ليس غريباً أن يسود الاعتقاد لدى الكثير من المتابعين للشأن الإيراني بصعوبة نجاح المعارضة الإيرانية على المدى القريب في إسقاط نظام الملالي، الجاثم على صدور الشعب الإيراني منذ 45 سنة، حيث تعترض طريقها صعوبات كبيرة. بل ان البعض يحكم على المعارضة بالفشل، أو يعتبر فرص نجاحها معدومة، أو صعبة المنال. ويبدو أنَّ هؤلاء لا يرون الأشياء كما تجري حقاً، وإنما كما توجب عليهم مصالحهم المرتبطة بالنظام، أو اليأس من إحداث التغيير، خصوصاً في حساب موازين القوى بين نظام يتوفر على قوة عسكرية ضاربة، ويستند إلى ميليشيات منظمة تسمى بالحرس الثوري الإيراني، مجهزة بكل أنواع الأسلحة الخفيفة والمتوسطة والثقيلة، ودوائر استخباراتية وأمنية متطورة، ولديها الاستعداد لقتل نصف الشعب الإيراني، وبين معارضة سلمية غير مسلحة، لا ترفع بوجه النظام سوى شعار الحرية والأمن والاستقرار والعيش الكريم للشعب الإيراني.

بعبارة أوضح، فإنَّ هؤلاء المرتبطة مصالحهم مع النظام، أو اليائسين من التغيير، يقيمون المعارضة كما يشتهون أو كما يتوهمون، وليس كما هو الأمر حقاً. فالنظام الحاكم في إيران، بالرغم من قوته، قد استنفذ كل ما لديه من إمكانات متاحة للخلاص من نقمة الشعب الإيراني، وشبح الثورة الكبرى. فلا هو قادر على إنهاء المعارضة بالقوة العسكرية النظامية، أو قوة الميليشيات المسلحة، ولا على الاستجابة لمطالبها المشروعة، أو جزء منها، لأن ذلك ينهي وجوده للأبد، في حين أن المعارضة الوطنية، بالرغم من ضعفها قياساً بقوة النظام، ما زالت قادرة على هز أركان النظام بين فترة وأخرى، من خلال الانتفاضات الشعبية، التي تشمل، أحياناً، العديد من المدن الإيرانية بما فيها العاصمة طهران، وتشارك فيها فئات واسعة من الشعب الإيراني، ومن جميع القوميات والأديان والمذاهب. والأهم من ذلك كله، مشاركة المرأة الإيرانية بشكل واسع، كما حدث في ثورة الحجاب المشهورة، بسبب وفاة مهسا أميني في 16 أيلول (سبتمبر) 2022، بعد اعتقالها بثلاثة أيام من قبل شرطة الأخلاق في طهران, لا لجريمة ارتكبتها ضد انسان، وإنَّما لخلعها الحجاب المفروض عليها بالقوة. وقد تعاطفت شعوب العالم مع أميني، على وقع انتشار مقاطع فيديو لنساء يقصصن شعورهن ويحرقن الحجاب، تعبيراً عن احتجاجهن لما حدث لأميني، واعتراضاً على ممارسات شرطة الأخلاق التي تفرض ارتداء الحجاب في الأماكن العامة بالقوة.

أمَّا تراجع الانتفاضات الشعبية ضد النظام جراء استخدام القوة المفرطة وغيرها من الإجراءات القمعية والاعدامات العلنية، فهذا لا يعني نهايتها، فهي ليست تظاهرة تدعو لتوفير الخدمات المحدودة، أو للدفاع عن حقوق الانسان، تبدأ وتنتهي في وقت محدد سلفاً، وإنَّما هي بمثابة ثورة ذات أهداف سياسية ووطنية كبيرة، تستند إلى قوانين اجتماعية تسري على جميع المجتمعات البشرية، التي تقرر التحرر من أنظمتها الدكتاتورية والعميلة والطائفية، وتوفير العيش بحرية وكرامة. بل هي فعل ثوري وكفاحي قد يمتد لسنين طويلة، وصولاً لمشاركة القوى المجتمعية كافة من الأحزاب الوطنية والشخصيات السياسية والكتاب والمثقفين والأدباء والشعراء والفنانين وغيرهم. وبالتالي، من الصعب على النظام، مهما بلغ من قوة واستعداد للقتل، القضاء عليها، خصوصاً أنَّ النظام لم يترك أي خيار أمام الشعب الإيراني سوى مواصلة الانتفاضات الشعبية السلمية، التي قد تتطور في أي وقت إلى ثورة مسلحة لإسقاط نظام الملالي، وإقامة حكومة وطنية مدنية متحضرة، تليق بشعب عريق مثل الشعب الإيراني.

