مدارس الفلسفة بقدر مناهج البحث ومدارك العقول؛ فمن غاص عثر على درر، ومن سبح وصل لشواطئ من الغربة فريدة، ومن غامر صاد من غابة العالم الوفير، ومن الفلسفات ما دشنها رجال بصمت مثل راسل والفارابي، وسبينوزا وابن سينا، وشوبنهاور والخيام، وديكارت والغزالي، وهيوم وابن رشد، وكانط والقصيمي، وهيجل والبدوي، وبيثاغوراس وجودت سعيد، والبليهي وفتجنشتاين النمساوي، الذي حاول الإمساك بمفتاح كل فلسفة أي اللغة، وهي التي راهن عليها شحرور في محاولته وضع مدخل للتأويل؛ فلعب بقيثارة اللغة؛ فتاه في بيداء الوهم والغلط؛ فاللغة لا تزيد عن لعبة، هكذا يقول فيلسوف الوضعية المنطقية النمساوي فيتغنشتاين (Wittgenstein).
وفي الواقع فليس هناك من رجل اختلف حوله الناس مثل هذا الفيلسوف، وهو مجهول في الثقافة العربية، ولا يتداول اسمه إلا النخبة من المتبحرين، وبقدر ما كان عبقريا في تأسيس فلسفة جديدة بقدر هدمه لنفس الفلسفة التي بدأها، وكان ذلك من خلال عملين ظهر الأول في رسالته التي أخرجها وهو في المعتقل تحت عنوان (رسالة منطقية فلسفية)، وختم حياته بنقد ذاتي قاسي، تراجع فيها عن الفلسفة الوضعية المنطقية التي أسسها بعنوان (بحوث فلسفية)، وكتابين مشتقين من لونين (الأزرق) و(البني)؟
ولا أعرف حقيقة سبب التسمية.
عاش الرجل 62 سنة ومات بالسرطان بعد أن تفرغ للبحث عام 1947م على أمل أن يصقل نظريته الجديدة، ويهدم ما بدأ به حياته من أفكار، ولكن السرطان لم يمهله فقضى عليه عام 1951م.
ولم ينتج في حياته إلا هذا الكتاب اليتيم، ولكن أعماله النقدية الأخرى ظهرت بعد وفاته، وهو ينقض نفسه بنفسه، وهو ما يذكر بقول نيتشه:
quot;أصل نفسك حربا لا هوادة فيها ولا تهتم بالخسائر والأرباح، فهذا من شأن الحقيقة لا من شأنك أنت. وإذا أردت الراحة فاعتقد وإن أردت أن تكون من حواريي الحقيقة فاسألquot;
والفرق بين الفلسفة والعلم والدين:
أن الدين مريح بأجوبته القاطعة والنهائية.
أما العلم فيجيب عن كيف؟
وتبقى الفلسفة مزعجة، لأنها كما تعلمنا من سقراط أنها تعرفنا أننا لا نعرف دوماً، وأن الإجابة على كل سؤال يفتح الطريق لسؤالين جديدين.
وقد يتقاطع كل من الدين والعلم والفلسفة عند نقطة، ولكن مثل تقاطع المستقيمات في الرياضيات. فلكل محور عمله.
وما بقي للتداول هو كتابه الأول الذي صدر في المعتقل الإيطالي عام 1919م وعمره 30 سنة.
وتشبه تجربته من جانب تجربة أبو حامد الغزالي، حيث مسح الفكر المعاصر ليصل في نهاية الرحلة الروحية إلى أرض التصوف.
وفي كتابه (رسالة منطقية فلسفية) تناول نظرية المعرفة، ومبادئ الفيزياء، ومشكلات علم الأخلاق، ليروي تجربته الصوفية وهو في ساحات القتال على الجبهة النمساوية الإيطالية، حيث اشترك كجندي في المدفعية، ثم وقع في الأسر في جبهة التيرول عام 1918م، حتى خشي الفيلسوف البريطاني (برتراند راسل) المعجب فيه أنه قد مات.
وعمل الرجلان فترة سوية، ولكن البحث الذي ظهر للنور والذي نشر في حوليات الفلسفة هز الأوساط الفلسفية وما زال حتى اليوم، على الرغم من نبذ صاحبه الفلسفة وراء ظهره.
