بعد مرور أكثر من أربعة عقود على سقوط نظام محمد رضا بهلوي عبر ثورة شعبية عامة، يطل علينا اليوم ابنه رضا بهلوي مرتدياً لباس المعارض الشرس الذي لا يُشق له غبار لنظام الملالي في طهران، مطالباً بإسقاطه واستعادة ملك أبيه، ليُنعم الشعب الإيراني، على حد تعبيره، بالعيش الرغيد في ظل نظام مدني ديمقراطي؛ يأخذ على عاتقه إعادة بناء إيران على أسس مدنية وحضارية، ويضمن فيها المواطن حريته كاملة غير منقوصة بعد أن فقدها على يد نظام ملالي طهران، الذين انتهجوا سياسة قمعية ضد أيّ معارضة أو انتقاد أو تظاهرة سلمية. تبدأ هذه السياسة بالاعتقالات، وتصل إلى التعذيب حتى الموت، وتنتهي بالإعدامات بطرق بشعة لم يشهدها العالم من قبل، ومنها الإعدامات العلنية بالرافعات الهيدروليكية التي تُستخدم في الأعمال الإنشائية الكبيرة.
ليس من المصادفة تحرك ابن الشاه، أو نتيجة صحوة ضمير تفرض عليه المطالبة باستعادة ملك أبيه، وإنما يأتي هذا التحرك بدفع من جهات أجنبية، وعلى وجه التحديد من الولايات المتحدة الأميركية والكيان الصهيوني، لاستخدامه كرسالة للابتزاز أو ورقة ضغط على نظام الملالي، وعلى رأسه علي خامنئي، لردعه عن محاولة استثمار حرب غزة ضد الكيان الصهيوني كفرصة للتمدد أكثر في منطقتنا عبر ركوبه موجة الدفاع العالمية عن غزة، وعن حقوق الشعب الفلسطيني بمناوشات استعراضية هزيلة ضد الكيان الصهيوني. حيث اعتبرتها الولايات المتحدة، رغم محدوديتها وضعفها وانضباطها، خروجاً عن النص شبه المكتوب بينها وبين نظام الملالي، الذي يضمن مكتسبات مهمة مقابل الخدمات التي قدمها للأميركان في احتلال المنطقة، وخاصة احتلال العراق. وما تحركات رضا بهلوي في حقيقة الأمر إلا محاولة لتقييد المعارضة الوطنية الإيرانية، ودعماً مباشراً لنظام الملالي لإخراجه من مأزقه وأزماته المتتالية وإبقائه على رأس الحكم في إيران.
لكن ليس هذا كل شيء؛ فتحرك ابن الشاه في هذا الوقت بالذات لم يكن بعيداً عن نضالات الشعب الإيراني، وحركته الوطنية المعارضة وعلى رأسها المجلس الوطني للمقاومة الإيرانية ومنظمته المحورية "منظمة مجاهدي خلق" التي تهدد النظام بالسقوط، خاصة بعد التصاعد الملحوظ لوحدات المقاومة التابعة لمجاهدي خلق في الداخل في الآونة الأخيرة. حيث قامت الحركة بمحاولات جادة لإسقاط النظام من الداخل عبر القيام بتظاهرات عامة في جميع أنحاء إيران، ارتقت إلى مرتبة الثورات الشعبية العارمة. وقد شهدنا نموذجاً لها في الانتفاضات الشعبية التي حدثت في إيران خلال السنوات 2018 و2019 و2022، والتي أثبتت أن الشعب الإيراني مُصرّ على إسقاط هذا النظام مهما طال الزمن وغلت التضحيات. وقد اعترف النظام نفسه بقوة هذه الانتفاضات، وكان آخرها اعتراف خبراء النظام بحالة عدم الاستقرار التي يعيشها النظام، والخشية من ثورة شعبية قد تكون رايتها حمراء وليست بيضاء هذه المرة.
لا تتمثل مخاوف أميركا في خروج نظام الملالي عن النص في بعض الأحيان، فضبطه وإعادته للحظيرة أمر ميسور، مرة بالترغيب وأخرى بالتهديد. بل تتمثل المخاوف في الأزمات الحادة التي يعيشها النظام، خاصة بعد تعرضه لضربات شديدة كالتي تلقاها في المنطقة من قبل الكيان الصهيوني، وأبرزها اغتيال زعيم حزب الله حسن نصر الله وأركان من قيادته، وفي مقدمتهم فؤاد شكر، القائد العسكري الميداني للحزب. مما أسهم في إضعاف النظام، وجعل من سقوطه أمراً قابلاً للتحقيق رغم امتلاكه أجهزة أمنية قوية وحرساً يمتلك أنواعاً من الأسلحة لمواجهة أي انقلاب عسكري أو انتفاضة شعبية مسلحة قد تطيح بالنظام. وهذا ما لا تتمناه الولايات المتحدة؛ فانتصار حركة الشعوب يشكل خطراً على المصالح الأميركية ويقزمها. بعبارة أخرى، تستخدم أميركا ورقة ابن الشاه لتخدير الشعب الإيراني وقطع الطريق على المقاومة الإيرانية من الوصول إلى السلطة.
إقرأ أيضاً: إيران بين اليأس والأمل
إنَّ رياح أميركا والكيان الصهيوني لن تجري بما تشتهي سفنها. فالشعب الإيراني لن يقبل بابن الشاه بديلاً لنظام الملالي رغم القهر الذي يعيشه، وهم يعلمون ذلك. فهو شعب عريق ومتمرس في النضال، ويدرك جيداً أن البدائل التي يفرضها هؤلاء ليست أقل سوءاً من النظام القائم، حتى وإن قدمت بعض المكتسبات المتواضعة. فالشعب الإيراني قد حسم أمره على إسقاط هذا النظام، والإتيان بحكومة وطنية ديمقراطية تضمن تحقيق طموحات كافة مكونات الشعب الإيراني كاملة غير منقوصة، ورفض أنصاف الحلول. وإن احتمال عودة ابن الشاه بنظام أبيه، أو استعادة عائلة بهلوي لامتيازاتها، لا يزال محل شك داخل إيران، فسجل نظام الشاه المخلوع مليء بالخيانة والعمالة، وقد حمل عار رتبة "شرطي الخليج" التي تقلدها الشاه في منطقة الشرق الأوسط وتوارثها الملالي من بعده. ويرى الشعب الإيراني في عودة رضا بهلوي محاولة بائسة لاستعادة الماضي الذي لم يجلب له سوى الخيبة، ما يجعل من عودة النظام الملكي إمكانية غير قابلة للتحقيق.
أن يحكم ابن الشاه الطاغية السابق بعد أكثر من أربعة عقود من الظلم والاضطهاد على يد نظام الملالي الموغل في أبشع أنواع الطائفية لهو من سخرية الأقدار، ومحاولة مختلة لضخ الحياة في ظلال باهتة لتاريخ مات.
ويبقى الشعب الإيراني سيد الموقف، وتبقى المقاومة الإيرانية البديل الديمقراطي الأوحد، ويظل برنامج مريم رجوي المكون من المواد العشر هو الخلاص والمستقبل الأصلح لكافة أبناء الشعب الإيراني.
التعليقات