إقرأ أيضاً: هل يسرقون المطر الإيراني؟

إنَّ سلطة الملالي بسياساتهم القمعية للشعب الإيراني، توفر للثورة المرتقبة في إيران كل فرص النجاح. فهي من جهة قد تخلت عن توفير الحياة الكريمة للشعب الإيراني، وتوظيف ثروات البلاد لصالحه، بدل تجويعه واذلاله من أجل تنفيذ مشاريعها التوسعية في المنطقة، من خلال الثورة التي نادى بها الخميني، وإنفاق عشرات المليارات كل سنة لتشكيل ميليشيات مسلحة موالية لها خارج الحدود، مثل الميليشيات المسلحة في العراق وسوريا واليمن ولبنان، الأمر الذي عزل إيران عن دول العالم الحر وشعوبه جراء السياسة الدينية والطائفية المتشددة، والتدخل بشؤون الدول الأخرى وزعزعة أمنها واستقرارها، وتحويلها إلى كيانات هشة على يد ميليشياتها وأتباعها ومريديها، مما ولد نقمة واسعة، كان من تداعياتها فرض الحصار على الشعب الإيراني بذريعة محاصرة النظام، فأدخل البلاد والعباد في أزمات سياسية واجتماعية واقتصادية أضرت بالشعب الإيراني عامة، حيث صعدت السلطة الدينية سياسة القمع والاضطهاد، وامتلأت السجون بالمعتقلين، وعمت البلاد إعدامات واسعة وبأساليب بشعة، بعد محاكمات صورية، وانعدمت الحريات، واختزلت السلطة بمجموعة من علماء الدين لا يتعدى عددهم أصابع اليد الواحدة، وتربع علي خامنئي على قمة الهرم، ومنح نفسه مكانة مقدسة ومعصومة من الخطأ، تحت ذريعة ابتكرها الخميني اسمها ولاية الفقيه، أو نائب الإمام المنتظر، الأمر الذي أدى إلى تعذر إصلاح الوضع السياسي من داخل السلطة بالطرق السياسية، سواء عن طريق الانتخابات أو تعديل الدستور، أو عبر ما يسمى بالجناح الإصلاحي في المؤسسة الحاكمة، إلى درجة أصبح الإصلاح أمراً شبه مستحيل من دون إسقاط السلطة. بل إنَّ هذا الجناح الإصلاحي فشل تماماً في تحقيق أيّ خطوة باتجاه الإصلاحات، حتى المتواضعة منها.

إقرأ أيضاً: الرأس وليس أذرع الأخطبوط

أمّا على المستوى الاجتماعي، فقد انتشر التخلف في الطبقات الفقيرة، التي تشكل غالبية المجتمع، وازداد حجم الفساد بين صفوفها، والرشوة والمحسوبية والسرقة، وانتشار تجارة المخدرات وبيع الأعضاء البشرية، وهيمنة الغيبيات والخرافات والشعوذة في الحياة العامَّة، خلافاً لحالة التطور التي شهدها الشعب الإيراني في الأنظمة السابقة، على عيوبها. ومما شجع على هذه الظواهر السلبية، الفساد الذي شمل كافة أجهزة الدولة ومؤسساتها، وصولاً إلى قمة رأس الهرم، خامنئي، الذي يعد اليوم من بين أكبر أغنياء العالم، حيث تجاوزت ثروته عشرات المليارات من الدولارات. ولم تكن الازمة الاقتصادية أقل سوءاً من الأزمات الأخرى، حيث لم يعد بإمكان المواطن الإيراني تأمين قوت يومه بسهولة، في ظل الانهيار الحاد والمتواصل للعملة الإيرانية، الأمر الذي دعا آلاف الأكاديميين والأطباء والمهندسين والعلماء للهجرة خارج إيران، سواء بطرق مشروعة أو غير مشروعة. وفي ضوء هذه التداعيات، ازداد الفقر بشكل كبير، واختفت قطاعات كبيرة من الطبقة الوسطى، جراء الركود الاقتصادي والتضخم المرتفع الذي تجاوز نسبة الخمسين بالمئة، والقائمة بهذا الخصوص طويلة وطويلة جداً.

