لم يكن النظام في إيران يتوقع أن حركة حماس، التي تنضوي في "محور" المقاومة الذي عملت طهران بشكل جاد وحثيث على تفصيله وتمتينه، سيكون لها الدور الأكبر في تدمير هذا الاستثمار الإيراني الذي عملت طهران طوال أكثر من أربعين عامًا على التجهيز له.

نجحت حماس في توجيه الضربات القاتلة وعلى دفعات، بدأت في عام 2011 واختتمتها في 2024، لتنجز - وعن غير قصد - ما أرادت الولايات المتحدة وإسرائيل إنجازه طوال عقود: كفّ يد إيران وإبعادها عن ساحل البحر المتوسط.

عندما انطلقت شرارة الربيع العربي في عام 2011، ظنت طهران أن الغد سيكون أفضل بالنسبة إليها وللمحور الذي تقوده، فالإخوان المسلمون يتأثرون بفكر الثورة الإيرانية التي أطلقها الإمام الخميني، والأخير ومن معه ينظر باحترام وإعجاب إلى فكر وكتب السيد قطب، كما أن في صفوفها حماس التي تُعدّ من أبرز حلفائها وهي حركة تنتمي إلى الرحم الإخواني.

وسريعًا بادر نظام الجمهورية الإسلامية إلى الاحتفال بسقوط نظام الرئيس المصري الراحل حسني مبارك، واجتاح الإخوان المسلمون السجون المصرية لإطلاق سراح قيادات في حماس وحزب الله، فبدت الصورة وكأن النفوذ سيتعاظم ومعه ستزداد مناعة وقوة هذا المحور.

وما أن وصلت التظاهرات إلى الأراضي السورية حتى بدأت علامات التزعزع تظهر على المحور. جماعة الإخوان المسلمين كانت قد جهزت نفسها لوصول رياح الربيع القادمة من تونس وليبيا ومصر إلى بلاد الشام، وأعدت العدة لإسقاط الحلقة الأقوى للمحور على شاطئ البحر المتوسط، ونعني سوريا التي نقلت السلاح إلى حزب الله طوال سنوات، واحتضنت قادة حماس مؤمنة لهم ولحركتهم قاعدة سياسية وعسكرية ينطلقون منها.

راهنت إيران ومعها النظام في سوريا على حماس لوقف المد، وأن الوقت قد حان لقيام الحركة بخطوات تعيد تصويب الأمور وضبطها والمساعدة على استيعاب الحركات ذات الهوى الإخواني. ولكن حسابات إيران لم تتوافق مع بيدر حماس، التي انحازت إلى المعارضين على المستويين السياسي والعسكري. وعمل قادتها على محاولة تفريغ دور الرئيس السوري، بشار الأسد، فعوضًا عن تصويره أحد أركان محور المقاومة كما كان قائمًا قبل أشهر في تلك الفترة، أصبح التصويب على النظام وكأنه عائق أمام تحرير فلسطين، ووصل الأمر بإسماعيل هنية وخالد مشعل حد القول عن بشار الأسد: إن من نصرنا على الحق لا يمكن أن ننصره على الباطل.

الحركة لم تكتف بالضرب سياسيًا، بل عملت على تسليح وتدريب جماعات سورية معارضة، بدءًا من درعا حتى مخيم اليرموك ومعه أحياء دمشقية وصولًا في ما بعد إلى حلب وإدلب. فذهبت الآمال الإيرانية أدراج الرياح وتوسعت رقعة المعارك التي استنزفت قدرات النظام العسكرية ومعه حليفه حزب الله وإيران، وخرج قادة حماس من العاصمة السورية.

إقرأ أيضاً: خطة إسقاط الجيش اللبناني وشيطنته

ومع مرور السنوات، بدأت الحركة العودة رويدًا رويدًا إلى حضن طهران، وتحديدًا بعد انتخابات داخلية أوصلت يحيى السنوار وآخرين إلى سدة القيادة. وبدأت الأصوات تعلو عن أن الجناح العسكري لحماس، كتائب عز الدين القسام، غير راض عن السياسات التي اتبعت منذ 2011، وأن الرهان يجب أن يكون فقط على إيران والجماعات المتحالفة معها.

أُعيد احتضان حماس، وارتفعت موجة التفاؤل مجددًا بتعزيز المحور، ولاقت هذه الخطوات برودة سورية في التعاطي معها رغم زيارات ممثلين عن الحركة إلى دمشق لإعادة وصل ما انقطع. ولعب حزب الله دورًا في إعادة فتح أبواب القصور السورية، وأُدخل للمرة الأولى مفهوم "وحدة الساحات" في أي حرب مقبلة، في خطوة أرادت إيران منها القول إن محورها أصبح قوة واحدة من غزة إلى لبنان وسوريا واليمن والعراق، وأن على خصومها التفكير مرتين قبل الشروع في أي مواجهة.

إقرأ أيضاً: إشارات خطيرة تُلتقط في بيروت

وإذا كانت حماس قد لعبت دورًا في زعزعة الاستثمار الإيراني الذي عملت طهران عليه لأكثر من أربعين عامًا في 2011، فإنها وجهت الضربة القاتلة له بعد عملية "طوفان الأقصى" عام 2023. ورغم اعتبار كثيرين أن حماس نفذت العملية بأمر إيراني، غير أن الوقائع التي ظهرت فيما بعد تدفع إلى ضرورة المراجعة.

صحيح أنَّ المحور كان قد وضع خطوطًا رئيسية لتنفيذ اقتحام للمستوطنات الإسرائيلية شمالًا عبر لبنان وجنوبًا من غزة، لكن مسار الأحداث يؤكد أن الحركة تفردت بالقرار والتوقيت دون العودة لحلفائها ووضعهم في صورة العملية. وكمثال بسيط، أن عملية الطوفان كانت لتُفضح لو أبلغت حماس حزب الله بمشروعها، فالأشهر الماضية كشفت أن إسرائيل عملت طوال سنوات على خرق حزب الله سواء عبر "البايجر" وأجهزة اللاسلكي. وبالتالي، كانت ستتمكن من معرفة ما يجري التحضير له لو بلغ النبأ الحزب.

إقرأ أيضاً: خطة حزب الله... أربعة أهداف للحرب ضد إسرائيل

حاولت إيران ومعها حزب الله اللحاق بعد تنفيذ العملية عبر التهنئة أولًا ثم الإعلان عن وضع الإمكانيات بتصرف حماس، وأن قرار المحور أصبح قرارها. ومعها بدأت معركة الإسناد من جنوب لبنان، لتكون النتيجة بعد 13 شهرًا سقوط غزة واقتصار دور الحركة على المناوشة انطلاقًا من جيوب وأنفاق هنا وهناك، وتوجيه ضربات مدمرة إلى حزب الله انطلاقًا من اغتيال الصف الأول وصولًا إلى الاجتياح البري لمعاقله وتشتيت حاضنته الشعبية ودفعها إلى النزوح.

ضربت حماس الاستثمار الإيراني بغير قصد، من غزة أولًا عبر التضييق على عناصر حركة الصابرين واعتقال كوادرها ومنع عناصرها من حمل السلاح، وصولًا إلى سوريا وتدريب وتسليح الجماعات المناهضة للنظام، انتهاءً بـ2023 و2024 مع جر القطاع ومعه حزب الله إلى معركة قاتلة قد تنهي معها كل الآمال والجهود الإيرانية.