عنوانٌ لكتابٍ علميٍّ وممتع للباحث د. عادل مصطفى، وهو دراسة عميقة مسهبة تتحدث عن أسرار العلم الزائف، والفرق بينه وبين العلم، أي المعرفة السليمة كما يسميها. وما يميز هذه الدراسة هو أنها تجيب عن أسئلة مهمة للقارئ من قبيل: كيف نكشف الدجل؟ وكيف يباع العلم الزائف؟ مثلما يحاول إزالة الشوائب التي تسبح حولنا، وهدم الثوابت والأصنام الفكرية، لبناء إنسان واعٍ نقدي لا يقبل ولا يصدق بكل شيء بسهولة حتى لو كان مدعماً بالشواهد.

والخرافة هي الأصل، في العلم الأقدم، بدأت تتطور من شكل إلى آخر أكثر فعالية وتأثيراً. إنها تأتي خلسة، على شكل علوم مزيفة خادعة أو أدعية شافعة. وهي غريزة حشرية تنتحي إلى الشوق، وتعشق الثغرات، وتقيم في الفجوات، يسود الدجل ويركز لواءه في المناطق التي مازال العلم فيها مُبلساً حائراً لا يملك جواباً حاسماً، حيث تسيطر الخرافة على عقول المجتمعات.

لم تكتف بالتغلغل في المجتمعات الفقيرة غير المتعلمة، بل امتدت إلى أوساط تبدو راقية أو تحمل قدراً من العلم والثقافة والمدنية، ولديها قنوات عديدة للعبور من خلال التعليم والإعلام والموروثات الشعبية بعلم زائف، وخرافات جديدة يفتح رونقها البراق المجال لتصديقها والعمل بها. والتفكير الخرافي هو عالم الخداع؛ فبالخرافة يخدع الإنسان نفسه ويحسب أنه يتمتع بفرط المعرفة.

ويمكن اعتبار فصول الكتاب متنوعة من حيث الموضوعات، لكن يمكن اعتباره موضوعاً عاماً يتلخص في (العلم الزائف)، حيث تتفرع القضايا التي يتناولها، بالإضافة إلى الوسائل التي نفرق بها بينهما، من خلال أبرز علماء النفس، فكل منهما موضوع يتناوله في مسألة العلم الزائف، فيوضح لنا عالم النفس (باري بريشتاين) أن العلم الزائف يمتاز بقابليته لعدم التكذيب، أي لديه ردود احتيالية على كل نقد موجه إليه، بينما يعلمنا (توماس جيلوفيتش) كيفية اكتشاف الدجل، فالدجالون كثر، في الدين، الطب، السياسة، البيع والشراء... إلخ. وهؤلاء دائماً ما يستخدمون العلم الزائف كدعامة لهم، حيث يوظفون بعض كلماته الاحتيالية في مشاريعهم، مثل (أكد عليه العلماء، حسب دراسات علمية، كان العالم الفلاني كذا وكذا).

وهكذا فالخرافة تشيع التوازن بين الإنسان وبيئته، وتنظم زمانه ومكانه، وتمد له في الوجود مدّاً، على تفاوت في الناس؛ ففي الوقت الذي يكون فيه تحكم الخرافة هامشياً في حياة الناس في المجتمعات المتقدمة، فإنها تشكل مفتاح الحل في مجتمعاتنا المتخلفة، بل هي العصا السحرية لكل صغيرة وكبيرة، بل يمكن القول إن الإنسان الذي يؤمن بالخرافة هو إنسان توقف زمانه لقرون خلت، ومراوح بذات المكان رغم أن ظروفه صارت المتخلفة.

