إذا كان يوم السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023 قد شكل مفترق طرق حاسمًا بالنسبة للقضية الفلسطينية بعد الهجوم الذي أعدته ونفذته حركة حماس على القواعد العسكرية والمستوطنات المحيطة بقطاع غزة، فإن اليوم التالي الذي أتى بعده -الثامن من تشرين الأول (أكتوبر)- وبدء ما سُمي بـ"معركة الإسناد" سيبقى ماثلًا لفترة طويلة في أذهان اللبنانيين. كرة الثلج تدحرجت وكبرت مع مرور الأشهر بفعل الاشتباكات حتى أصبحت الغارات الجوية على لبنان بمثابة خبر عادي.
ورغم كل الدعوات التي انطلقت وتمنت على حزب الله تجنب الدخول في الحرب مع يوم السابع من تشرين الأول (أكتوبر) وحتى الأشهر التي تلته، فضل الحزب الانخراط ولو بشكل محدود، حيث انحصر الصراع ضمن مساحات معينة في البداية قبل أن يتوسع البيكار ليدخل لبنان بأكمله في آتون النيران بعد عام على الطوفان.
أسئلة كثيرة طُرحت عن الأسباب التي دفعت بحزب الله إلى الدخول في معركة "طوفان الأقصى"، حيث إن كبار قادته قالوا في أكثر من مناسبة إنهم لم يكونوا على علم مسبق بموعدها، وإن حماس لم تضعهم في أجوائها. قد تكون فكرة إطلاق هجوم شامل على المستوطنات الإسرائيلية والدخول في العمق بالطريقة التي نفذتها حركة حماس قد طُرحت على الطاولة في أوقات سابقة بين الحركة وحزب الله وإيران، غير أنَّ التوقيت الدقيق وشكل الهجوم الذي حصل لم يكونا متفقًا عليهما.
حسابات ودوافع حزب الله في إطلاق معركة إسناد حركة حماس استندت إلى أربعة أهداف أُريد تحقيقها. تمثل الهدف الأول في ترسيخ مفهوم "وحدة الساحات" الذي حُكي عنه كثيرًا، فالحزب ومن خلفه إيران أرادوا إدخال مفهوم جديد للصراع عبر إظهار جميع الحركات والدول ككتلة صلبة، وفتح عدة جبهات كل حسب الإمكانيات المتوافرة لها بوقت واحد، من غزة إلى لبنان فاليمن والعراق وسوريا، لكن الأخيرة، ونظرًا للظروف السياسية المعقدة، نأت بنفسها.
لوحدة الساحات أهمية كبيرة في حسابات حزب الله كحركة مقاومة ضد إسرائيل كما يقدم نفسه، فأصوات كثيرة بدأت تتحدث عن جدوى استمرار تمسكه بالسلاح، وذلك لأن آخر مواجهة مباشرة مع الإسرائيليين حدثت قبل خمسة عشر عامًا في حرب تموز (يوليو) 2006، لذلك مثلت حرب غزة فرصة للحزب ليؤكد مشروعية امتلاكه السلاح.
أراد حزب الله تسليف قيادة حركة حماس في غزة موقفًا ودعمًا واضحًا مع انطلاق "طوفان الأقصى"، فالحركة اختلفت كثيرًا مع الحزب بعد عام 2011 بسبب الحرب السورية وتباعدا بحيث أصبح كل منهما على طرفي نقيض، ولم تعد المياه إلى مجاريها إلا بعد عام 2017، موعد الانتخابات الداخلية في الحركة، والتي أُقصي بعدها عدد من المسؤولين الذين لم يكونوا على وئام مع الحزب وإيران. تصدر آخرون المشهد، خصوصًا المحسوبين على الجناح العسكري (كتائب عز الدين القسام)، الذي لطالما حُكي أن قادته غير راضين عن مواقف مسؤولي حماس حيال الربيع العربي.
إقرأ أيضاً: لماذا يمتنع حزب الله عن استخدام سلاحه الاستراتيجي؟
إضافة إلى وحدة الساحات ودعم حماس، أراد حزب الله محو الاتهامات التي كانت توجه إليه بخصوص خوضه صراعات مذهبية في الشرق الأوسط، بدأت مع أحداث السابع من أيار (مايو) 2008 في لبنان، وانتقلت إلى سوريا والعراق واليمن. وجد الحزب في حرب غزة دافعًا لإسقاط هذه الاتهامات عنه عبر الدخول في معركة دعم حركتي حماس والجهاد الإسلامي (السنيّتين) للدفاع عن سكان قطاع غزة.
يتمحور الهدف الرابع حول الحرب القصيرة والمحدودة التي ستفضي في نهاية الأمر إلى إعلان الانتصار، كما حدث في حرب تموز (يوليو)، وإسكات الأصوات المطالبة بنزع سلاحه، الذي ساهم في وقف الحرب على غزة وأثبت جدواه ضد إسرائيل، مرسخًا معادلة الردع. قراءة حزب الله للمشهد كانت متطابقة مع حماس وأفرقاء المحور لناحية أن الحرب لا يمكن أن تدوم لأكثر من ثلاثة أشهر كأقصى حد، لكن حساباتهم لم تتطابق مع البيدر الإسرائيلي. الغريب هنا النظرية التقليدية العالقة في الأذهان والتي لا تتحدث سوى عن عدم قدرة إسرائيل على شن حرب طويلة، وأن تل أبيب ترضخ مع سقوط أول قتيل أو أسير، علمًا أنَّ إسرائيل قامت على الحروب واجتاحت لبنان عام 1982 ولم تخرج منه حتى عام 2000 رغم الهجمات التي كانت تستهدف قواتها.
إقرأ أيضاً: محرقة المتوسط والحرب الشاملة على الايديولوجيا المسلّحة
المفاجأة أن حزب الله خدع وانخدع بنظرية الحرب القصيرة الأمد، والتي تنتهي برفع علامة النصر، فالعديد من السياسيين اللبنانيين الذين لا يكنون وداً كبيرًا له ولسلاحه أيدوا موقفه لناحية انخراطه في حرب الإسناد ظنًا منهم أن الحرب ستنتهي في غضون أسابيع، ومعها سيتمكنون من تحصيل مكاسب داخلية نظير وقوفهم إلى جانبه. الحزب قرأ في وقوف هؤلاء السياسيين معه مناخًا إقليميًا ودوليًا وهميًا بأنَّ الحرب لن تستمر لفترة طويلة، لأنه اعتقد أنَّ مواقفهم ناجمة عن اتصالات خارجية أكدت بما لا لبس فيه أنَّ الأجواء ستعود إلى ما قبل السابع من تشرين الأول (أكتوبر) قريبًا.
التعليقات