كان لافتاً إقدام سلاح الجو الإسرائيلي على استهداف قيادات الجماعة الإسلامية في لبنان طوال الفترة الماضية وبصورة متكررة، من الجنوب إلى البقاع الغربي. الجماعة، عبر جناحها العسكري "قوات الفجر"، كانت قد أعلنت دعمها لعملية طوفان الأقصى ومعركة الإسناد التي أطلقها حزب الله في الثامن من تشرين الأول (أكتوبر)، ولكن على الأرض لم يكن لها أي تأثير يُذكر، حيث إن جناحها العسكري قد تم تجميد العمل به منذ ثمانينيَّات القرن الماضي. وفي أكبر حشد لها، لم تتمكن من إخراج سوى العشرات من المقنعين الذين حملوا أسلحة فردية أثناء مشاركتهم في تشييع قيادات الجماعة التي استهدفهم الطيران الإسرائيلي.

الاغتيالات التي لاحقت قيادات الجماعة وما زالت، بالمقارنة مع عدم وجود حيثية عسكرية لها من شأنها تشكيل خطر في جبهة الجنوب، تطرح علامات استفهام كبيرة حول أسباب استهداف كوادرها. فهل ما يحصل هو استهداف استباقي لمنع نشوء أي حركة أيديولوجية مسلحة جديدة على ضفاف البحر المتوسط، سواء في سوريا أو لبنان وغزة؟ هذا يتلاقى مع المحرقة "الأيديولوجية" الدائرة منذ عام 2012 في بلاد الشام، سواء عبر المجموعات التي تتقاتل فيما بينها أو عبر ضربها من طرف دول خارجية بينها خصومات كبيرة، ولكن تتقاطع مصالحها في ضرب هذه الجماعات.

في الحرب السورية، تصدرت عدة فصائل أيديولوجية، أبرزها (لواء التوحيد، صقور الشام، جيش الإسلام، وحركة أحرار الشام) المشهد، ساعية إلى إسقاط النظام. هذه الجماعات توافقت فيما بينها أخيراً في عام 2013 لتضع الخطة النهائية للاندماج في تنظيم واحد سيُطلق عليه فيما بعد اسم "الجبهة الإسلامية"، وسيضم أكثر من خمسين ألف مقاتل. وقبل أسبوع واحد من الإعلان، قُتل عبد القادر الصالح، قائد لواء التوحيد، أحد أبرز الأركان الداعين لتأسيس الجبهة، الذي كان قد تمكن قبل أشهر من بسط سيطرته على معظم محافظة حلب، كبرى المحافظات السورية، ووصل إلى حمص. بعد مقتل الصالح، تشتت مقاتلوه بين فصائل أخرى أو بين نازح إلى تركيا.

وقبل أشهر قليلة من الذكرى السنوية الأولى لمقتل الصالح، دوّى انفجارٌ كبير في مقر محصن تحت الأرض تابع لحركة أحرار الشام في بلدة رام حمدان بريف إدلب أثناء اجتماع سرّي. وبعد انجلاء الغبار والدخان، تبيّن أن 45 قيادياً من الحركة، يشكلون الصف الأول والثاني وحتى الثالث، قد قُتلوا في عملية لم تتضح بعد الجهة التي نفذتها. وكانت "أحرار الشام" قد خاضت قبل ذلك التفجير معارك عنيفة مع تنظيم داعش، خسرت معها حضورها في المناطق الشرقية مثل محافظة الرقة ودير الزور. وبالمقابل، طردت التنظيم من إدلب وبعض أرياف حلب.

جيش الإسلام، الذي بسط سيطرته على ريف دمشق حتى أصبح على مسافة قريبة من القصر الجمهوري، كان يُعد أكبر الفصائل من ناحية العدد والعتاد، وأخطرها لناحية تموضعه الجغرافي. خاض مواجهات داخلية مع أطراف مسلحة كفيلق الرحمن وجبهة النصرة، وتواجه مع حزب الله بعد دخوله الحرب السورية. ولكن غارة جوية، قال معارضون سوريون إنها روسية ولم تتبنّها موسكو، قضت على قائد الجيش زهران علوش، ثم أرغمت التسويات جيشه على الاندثار ومغادرة معاقله.

إقرأ أيضاً: إسرائيل تستثمر في فشلها

ومع سقوط الجماعات الثلاث الكبرى، اختفى أثر حركة صقور الشام قبل أن يُصار إلى دمج الفصائل الأيديولوجية من جديد. هذه المرة، انضمت إليهم جبهة النصرة ليشكلوا "جيش الفتح"، الذي تمكن في أول اختبار من السيطرة على مدينة إدلب، وبدأ يتطلع إلى ما هو أبعد من ذلك. ولكن غارة جوية للتحالف الغربي، كما قيل، استهدفت قائد هذا الجيش، أسامة نمورة المعروف باسم أبو عمر سراقب، لتنتهي الأحلام في إدلب، وتفكك عقد الجيش. تمكنت النصرة، أو ما بات يُعرف بجبهة تحرير الشام، من بسط سيطرتها على المدينة وأريافها، والتزمت بمسار الاتفاقات منذ ذلك الحين حتى يأتي الدور عليها. أما داعش، التي صالت وجالت بين العراق وسوريا، فلم يعد لها أثر يُذكر سوى بعض الجيوب، تحديداً في الصحراء السورية.

ومن سوريا إلى غزة والضفة الغربية، يواصل الجيش الإسرائيلي معركته مع حركة حماس والجهاد الإسلامي، رغم إعلانه مراراً القضاء على معظم القيادات العسكرية البارزة، وأن حرب غزة أصبحت ثانوية. تصدر لبنان المشهد مع تدهور الأوضاع بشكل كبير منذ أيلول (سبتمبر)، وسط مواجهات عنيفة بين إسرائيل وحزب الله، أدت حتى الآن إلى تعرض الأخير لخسائر كبيرة، خصوصاً على صعيد القيادة. جدير بالذكر أن الحزب كان قد تقاتل مع معظم الفصائل الأيديولوجية في سوريا، انطلاقاً من القصير وريف دمشق وحمص وتدمر ودير الزور حتى أرياف حلب وإدلب.

إقرأ أيضاً: أخطر من "البايجر"... خطط إسرائيل لحزب الله

المشهد معقد بكل المقاييس. فالتحالف الغربي، الذي أنهى داعش ويعمد إلى تصفية المتطرفين الذين يقاتلون النظام السوري، كان ولا يزال يُطالب الرئيس السوري بالتنحي وترك السلطة، فارضاً على حكومته وأركانه أقصى العقوبات. لكن ما نراه تناقضاً هو في الحقيقة ربما نموذج عن التخطيط لما هو قادم من اتفاقيات اقتصادية وتجارية لا يُمكن تفعيلها وضمان استمراريتها مع وجود جماعات عقائدية مسلحة قد تقلب الأمور رأساً على عقب في أي لحظة. أيضاً، هناك استفادة من الدروس السابقة، وأبرزها درس الجهاديين العرب الذين غادروا إلى أفغانستان لقتال الاتحاد السوفياتي، ليغيروا مسارهم بعد ذلك إلى كينيا وتنزانيا لاستهداف السفارة الأميركية وميناء عدن عبر تفجير المدمرة كول، وصولاً إلى أحداث الحادي عشر من أيلول.