات السحر وعدوى الكواكب وتعكر مزاج المريخ؟! كذا
تابع الحاشية: ويجب أن لا تنسى أيها الملك تاريخ هذا الطبيب الوقح قليل الأدب في حق عظماء الأطباء الذين سبقوه.
مرض تقديس آراء الأقدمين ولو ظهر خطأ ذلك:
كان فيساليوس قد انتقد الطبيب اليوناني (جالينوس) الذي استحالت آراؤه إلى نصوص مقدسة لا تقبل النقاش، وكان فيساليوس من خلال التشريح الميداني للبشر والحيوانات قد وجه ضربة علمية تهدم مزاعم جالينوس بتقوس عظام الفخذ، فهال أطباء ايطاليا ما قاله هذا الفتى المتهور، فأرادوا ترميم ما قاله جالينوس واعتبار كلامه صحيحاً، بأن الذي حصل (تغير) طرأ على طبيعة الإنسان التشريحية، أما كلام جالينوس فيبقى صحيحاً غير قابل للنقض، وكيف يدخل الخطأ على عقل رجل مثل جالينوس؟ أو يفوته مثل هذا الإدراك، وهذه مشكلة عقلية قديمة، وهي نفس الحجة التي ساقها فرعون لموسى حينما شرح له فكر التوحيد؛ فتعجب فرعون من ذلك وقال: هل يعقل أن تفهم أنت هذا الشيء ويفوت هذا الذين سبقونا (فما بال القرون الأولى؟) فقال من دافع عن رأي جالينوس أنه كان محقاً، ولكن الذي قلب طبيعة عظام الفخذين من التقوس إلى الاستقامة هو ارتداء الأوربيين للسراويل الضيقة؟! ويعلق المؤرخ الأمريكي(ويل ديورانت WILL ndash; DURANT ) على هذه الواقعة في كتابه (قصة الحضارة)(STORY OF CIVILIZATION) بأن (فيساليوس) وقع في موجة مدمرة من السوداوية فقام بحرق موسوعته الطبية التي كان يقوم بتأليفها حينذاك حول كتاب الرازي المشهور في الطب (المنصوري) وهو كتاب في عشر مجلدات: (وفي عاصفة من خيبة الأمل في موقف هؤلاء الرجال أحرق فيساليوس مجلداً ضخماً من كتاب التعليقات وتفسيراً للأجزاء العشرة التي يتألف منها كتاب الرازي المنصوري وهو موسوعة في الطب).
وأمام ضغط رجال الدين والمتملقين من حوله مالت نفس الملك فيليب إلى الانتظار والترقب، وارتاح إلى نصيحة الكهنة وأطباء البلاط في العلاج. وابتدأ نشاط جم في الاتصال بالجن والشياطين، ومشت جموع في صورة مظاهرات صاخبة وهي تعوي وتضرب نفسها بالسلاسل والكرابيج، وهرعت فرقة ثالثة وهي تقرب الأضاحي للقديسة المعروفة في (بلد الوليد VALADWALID) مدينة الملك الأموي القديمة التي تحولت إلى مزار لقديسين وقديسات بأسماء لانهاية لها. ولكن حالة ولي العهد ازدادت سوءاً مع ارتفاع موجة تعذيب النفس والضرب بالسوط كطريقة للتطهير ودفع الأرواح الشريرة.
ليس أمامنا إلا ثقب الرأس؟!
كان الملك عاقلاً وليس من ذوي العقول الحجرية ؛ فهو يرى الواقع يتكلم بأوضح لسان ؛ أن كل الطرائق التي لا تتعامل مع الواقعة بذاتها ومباشرة لن تفلح، فاستدعى الطبيب (فيزاليوس) الذي أصر مرة أخرى على ثقب الجمجمة كمخرج وحيد لإنقاذ حياة ولي العهد.
وتقول المصادر العلمية أن فيساليوس أشار بإجراء تربنة له، ولكن النصيحة رفضت، وأشرف الفتى على الهلاك، ووضعت على الجرح التمائم وآثار القديسين، وجلد الأتقياء أنفسهم توسلاً إلى السماء أن تشفيه بمعجزة، ولكن هذا لم يجد فتيلاً، وأخيراً أصر فيساليوس على فتح الجمجمة ففتحت، وتمت العملية في جو كبير من التكتم والسرية، وتم ثقب الرأس؛ فتدفقت إلى الخارج دماء سوداء وكثير من الصديد، وسحب منها كمية كبيرة من القيح، وما لبث الأمير أن تماثل للشفاء وهبطت حرارته، وبعد إجراء العملية بثمانية أيام سار فيليب في موكب مهيب لتقديم الشكر لله..
نحن نضحك اليوم من الواقعة ونعرف أن سبب ما حصل لولي العهد هو النزف في الرأس، الذي يضغط الدماغ المحصور ضمن الصندوق العظمي، خلافاً لبقية أنسجة الجسم التي تستطيع التمدد عبر الأمكنة المجاورة تحت الجلد أو في الجيوب المتاحة، ويبقى الدماغ الحساس حبيس هذا الصندوق مرتهناً لمصيره في حال النزوف أو التمدد من الوذمات، فلا يجد الدم مهرباً سوى الضغط على أمكنة الوعي والحس والحركة في الدماغ، فينهار صاحبها باتجاه الغيبوبة وتسبح الحياة في لجة عاتية من الخطر المحدق والموت المطوق.
إلقاء القبض على ( فيساليوس ) لأنه يشفي بقوى الجن والشياطين:
ويروي التاريخ أن الأطباء الأسبان رتبوا للطبيب فيساليوس مكيدة عندما قام بإنقاذ امرأة تعسرت ولادتها فكادت أن تموت، فلما بقر البطن بشق السكين الأول كادت أن تهلك لساعتها، فالعمليات كانت تجرى بدون تخدير سوى ضرب الرأس لإدخال المريض في غيبوبة أو الإمساك به أو تجريعه كمية كبيرة من الخمور، ولكن السيدة الحامل رجعت إلى الحياة بالضربة الثانية وتم استخراج الجنين على وجه السرعة وإعادة خياطة البطن على جسم أقرب إلى الموت من الحياة.
صعقت اسبانيا لجرأة وتهور هذا الجراح وتطوع الزملاء الحُسَّاد فوشوا به؛ فسارعت محاكم التفتيش الاسبانية الرهيبة بإلقاء القبض عليه، بدعوى أنه مشحون بقوى الشياطين، ولم يشفع له إلا إنقاذ ( الدون كارلوس) ولي العهد ونجاة الأميرة من مخاض قاتل، ولكنهم اشترطوا عليه مغادرة البلد بدون عودة وتوبة نصوح في القدس عند قبر المسيح، وبعد عودته من المقدس تحطمت سفينته وسقط في العراء عند الزاوية الجنوبية الغربية من اليونان، ومات هذا الجراح النطاسي عن عمر يناهز الخمسين.