ما زال هناك قطاع واسع من الناس يؤمنون بالأشباح والأرواح الشريرة، وتحضير الأرواح، والعلاج بالأدعية والتعويذة والطلاسم. لكن الغريب أن الخرافة تطورت ودخلت في العلوم والسياسة والطب والتكنولوجيا الرقمية وعالم الأعمال، وأصبحت كأنها قدر للتعامل معها، وأسلوب عصري للتفاعل، وهذا ما جعل روبرت بارك أستاذ الفيزياء في جامعة مريلاند الأميركية في كتابه الخطير الخرافة وعنوانه الفرعي (الاعتقاد في عصر العلم)، يعتقد أن 90% من البشر اليوم في عصر العلم يؤمنون بالخرافات، وأعطى أمثلة شيقة في مجال الطب والأدوية والدين.

يرى أن الخرافة لها جذورها التاريخية المتأصلة في ثقافة كل شعب، وهي ليست متشابهة من حيث الموضوع وقوة التأثير، لأن الزمن أعادها بطريقة مبتكرة، وكل ثقافة لها خصوصيتها وبيئتها في تفسير الخرافة؛ فطائر البوم هو نذير شؤم وخراب عند العرب، بينما يعامل الأوربي البوم كرمز للحكمة والمعرفة، ويعرف بـ (طائر الحكمة)، وكانت آلهة الحكمة الإغريقية (أثينا) تحمله دائماً على كتفها.

صحيح أن هناك إيماناً بالخرافات لدى الشعوب، لكن الحقيقة أن مجتمعاتنا العربية والإسلامية يرتفع فيها منسوب الإيمان بالخرافة لأعلى درجاته، فقد أصبحت من قبيل البديهيات المسلم بها؛ ذلك أنَّ معلمينا وآباءنا وأمهاتنا، جعلوها مأثورات وأكدوا لنا صحتها، حتى أصبح حدسنا وتجاربنا الحياتية يقران ما تنطوي عليه من (حكمة). إنها عقيدة التوريث المبنية على وراثة الخرافة أباً عن جد.

ما يثير حقاً، هذا التضاد القوي بين مجتمعات صاعدة، يتناسل فيها العلماء تناسلاً بالمتواليات، فلم تجد في الأرض ما يشغلها إلا الذهاب إلى القمر والمريخ لاكتشاف أسرار الكون، وبين مجتمعات مندهشة وخائبة، يتناسل فيها الجهلة والدجالون، فتعود إلى الوراء لتنبش الأموات لتخليدهم في عالم الذكاء الاصطناعي، والذهاب إلى الخرافة لتنشيط حياتهم لتدمير الذات.

والقصة لا تنتهي، والخرافة لها بيئتها العربية الخصبة، والحكمة المأثورة التي تقول: (إذا ضعف العقل استسلم للخرافة)، والعقل العربي الظالم والمظلوم يعاني أصلاً من تراكمات الزمن وأحزانه، وهموم الحياة ومتوالياتها المزعجة من الأزمات والنكبات والغيبيات. ويبدو أن 100 مليار من الأعصاب الموجودة في دماغ الإنسان لم يبق منها عصب واحد في دماغ العربي لكي يجعله يحيا كالأسد، حتى ولو كان زئيره لا يبعث على الرهبة!

ما زالت مجتمعاتنا في سجالات عقيمة حول جنس الملائكة، وهل يجوز مصافحة المرأة، وهل الخروف الذي أكل صحيفة مكتوبة بلغة الكفار لحمه حلال أم حرام، والأضداد تتجاذب؛ والعصا لمن عصى؛ والألفة تجلب الاستخفاف، وغير ذلك من الأمور المضحكة المبكية!

يقول العلماء إنَّ الخرافات والعلوم الزائفة تزدهر بالأوقات المضطربة، ولكننا مع الأسف، تعيش بيننا في كل الأوقات، فهي عندنا رغم حديثنا عن السليكون والذكاء الاصطناعي؛ بريق ساحر، وتأويلات متحركة، وغرائب جميلة، وإثارة وتسلية، ومصالح مادية. ما زلنا نعيش في الكهوف والمغارات والأماكن الخربة، حيث تتلبس العقول المريضة بالجن والشياطين والعفاريت!