إذا كانت فرق النصرانية واليهودية والبوذية قد ضاهت بأرقامها فصائل النمل وطوائف النحل، فإن المسلمين افترقوا بأشد من انشطار الذرة في مفاعل نووي، ولكن لا النصارى من أرثوذكس وموارنة، ولا اليهود من فرقة القبالة، ولا المسلمين من شيعة وسنة، يعترفون بأنهم أحزاب لانهاية لها كل حزب بما لديهم فرحون.
وإذا كان النصارى قد صعدوا بالبشر فخلقوا أسطورة من إلوهيته بدون نص واحد من الإنجيل يدعم هذه الرحلة إلى الأعلى، فإن اليزيديين في العراق، أنزلوا الشيطان من السماء، وسموه طاووس، وعبدوه خوف غضبه ونرفزته؟
وهذا يقول أن العقل البشري يمكن أن يعبد الجرذان والفئران والنيران، والحجر والشجر والمدر والبشر والأعضاء التناسلية، ويمكن أن يتشكل على أية شكل من ملة ونحلة وطائفة وجماعة، فوجب التسامح بين الجميع، واحترامهم، ولو اعتقدنا أنهم مساكين ضائعين؛ فكل منا ضائع مسكين يحتاج رحمة ربه..
وعالم الاجتماع العراقي (الوردي) قال عن العقل أنه لا يخضع للحق والمنطق كما يتصور البعض، بل هو عضو للبقاء مثل درع السلحفاة وناب الأفعى وساق النعامة؟
وفي الوقت الذي لم تتحمل (الوهابية السلفية) سلفية أخرى منافسة لها هي سلفيةquot; (ناصر الدين الألباني) التجأ صاحبها إلى الأردن، ومعه انتشر الجلباب والنقاب، بأشد من انتشار حرائق الغابات في الصيف، ودارت المعركة السياسية حول جسد المرأة.
وحيث تشتد (السلفية) تنمو معها ثلاث مظاهر: التشدد والحرفية والشكلية؛ فتدور المفاهيم حول تقصير الثوب وطول اللحية والسواك وخاتم الذهب ولون الجلباب وحركة اليدين في الصلاة، هل يحرك السبابة للأعلى والأسفل أم حركة دورانية مثل المروحة في الصيف فلا تقف؟
وهو ما يذكر بالكتبة الذين حاربوا عيسى عليه السلام،حينما نهوه عن وعظ الناس يوم السبت لأنه يوم عطلة فقال لهم: لو أن خاروفاً سقط في حفرة يوم السبت، ألا يمد أحدكم يده لانتشاله؟ قالوا بلى. قال أفليس الإنسان أهم من خاروف؟.
واليوم يتم تصدير السلفية إلى أركان المعمورة الأربعة على أجنحة البترو دولار وهو ما سماه الغزالي (بدونة الإسلام). ومعه كل إشكاليات الحديث من المحرم والغناء والموسيقى واللباس ومفهوم الردة وكراهية الكافر وعدم بدئه بالسلام والنقاب، وآخر من شكله أزواج.
وهو ليس عيباً في البدو أو انتقاصاً من الإسلام، وإنما هو موضوع انثروبولوجي إيديولوجي.
وعندما يذكر الحديث طبيعة الناس يصفهم بأنهم مثل quot;معادن الذهب والفضة فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إّذا فقهواquot; فهو يشير إلى أن تمثل وامتصاص الإسلام يختلف إفرازه وممارسته بين شخص فعال وآخر كسول، وبين أمة صناعية وأخرى بدوية. فلا يستويان مثلا.
ويضرب القرآن المثل في الكَلّ والفعّال فيقول عن (الكلّ) أينما توجهه لا يأت بخير! هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم؟
وحينما يعتنق اليابانيون أو النرويجيون الإسلام، فلن تكون نسخته كما لو اعتنقه، أهل بينين في أفريقيا أو الإكوادور في أمريكا الجنوبية؛ فلكل أمة مظهر وتجلي خاص بها.
وسيارة المرسيدس المستعملة بيد ألمانية لسنوات تبقى كأنها جديدة. في حين تصبح السيارة الجديدة في يد المواطن العربي بعد سنوات أنقاضا.
