ليس كافيًا أن يستفيد الإنسان اليوم من ثورة المعرفة العلمية، دون أن يطرح تساؤلات حول ماهية هذه الثورة وسبل التعامل معها؛ لاستيعابها واستثمارها في الحياة. فعدم معرفة الإنسان بكيفية التعامل مع هذه الثورة، وافتقاده إلى المراجع التعليمية والمعرفية التي تؤهِّله لفهمها وتقدير أهميتها في حياته اليومية، سيظل إحدى الإشكاليات التي تواجهنا في الحاضر والمستقبل. وستظل هذه الإشكاليات تتزايد وتنمو في ظل التطور السريع لتكنولوجيا الإعلام يومًا بعد يوم.

إنَّ الأمر الأساسي الذي يجب التركيز عليه هو: أن العلم من المكونات الأساسية في تكوين العقل البشري، ولا يمكن له أن يرتبط اجتماعيًّا أو أن يكون منتج اقتصاديًّا إلا عندما يتم دمجه في البيئة التي يعمل فيه؛ مما يجعله ظاهرة ديناميكية تحفز على التجديد والإبداع. فالعلم فنٌّ نبيل، ومكانُه ليس في قارعة الطريق، واقترابُه من الجميع لا يعني أنه يخلق علماء جُدُد.

لا يزال الواقع في الوطن العربي بعيدًا عن توفير بيئة تتيح الانخراط الكامل في مجتمع العلم والمعلومات. ومازال الحديث عن تأثير الثورة العلمية على البيئة والفكر والحياة الإنسانية، ولا يزال الجدل حول فوائد العلم ومضارة قائمًا. ومع ذلك، يبدو أن الجميع يتفق على أن العلوم والتقنية ساهمت في عملية تغيير قيم المجتمعات التقليدية في العديد من مجالات حياته.

وإذا كان الإعلام، بشكلٍ عام، يمثل الجهازَ العصبيَّ في نقل وانتشار المعلومات؛ فإن الإعلام العلمي يلعب دورَ العقل في هذا الجهاز، حيث يسهم في توصيل المعلومات العلمية بشكلٍ يتناسب مع أهمية المعرفة لدى القارئ والمستمع، حيث يتلقى كل فرد نحو 800 مليون معلومة سنويًّا، وهو الأمر الذي يسهم في تشكيل وعيه وثقافته، ويعزز منهج التفكير العلمي والإبداع، والقدرة على مواجهة الأزمات والمشكلات بفاعلية أكبر.

لقد أصبح نشر الثقافة العلمية والتكنولوجيا أمرًا شائعًا في الدول المتقدمة، حيث تُعد هذه وظيفة أساسية لوسائل الإعلام، ولا تخلو أي صحيفة أو مجلة من صفحات علمية مُعدَّة ومُبسَّطة بواسطة مختصين؛ مما يُسَهِّل على القارئ فهمها. بالإضافة إلى ذلك، هناك قنوات تبث برامج علمية يقوم بالتعليق عليها علماءُ ومؤلفون بارزون، ويقدمونها بشكلٍ جذَّاب ومشوِّق وسهل؛ مما يُساعد على إثارة حب العلم لدى الجمهور.

على الصعيد العربي، يكفي أن نلاحظ أن عدد المجلات العلمية الجادة الموزعة في الوطن العربي، بهدف التثقيف العلمي، لا يتجاوز خمسة عشر مجلة ورقية؛ بينما لا يزيد عدد المواقع الإلكترونية العربية التي تسعى إلى التثقيف العلمي عن أربعين موقعًا، مقارنة بالمواقع الرياضية والفنية. وهذا يشير إلى أننا نواجه مشكلة كبيرة من حيث الكمية، إضافةً إلى مشكلة نوعية تتعلق بكفاءة المحررين العلميين. وهو ما يعطي الانطباع على قوة وسائل الإعلام وقدرتها على توجيه الجماهير والتحكُّم في رغباتها.

إقرأ أيضاً: دكتوراه مجهولة النسب

ينبغي الاعتراف أيضًا بأن هذا الإعلام يعمل في بيئة علمية غير مشجعة للعلم، وفي بيئة إعلامية لا تستطيع توصيل الرسالة العلمية بشكلٍ بسيط وجذاب. وأن التعبير عن هذه المعلومات وتسويقها تتطلب مهارات وخبرة إعلامية كبيرة، تتسلح بمعرفة علمية واسعة، قادرة على إيصال الرسالة بشكل واضح بعيدًا عن العشوائية الإعلامية التي قد تؤدي إلى حدوث بلبلة تزعج المجتمع، كما حدث مع انتشار الأمراض العالمية مثل فيروس الإيبولا والإيدز وجنون البقر وكورونا، والتي أصابت الجمهور بالخوف والذعر مع بداية ظهورها.

إنَّ المشكلة الرئيسة في الإعلام العربي تكمن في أنه أسهم في خلق ثقافة معادية للعلم لدى الجمهور؛ نتيجة عدم قدرته على تقديم العلوم بطريقة مبسطة ومشوقة؛ حيث التداخل بين أمرين يكادان يكونان متنافرين: خطاب المختص الذي يفتقر إلى القدرة على تبسيط الأفكار العلمية، وخطاب الإعلام الذي يعجز عن التعبير بشكلٍ فني، ويصنع عنصر التشويق والابتكار.

لقد ساهم هذا الإعلام في زيادة الغموض والملل وترسيخهما في أذهان المتلقين، حيث النقص الكبير في الكوادر الإعلامية المختصة في مجال العلوم، وضعف المهارات الإعلامية اللازمة لتقديم المحتوى بشكلٍ جذاب، وغموض المادة العلمية، وفقدانها للعناصر المشوّقة.

إقرأ أيضاً: حارس اللغة...ذهب ولم يعد!

ما زلت أتذكر بذكريات مُفعمة بالدهشة برنامج كامل الدباغ الشيِّق (العلم للجميع)، في عصر شحة المعلومات والمصادر، حيث كان يُبث يوم الأربعاء من كل أسبوع واستمر لمدة 34 عامًا، من عام (1960 حتى 1994). كيف نجح في تحويله إلى برنامج جماهيري ينافس برنامج (الرياضة في أسبوع) لمؤيد البدري؛ من حيث الشعبية والحضور، على الرغم من تناوله لموضوعات علمية معقدة؛ مثل: الفلك والرياضيات والذرة والفضاء والطب الفيزيائي.

وأتذكر أيضًا كيف طرح الدباغ في إحدى حلقات برنامجه العلمي عام (1993)، بمناسبة مرور 33 عامًا على انطلاقه، سؤالًا ذكياً في بعده الإعلامي والنفسي، وشعبياً لجذب الجمهور: "هل يبيض الديك أم لا يبيض؟!".