فمن يريد أن يتابع الفيلسوف عليه أن يطلق الفلسفة، لأنها تضعنا أمام الأشياء في حملة ألغاز، وعلينا أن نعود إلى اللغة البسيطة لفهم الأشياء عند استعمالها، وليس بما نضيف عليها من معاني.
ويعتبر (فيتغنشتاين) إنسان عملي، فقد امتهن عشرات الوظائف بين هندسة الطيران، وعلم الرياضيات، والعمل الجامعي، والفلسفة، وكان يوما جنديا محاربا وأسيرا في المعتقل، واشتغل حينا في وظيفة مدرس صارم، وأخرى كبستاني في دير، أو مهندس معماري، أو ممرض وباحث في المعمل، ولم يكن يهمه أن يترك منصب أستاذ الجامعة ليشتغل بوابا أو ممرضا في مشفى.
ومن وجهة نظره فإن القضية المحورية ومشكلة المشاكل هي علاقة اللغة بالعالم، واستخدم لها مثل طنين الذبابة في الزجاجة، أي تلك التي تخرج الذبابة من حيرتها عبر عنق الزجاجة إلى الفضاء الفسيح.
واعتبر الفيلسوف (مور) أن رسالته كانت ومضة من العبقرية.
أما راسل فاعتبر عمله مغامرة عقلية كبرى مدعاة للإثارة، ولكنه للقارئ العادي مجموعة من الألغاز، فقد كتب بطريقة مكثفة جدا.
وتأثر فتجنشتاين جداً بآراء تولستوي؛ فقام بتوزيع ثروته الطائلة التي ورثها على أصدقائه وأقربائه، وارتاح من عناء الثروة، فهي بنظره عبء على الفيلسوف، وأن من يعمل بالفكر عليه أن يتخفف من هموم الدنيا.
وهي وصية صعبة جدا؛ فقد جاء غني إلى المسيح فسأله كيف يدخل الفردوس؟ قال: تخلص من مالك واتبعني!! فانصرف الرجل وفي عينيه الحزن؛ فالتفت المسيح إلى الحواريين وقال: الحق أقول لكم إن دخول غني إلى ملكوت السموات أصعب من دخول حبل السفينة الغليظ في ثقب الإبرة.
وفي وقت سافر فيتجنشتاين إلى روسيا، فحاولوا إقناعه بالبقاء هناك فرفض، ثم ذهب إلى النرويج فبنى كوخا بنفسه وبقي فيه لمدة عام في التأمل.
وأعظم ما في فلسفة فيتجنشتاين تفكيكه لعمل اللغة، وأن اللغة في أحسن أحوالها تصور الواقع، ولكن ليس من واقعة مرتبطة بأخرى بأي وسيلة من الوسائل، وهذا يعني أن اللغة وهم، ولعل أفضل ما فيها أنها قناة تواصل ولكن من خلال الاستعمال؛ فالكلمة لا تحمل المعنى بل نحن من يشحنها بالمعنى، وليس كما فعل شحرور من استخراج أرانب الكلمات البيضاء من قبعات سيرك اللغة، بحيث يمكن أن تقود أي كلمة لأي معنى، فقط بشيء من مهارة اللعب بالألفاظ؟!!
وأفضل مبدأ هو (التحقق) من الكلمات، وهو ببساطة الرجوع إلى الواقع.
وهي قصة جودت سعيد عن خلية النحل، ووضع العلامات على ما فيها من علل، فإذا اختلف الأمر على المربي نزع كل العلامات ورجع للواقع فهو الدليل..
وهو الكتاب الذي لا يقبل التزوير والتبديل والإحالة والتدويل والإعاقة والكذب..
وظن أنه حل طرفا من عويص المشاكل الفلسفية، وأراد بناء لغة تبلغ من الدقة، أن تضع كل شيء في نصابه تماما، ولكن بين هذا الفهم والعلم أيضا بحور ومحيطات.. فالواقع أعقد بكثير مما نتصور، والله يفتح للبعض ثقوب دودية لعبور الفضاء اللامتناهي، الذي نسأل الرحمن أن يفيض علينا بشيء من بركاته وفتوحاته كما فتح لابن العربي روزنة صغيرة في الحب الإلهي..
ولكن الرجل أي فتجنشتاين يقول إن اللغة لا تزيد عن لعبة؟
ومنه اعتبر الرجل مؤسساً للفلسفة الوضعية المنطقية.