وتعرض لهذه المٍسألة الحضارية (علي شريعتي) يوما فقال: إن الجهاز الذي في يدنا نكسره في الأشهر الأولى من استعماله، ثم نستعمله سنوات مكسورا يؤدي ربع وظيفته. أما الإنسان الغربي فيستخدم جهازه بعناية لسنوات من غير أن يكسره. كما يصلحه بسرعة فور توقفه. وهو شيء لمسته بنفسي خلال عشرتي الطويلة مع الألمان؛ فكنت أتعجب من سرعة كشفهم لضوء محترق وباب مخلخل وزجاج مكسور فلا يدخل عليهم ليل إلا وعادت الأنوار مشرقة كما كانت.
فالحضارة هي باختصار ثلاث كلمات:
إيجاد الشيء ـ وصيانته ـ وتطويره..
ونحن على ما يبدو لم ندخل هذا الفضاء بعد، وبيننا وبين الوصول إليه مسافة ثلاث سنوات ضوئية؟
فهل من مدكِّر؟
وكثيرا ما أسمع من متحدث متحمس أنه من الفرقة الناجية كما ورد في الحديث، وخلاصته أن النصارى واليهود انقسموا إلى عشرات المذاهب وكذلك سينال هذا المرض المسلمين، الجميع في النار إلا فرقة واحدة ناجية؟
وحين يسأل الصحابة من ستكون؟ وكيف تعرف مواصفاتها؟ يكتفي الرد أنه ما كانوا على طريقته وطريقة أصحابه من الصحابة؟
وبالطبع فالإغراء كبير دوما، وبشعور من التعالي، يحاول كل فريق من الفرقاء المتصارعين الادعاء بأنه على المحجة البيضاء، لا يزيغ عنها إلا هالك، وأنهم على الطريق المستقيم الذي لا ريب فيه.
يقول نيتشه الفيلسوف التنويري: من أراد أن يرتاح فليعتقد ومن أراد أن يكون من حواريي الحقيقة فليسأل؟
وفي الأرض اليوم من يدعي تمثيل الإسلام (الحقيقي)، وأن نسخته هي الأصلية، كما أرادها الله تماماً بدون تحريف أو تبديل، وأنه الممثل الشرعي الوحيد عنه سبحانه، وأنه وصل إلى سدرة المنتهى، وقبض على الحقيقة الحقيقية النهائية.
صحيح أن شكله بشري، ولكن لسانه إلهي، وخطابه متعالي، لا يمسه النقد ولا يقترب منه الخطأ، أو يمازجه الهوى ولحن الخطاب.
مهمته ليست الحوار، بل بث الحقائق اليقينية للعباد، فوجب أن يصيخوا السمع بأشد من الجان؛ فينقلبوا إلى أهلهم منذرين يقولون: إنا سمعنا كتابا يهدي إلى الحق وطريق مستقيم.
وباستعراض النماذج المتناثرة بين أيدينا، يظهر طيف لانهاية له من الألوان، يدعي منهم الكثير وصلا بليلى، وليلى لا تعرف عنهم إلا قليلا.
هناك أولا عند سفح جبال الهندوكوش نموذجان متباينان بين جماعة (الطالبان) في أفغانستان، و جماعة (الدعوة والتبليغ) في الهند وباكستان. وفي أفغانستان نرى مرة أخرى التحام نموذج الطالبان مع الحركة الوهابية السلفية والإخوانية القطبية بين (بن لادن والظواهري). في خلطة تفجيرية شديدة الخطر!
ظهرت في أحداث سبتمبر سواء فعلوها أو استخدموا فيها أو كانوا مجرد بيادق، ولكن هناك من الرصيد النفسي ما يجعلهم مقلقي العالم.
ومع أن (الوهابي السلفي) ومن هو من (جماعة الدعوة والتبليغ) يستقيان من نفس المصادر من (الكتاب والسنة)، ولكن الأولى رأت الحل في الحرب والضرب، ومفاهيم الولاء والبراء، ورأت الثانية أن الإصلاح الأخلاقي مقدم على كل علاج، كمن هو مصاب بفقر الدم فنعالجه بالماء.
وبسبب هذا قال ابن تيمية قديما أن لكل واحد كتابه وسنته الخاصة به، بمعنى المفاهيم المنعكسة من الثقافة السائدة.
وفي يوم أدعى (حسن البنا) مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، أن جماعته تجمع كل الصفات في تنظيمه؛ فوصف حركته بأنها quot;دعوة سلفية، وطريقة صوفية، وفرقة رياضية، وهيئة سياسية، وشركة اقتصاديةquot;.
