في السياسة تنتصر المصالح أولاً وثانياً وأخيراً، ولن تجد منظومة سياسية في العالم كله تقود أي دولة لا تفكر بهذه الطريقة، الكل يجب أن ينتصر لمصالحه. صحيح أن بعض الظروف تفرض تنازلات كثيرة، لكن ثمن هذه التنازلات هي مصلحة لهذه الدولة أو تلك، لهذا نحن نعيش في هذا العالم حقيقة واضحة وصريحة، ومن هذا المنطلق تنشب بعض الخلافات والصراعات المؤدية في نهاية الأمر إلى نشوب الحروب، بعدها تكثر الفتن، ويتزعزع استقرار بعض الدول التي في الأساس لم تحسن التعامل مع بعض المواقف السياسية، ولم تحكم العقل بالشكل المطلوب حتى تدوم طويلاً، وتصبح أكثر دراية في حل المشاكل السياسيَّة. ومن يعتقد أن بعض الأمور معقدة لا أظن أنه يتمتع بالحنكة السياسية الجيدة، فجل الأمور لها حلولها الخاصة ومفاتيحها التي ترسم طريق الاستراتيجية السياسية في التوصل لحلول تكون مفيدة وفق الأحداث الآنية والمستقبلية، لكن يبقى التعدي على الآخرين وانتهاك سيادتهم ليس من السياسة في شيء، ولا يوجد ما يبرره، ولا أظن أنَّ المشهد منطقي بهذه الصورة، لأنَّ العدوان والتدخل في شؤون الغير يتطلب الرد، والرد يعني أن الدور السياسي الدبلوماسي قد انتهى مفعوله.

أزمات كثيرة عاشها العالم مرتبطة بمثل هذا التصعيد، على سبيل المثال لا الحصر: أزمة الكويت مع العراق، وقبلها العراق مع إيران، وأزمات السودان المتكررة، وإسرائيل وما تفعل بالفلسطينيين من استيطان وتدمير وتهجير، والحرب الروسية الأوكرانية التي لا يبدو لها نهاية حتى يومنا هذا، بل الأمور تتأزم بشكل متواصل، كل تلك الأزمات فشلت معها كل سبل الدبلوماسية السياسية، وكل الحلول التي وضعت على طاولة المفاوضات لم تنجح، ليس لأنها حلول ناقصة، بل لأن الرغبة في الحل من أحد الطرفين، أو من كليهما معاً غير موجودة، لكن السؤال لماذا غير موجودة؟ قد تكون الإجابة عبارة عن تكهنات تندرج تحت مسمى التحليل السياسي، دون أن تكون هناك حقيقة واضحة، هناك عوامل ذات عمق سياسي تحدد مسارات التفاوض، وهناك أيضا أطرف أخرى مستفيدة من استمرار هذه الصراعات، لهذا نحن دائماً نجد أنفسنا في دوامة التكهنات والاعتقادات، رغم أن كل ما يدور بين القوى السياسية في العالم مرتبط بنوع الحدث وبعض تفاصيله التي قد تكون غير معروفة، لذا من الصعب أن تنجح كل مشاريع السلام في العالم طالما مساحة الأطماع كبيرة، وقد يكون السلام أمراً مستحيلاً، وهذا يقودنا إلى حقيقة لا مناص من ذكرها، وهي: أن ملفات النزاعات والحروب والدمار ستظل مفتوحة في كل ركن من أركان هذا العالم، قد يحدث أن تُحل أزمةً ما، لكن بعض الحلول قد تفتح الباب لنشوب أزمات أخرى وصراعات في بقعة أخرى من هذا العالم.

ما يهم قوله اليوم ان نصل لحقيقة هذا المشهد بتكوينه العام المفروض على كل دول العالم وهو؛ أن الدول جميعها في هذا العالم قد تتعرض لأزمات سياسية أو اقتصادية بمختلف درجاتها، والدولة التي تملك القوة والحنكة والحبكة السياسية، وتستطيع أن تدير المشهد السياسي بفضل قوتها أولاً وبما تملك من مقومات، سيكون تأثيرها السياسي على أي قرار بالغ الأهمية، وستظل كذلك إلى أن يأتي من ينتزع منها هذه القوة. وفي عالمنا اليوم القوة درجات متفاوتة؛ هناك دول قوتها ليست في السلاح الذي تملك، بل في المكونات الاقتصادية التي يعتمد عليها العالم مثل النفط والغاز الطبيعي وغيرها، ومن يستطيع أن يكون مؤثراً على القوة العسكرية الأولى في العالم من خلال ما تملك دولته من مقومات يتقاسم السيطرة مع الدول العظمى وعلى رأسها أميركا التي تعتبر هي المحرك الرئيس في كل المشاهد السياسية في العالم، وحتى نعيد ترتيب الأوراق في هذا العالم نحتاج إلى تغيير هذه القوة، وإلى أن يأتي هذا اليوم نحن أمام حقيقة تقول: إنَّ أميركا هي سيدة كل المواقف السياسية وغير السياسية في العالم، وهي المتصرف الوحيد في كل تفاصيل الأزمات الناشبة في هذا الوقت وما سينشب في المستقبل، كل خيوط اللعبة السياسية في يدها، أما دور البقية - وإن كان لدى البعض منهم تحسن ملموس في السنوات الماضية مثل روسيا والصين والسعودية كدول عظمى بتفاصيل معينة -، لكن تبقى الولايات المتحدة الأميركية تملك كل خيوط المشهد السياسي وغير السياسي في العالم، وأعتقد أن نجاح كثير من الدول على الصعيد السياسي والاقتصادي تحديداً مرتبط بطبيعة العلاقة مع أميركا التي في الأساس لا تنظر إلا لمصالحها الخاصَّة أولاً، لهذا لا تبدو المصالح حقيقية مع دولة مثل الولايات المتحدة في قمة نضوجها إلا عندما تصل درجة التكافؤ في المصالح إلى القدر الذي يجعلها تمنح الأهمية للدول التي تشترك معها في مصالح جوهرية، ولا سبيل للاستغناء عنها تحت أي ظرف من الظروف.