إقرأ أيضاً: إيران وفشل نظرية ولاية الفقيه

إنَّ الاعتماد على الحتمية التاريخية لانتصار الشعوب لا يكفي، فهي تتطلب زمناً طويلاً، وفي الوقت ذاته، تزيد من حجم المعاناة والتضحيات، كما لا يكفي أبداً القيام بنشاطات سياسية أو تظاهرات أو انتفاضات بين فترة وأخرى، وبالتالي لا بدَّ من استنهاض الفعل السياسي، والارتقاء به إلى مستوى يتلاءم مع مرحلة الصراع مع السلطة، بما فيه التفكير بالفعل المسلح. والفعل السياسي الذي نعنيه، هو ضمن إطاره الواسع والشامل، وليس المحدود. حيث ما كان ملائماً من فعل سياسي في مرحلة سابقة من الصراع مع السلطة الإيرانية، لن يكفي بالنسبة إلى مرحلة لاحقة. فالصراعات من هذا الوزن، لا تعتمد منهجاً وأسلوباً ثابتين، وإنَّما تقتضي التغيير وفق متطلبات تطور الصراع في كل مرحلة من مراحله. فحصر الفعل السياسي بنخبة من المجتمع، أو بحزب سياسي أو بتحالف أحزاب محدود، لن يكون فعالاً بالقدر الكافي، ما لم يشمل مساحة أوسع من المجتمع، وله قدرة أكبر على تعبئة جميع مكوناته وأطيافه، وإشراكها في المعركة، جنباً إلى جنب مع النخب والطلائع، ذات المؤهلات المتقدمة، ومن دون هذا التلاحم بين النخب والأحزاب وبين الجماهير الواسعة، فإنَّ هذا الفعل السياسي الراهن، على أهميته، سيتحول في نهاية المطاف إلى مجرد مجموعة من السياسيين والمثقفين والمناضلين، قد تكون مصدر إزعاج لنظام الملالي، لكنها لا تشكل تهديداً وجودياً له. بالمقابل، سيزيد الفعل السياسي المتطور من خبرة الفرد، ويرفع لديه مستوى الكفاءة النضالية والكفاحية، بصرف النظر عن موقعه في المجتمع، وبالتالي يؤهله للقيام بالانتفاضات الشعبية وفي الوقت المناسب، وهذا يعد من أهمّ مستلزمات الهجوم الاستراتيجي ضد أي نظام حاكم.

إقرأ أيضاً: أهمية إدانة أحد مرتكبي مجزرة عام 1988 في إيران

من له إلمام بسيط بعلم السياسة والمجتمع، أو الواقع الاجتماعي والتأثير المتبادل بينهما، سيكتشف بأن أيّ حزب، مهما كان قوياً، حتى وإن كان ضمن تحالف محدود، ليس باستطاعته منفرداً أن يحشد جميع مكونات المجتمع نحو أهدافه، مهما كانت نبيلة أو مشروعة. لأنَّ الحزب يمثل طبقة أو شريحة من المجتمع، وليس كل المجتمع. وفي المجتمع الإيراني، حاله حال أكثر الشعوب، تكون مهمة الحشد والتعبئة باتجاه الهدف المنشود من قبل هذا الطرف أو ذاك، أكثر صعوبة وأشدّ تعقيداً، لكونه مجتمعاً متعدد القوميات والأديان والمذاهب والطوائف، مثلما هو متعدد الأحزاب والتيارات والقوى السياسية. وبالتالي، فالمعارضة الإيرانية بحاجة لإنجاز هذه المهمة، نقل المجتمع من مجتمع مساند للمعارضة، وداعم لها، إلى شريك كامل في المواجهة ضد نظام الملالي، وصولاً إلى تحالف جميع القوى والأحزاب الوطنية والقومية والإسلامية والشخصيات الوطنية دون استثناء. ولا نعني هنا سوى قيام الجبهة الوطنية الإيرانية الشاملة، وفق القواسم المشتركة التي يتفق عليها الجميع، مثل إسقاط النظام وإقامة النظام الوطني الديمقراطي التعددي.

إقرأ أيضاً: "القوات الوكيلة": أداة النظام الإيراني لترويج الحرب وخلق الأزمات!

إنَّ إنجاز مثل هذه المهمات الكبيرة، لا بدَّ وأن تعترضها عقبات تحول دون إنجازها بسهولة. ومنها على سبيل المثال لا الحصر، اختلاف أفكار الأحزاب الوطنية المناهضة لنظام الملالي وأيدولوجياتها المتعددة، وما تحمله هذه القوى والأحزاب من موروث ثقيل شديد الذاتية، يستند إلى ثقافة الإقصاء والتفرد والاستحواذ، والتي كلفت وتكلف المجتمع ثمناً موجعاً، يستدعي مجابهتها من خلال المعنيين بالنقد التاريخي والديني. لا بدَّ من الإشارة هنا إلى الظروف الصعبة التي تحيط بالأحزاب الوطنية والشخصيات البارزة، من تآمر وحصار وظروف أمنية قاهرة، ومحاولات غادرة لشيطنتها وتشويه سمعتها وزرع بذرة الشقاق فيما بينها. لكن نجد في المقابل قواسم مشتركة عظمى، تربط بين هذه الفصائل والقوى تكفي تجاوز كل هذه العقبات وإنجاز وحدة المعارضة وقيام الجبهة الوطنية المنشودة.

نأمل أن نرى الأحزاب والقوى الإيرانية الوطنية قد توحدت في أقرب وقت، وأقامت جبهتها الوطنية، لتصحو إيران على فجرها وقد تحول المجتمع بأكمله إلى مجتمع مقاوم، وجدير بمهمة إسقاط نظام الملالي بوقت قصير وبتضحيات أقل.