إن المنطقة أمام تحوّلاتٍ كبيرة، من أبرز ملامحها مشاهدة حربٍ حامية على بعض الجبهات، وظهور بوادر سلمٍ على جبهاتٍ أخرى، وغنيٌّ عن القول إن ما يجري في المنطقة حالياً هو أعمق وأوسع من حرب حزيران (يونيو) والتي كانت نتائجها السياسية مصالحة عددٍ من الدول العربية مع إسرائيل.
لذا، فإن ما يجري على جبهات إسرائيل تحديداً وتبعاتها على دول المنطقة سيكون مقدمةً لإحداث تغييرِ جزءٍ كبيرٍ من شكل الشرق الأوسط بصورته الجديدة، فالحرب على غزة من الأرجح ستكون نتائجها انهيار حركة حماس كتنظيم عسكري وإضعافها ومن ثم تفكيكها كتنظيم سياسي، وبعدها محاولة إخراجها من السلطة نهائياً، بل وعلى الأغلب سيُلاحق قادتُها، وتُشكّل حكومة جديدة في غزة بإشراف الرئيس الفلسطيني وتكون موالية لهُ، وتالياً إعلان الدولة الفلسطينية وفق الشروط الإسرائيلية، وإبقاء القضايا الخلافية مثل القدس الشرقية والأراضي قبل حزيران (يونيو) 1967 للحوار بين الطرفين، والتي ستفضي كنتيجة نهائية إلى مصالحة عربية إسرائيلية شاملة ومعلنة.
أمَّا على صعيد الجبهة اللبنانية، فإنَّ مصير حزب الله فيها لن يختلفَ كثيراً عن مصير حركة حماس، والنتيجة ستكون بإنهاء مرحلة أو حالة اللادولة في لبنان التي خلقها، وفرضها حزب الله، وتعود الدولة شيئاً فشيئاً بمؤسساتها الحقيقية إلى حالتها الطبيعية لتكون صاحبةَ السلطة الفعلية في عموم البلد، وليست الدولة الشكلية كما كانت طوال السنوات الماضية، وسيتراجع دورُ ونفوذُ حزب الله كثيراً في الحياة السياسية بلبنان، الأمر الذي سيؤدّي إلى نهوض سياسي واجتماعي واقتصادي في لبنان، وعلى أمل أن تعود تلك الدولة كما كانت قبل الحرب الأهلية منارة الشرق برمّته.
في العراق، من المرجَّح أن يتعرّض قادة ميليشيات الحشد الشعبي إلى عمليات تصفية جسدية أو اضطرار إيران إلى إنهاء دور بل وجود هذه الميليشيات وتفكيكها، مما سيؤدي إلى اهتزاز مواقع الطبقة الفاسدة من الساسة العراقيين المُحتَمين بتلك الميليشيات، ومن ثم ظهور وبلورة طبقة وطنية معبِّرة عن طموحات الشعب العراقي، رغم أن ذلك الأمر سيحتاج إلى وقت وجهد إلاَّ أن مسار الأحداث يشير إلى ذلك.
أمَّا في إيران، فسيضطر نظام الملالي إلى إجراء إصلاحات داخلية عميقة، من ضمنها التوقف عن التدخل في الشؤون الداخلية للدول، والإحجام عن تصدير مفهوم الثورة للدول الإقليمية، والبدء بإصلاحات داخلية ملموسة نتيجتها الإقرار بالتعدُّد القومي، ومنح القوميات الإيرانية، ومنها الكرد درجةً من الحكم الذاتي، وهذه طبعاً على جبهة الحرب التي تقودُها إسرائيل بزعامة رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتياهو.
وفيما يتعلق بجبهة السلام، فعلى الأغلب ستنطلق من تركيا والتي يقودها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من خلال إعادة فتح ملف الحوار مع رئيس حزب العمال الكردستاني عبدالله أوجلان المسجون في إيميرالي، يبدو أن أوجلان هذه المرة يتّسم بشيء من الجديّة، وربما تعلَّم الرجل في معتقله الدرس الذي يجب أن يتعلّمه كلُّ سياسي، ألا وهو أن الحوار هو الطريق الأسلم لحل كافة القضايا، ومن خلال هذا الحوار في حال نجاحه سيتحقق المزيد من الاستقرار في تركيا والمنطقة.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل ستستجيب القيادة في قنديل لمبدأ الحوار، وتلتفت لأهميته؟ وهم الذين بنوا كلّ أمجادهم على الحرب والقتل وممارسات الإرهاب والاغتيالات، إضافةً إلى كل أشكال العنف الفكري والجسدي بما أنهم لا يتقنون أيَّة لغة غيرها، عدا عن أنهم باتوا منذ عقود أداة إيرانية صرفة، كما أن قادة قنديل يُشكّلون العقبة الأساسية في وجه أيّ حوار بين تركيا والسيِّد أوجلان، ولكن على السيِّد أوجلان في هذه الحالة أن يكون صارماً إذا ما كان مقتنعاً حقاً بأهمية الحوار، وأن يطالب أنصارَه بالتخلّي عن السلاح بشكل نهائي، كذلك التخلّي عن كلّ أشكال العنف والبدء بحياة سياسية مدنية، حيث توفّر تركيا مساحة واسعة للديمقراطية من خلال الانتخابات البرلمانية والبلدية، كما على السيّد أوجلان مطالبة حزبه بعدم التدخُّل في شؤون الكُرد في المناطق الأخرى، والتخلي نهائياً عن أفرع حزبه في دول الجوار أو حلها، ومن ثم تركيز نشاطه السياسي بشكل ديمقراطي وسلمي في الساحة التركية التي هي ملعبه الرئيس.
لا يُخفى على العارفين بالشأن التركي أن الرئيس التركي أردوغان وفَّر مناخاً وفسحة واسعة للكرد للدفاع عن حقوقهم والتعبير عن خصوصيتهم بشكلٍ سلمي وديمقراطي، وهو ما لم يوفّره أيُّ زعيم تركي سابق، لذا على كُرد تركيا عموماً والسيِّد أوجلان على وجه الخصوص الاستفادة من الظروف المتاحة، وإنجاح الحوار والمضي بعملية السلام ولو اقتضى الأمر بطرد جماعة قنديل من الحزب، إذ ليس من المعقولِ ربط مصير القضية الكردية في تركيا بمصالح أو مصير مجموعة أشخاص ارتهنوا لإرادة قوى خارجية؛ وفي حال نجاح الحوار، وتمت عملية السلام، فإن لوحة إعادة تشكيل الشرق الأوسط الجديد من خلال الحربِ على بعض الجبهات والسلم على جبهات أخرى ستبدو أقرب إلى الواقع أكثر من أيَّ وقتٍ مضى.
التعليقات