ولكن السياسة استهوتها؛ فتورطت في العنف، واصطرعت مع عبد الناصر، وأنهى أفرادها حياتهم بين حبل المشنقة والمعتقلات الصحراوية والهرب إلى أوربا والخليج.
وحيث حلوا زرعوا أفكارهم ومشاكلهم مع النظام الناصري، فخدمهم عبد الناصر من حيث أراد القضاء عليهم؟ ونشروا في كل مكان الفكر الإخواني المصري وملحقاته وذيوله وكراهيته وأحقاده وتناقضاته.
أما جماعة حزب التحرير التي تنادي بإعادة الخلافة التركية كاسم براق، فقد بعثت في أقصى الأرض مثل طائر الفينيق من رماد الشرق الأوسط، مع أن الخلافة التركية التي يريدونها كان يوم تنصيب الخليفة الجديد يوم مأتم ضخم بخنق وشنق كل الأخوة للخليفة الجديد أو وضعهم على الخازوق، وفي يوم قتل محمد الفاتح أخاه الرضيع، أو مراد الرابع الذي قتل أخوته الأربع عشرة ضربة واحدة في ساعة واحدة، وكل ذلك كان يتم بفتوى من مفتي الديار العثمانية بأن الفتنة أشد من القتل، وبذلك تم تنزيل نصوص قرآن جديد، ليس لها علاقة بالقرآن الكريم.
وفي تركيا نمت يوما الحركة الصوفية (البكتاشية)، ومن عمودها الفقري نشأت الانكشارية، حتى تحولت إلى مرض ينخر كيان السلطنة العثمانية، فنحرهم السلطان (محمود الثاني) فلم يبق منهم أحدا.
وعندما وصل الإسلام إلى الفرس تبنوا المعارضة، فأصبح الإسلام توأم كما يقول توينبي المؤرخ البريطاني. سني وشيعي أو هكذا سموا أنفسهم. وكل حزب بما لديهم فرحون.
وهو أمر يدخل إلى اللاوعي ولا علاقة له بالفهم. فهي آليات نفسية وتاريخية، ولكن فهمها أصعب من قص الأنف بالمنشار وبدون تخدير.
وفي يوم أعجب ناشر في الأردن بطرحي لمشكلة اللاعنف، وتفكيك مفهوم الجهاد في الإسلام، فوعدني بنشر ما كتبت؛ فلما أرسلت له كتابي رفض النشر قائلاً: صحيح أنك استخدمت الآية والحديث، ولكنك لم تكن على منهاج أهل السنة والجماعة.
وهنا اكتشفت مرجعا أقوى من القرآن والسنة اسمه (منهج أهل السنة والجماعة).
وكان (ابن تيمية) محقا في فهم المشكلة بأن كل إنسان عنده قرآن وسنة خاصة به، وهذا هو سر نمو الملل وانتشار النحل.
وحدثتني سيدة فاضلة بقانون نفسي فقالت: quot;لفت نظري أنه لا يوجد أي قول مهما بلغ من السخف والضعف إلا واجتمع حوله عدد من الأناس قلوا أم كثروا. من عبدة النيران، إلى تقديس الجرذان وتأليه البشر والتصفيق لهم في المظاهرات بالدم بالروح نفديك يا أبو الجماجم!
وهكذا فسخف العقل الإنساني وغرابته ليس لها حدود، بقدر نبله وسموه وقدرة النقد الداخلية فيه. وكان الإنسان أكثر شيء جدلا.
وحين رأيت كيف يوزن الآغا خان الإسماعيلي بأقراط الألماس وصفائح الذهب لم أتعجب، وتنمو جماعته في كندا، مع أنهم اشتهروا بالتاريخ بالخنجر والسم والاغتيالات، كما تفعل أي فرقة مضطهدة، اعتبرت أن الجدل الإنساني لا يخضع لمنطق ومناقشة، وكلها سيكولوجيات متشابهة.
ولعل القصة التالية تقرب هذا الجدل المثير؟
فقد اجتمع رجلان من نفس المذهب، فقال أبو حمد لصديقه: فلنحمد الله على العقيدة السليمة الكاملة غير المنقوصة التي أنعم الله بها علينا؟
رد أبو صالح: نعم.. نعم إنها نعمة كبيرة ومنّة جليلة..
قال أبو حمد: ولكن للحقيقة فإن المسلمين أيضا بخير، فنحن نسمع عن إسلام 4000 من الألمان في سنة واحدة يدخلون الدين الحنيف..
قال أبو صالح: هي حقيقة، ولكن يا أبا حمد؛ فلنكن صريحين؛ فإسلام هؤلاء الألمان ليسوا مثل إسلامنا أليس كذلك؟؟
قال أبو حمد بعد تردد: ربما.. وقد يحسن إسلام أحدهم؛ إن هو تفقه على المذهب الصحيح، على مذهب أهل السنة والجماعة ومذهب آل البيت...
قال أبو صالح: هل تريد الحقيقة؟؟
قال أبو حمد: نعم وما هي؟؟
قال أبو صالح: الحقيقة أن الإسلام الحقيقي لا يوجد إلا في بلدنا والحمد لله، أما بقية المذاهب والفرق، ومن اعتنق الإسلام من الألمان والطليان والأمريكان فاخرطي؟؟؟
قال أبو حمد: نعم.. نعم.. فالحقيقة الحقيقية النهائية هي عندنا في قبضة يدنا وفي منبع الحقيقة بين ظهرانينا..
قال أبو صالح: ليس هذا فقط، فلو نظرت إلى مدى الفسوق الموجود في مدن أخرى لهالك الأمر واستهوتك أحزان، وعلمت أن الشريعة المطهرة ليست إلا في مدينتنا الفاضلة، بما عجز عنه أفلاطون، وحار فيه الفارابي عن وجود المدينة الفاضلة، فنحن نؤم المساجد بانتظام، ونصلي بتقوى، ونعبد الله حتى يأتينا اليقين، في ظلمات الشرك والوثنية التي تطوقنا من كل جهة..
هز رأسه أبو حمد وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله.. نعم إن الضلال عم في كل زاوية، والهرج والمرج والفتن قد طوقت الناس في كل مكان، وأنا معك في هذا الرأي، أنه لا مكان على وجه الأرض يعبد الله فيه حق العبادة، وفيه الدين القويم إلا مدينتنا الفاضلة..
قال أبو صالح: ولكن يا أبا حمد إلا ترى أيضا أن هذه المدينة الطيبة الفاضلة التي نعيش فيها ليست كلها صلاحا، بل خلط أهلها عملا صالحا وآخر سيئاً؟
ألا ترى بعض المنكرات قائمة هنا وهناك؟ وأن هناك الخبيث والطيب؟؟
قال أبو حمد: نعم، إنها حقيقة والله يا أبا صالح، فقد كثر الخبث والمنكرات، والموبقات يفعلها البعض، فليست مدينتنا تلك الطاهرة الفاضلة على سنن الصالحين وآل البيت المطهرين وأهل السنة والجماعة؟ ولكن أين إذا مكان الصلاح والتقوى يا أبا صالح؟؟ حقا إن الأمر محير..
رد أبو صالح بحزم التمعت معه عيناه: الدين الصحيح هو فقط في حارتنا، ألا ترى كثرة العابدين، والمصلين الذين هم لفروجهم حافظون، وللزكاة فاعلون؟؟
قال أبو حمد بحماس: إنها والله كبد الحقيقة.. نعم.. نعم يا أبا صالح.. الحمد لله على هذا الحي الطاهر الذي نسكن فيه؟
لم يترك أبو صالح أبا حمد يتمتع بالحماس؛ فالتفت إليه وفي وجهه ألف معنى ومعنى وقال: هل تريد أن أكذب عليك يا أبا حمد أم أصارحك الحقيقة؟؟
اضطرب أبو حمد من كلام وتعبيرات أبو صالح، وقال بشيء من التردد:
لا بل أريد الحقيقة فليس مثلها نصيحة..
قال أبو صالح: الحقيقة إنني أيضا بدأت أشك في عقيدتك، فلا أظنها أنها بتلك النقاوة على مذهب آل البيت وأهل السنة والجماعة...
هذا الحوار رائع في مصائر الفكر، وأين مكان أهل الفرقة الناجية؟ بين تسامح ينفتح إلا اللانهاية، وبين منغلق يصب في الهاوية.
ولكن المشكلة أن من كانت أمه هاوية يلج نارا حامية، يتقدم بكل وثوق، حتى يصطدم بالنتيجة؛ فيتحطم؛ ويحطم من حوله، مثل أي سيارة ترتطم بعارض إسمنتي بسرعة عالية، كما حدث لصديقي الممدد في العناية المشددة بأحد عشر كسرا؟