ترك سقوط نظام صدام حسين فراغا كبيرا، في المنطقة العربية، وأحدث اختلالا في موازين القوى فيها، وفي محيطها، وأفسح ذلك المجال لإيران أن توسع نفوذها التي لم تمنعها شعاراتُها الصارخة عن الشيطان الأكبر من التعاون العلني مع الولايات المتحدة في العراق، وأفغاستان، مقابل تمكينها من دور أوسع في المنطقة، ونفوذ متنام على حساب دول عربية مركزية الأهمية، كمصر التي وضعتها ظروف القضية الفلسطينية في موقف الدفاع أمام حملات إعلامية طالما غذتها الممارساتُ الإسرائيلية والحصار، وإغلاق معبر رفح.
كان إلقاء الأمن المصري القبضَ على خلية حزب الله نقطة تحول في شكل العلاقة بين مصر وإيران، وذراعها اللبناني، حزب الله؛ إذ اتخذت دور الهجوم، واضطر هو إلى موقف الدفاع، ومع ذلك لم يكن هذا بالحدث الكافي؛ لإيقاف الاستقطاب الإيراني في مصر.
وإذا كانت إيران تكتسب نفوذا من ورقة حركات المقاومة الفلسطينية التي تدعمها، وأبرزها حماس والجهاد؛ فإن مصر ما تزال تقبض على خيوط المشهد الفلسطيني الرسمي، والفصائلي من خلال الحوار الذي ترعاه؛ بقوة تكاد تصل حد التحكم والفرض.
وبعد الأحداث الجسيمة التي اجتاحت إيران، بسبب التشكيك بنتائج الانتخابات الرئاسية فيها، لا يتوقع لـ quot;الجمهورية الإسلاميةquot; أن تظل بمنأى عن التغيير في سياستها الخارجية، وفي قدرتها على لعب دور في المنطقة العربية والإسلامية، كمثل الدور السابق على هذه الأزمة؛ ذلك أن المعارضة الشعبية التي جسدها تيار الإصلاح في رمزه مير حسين موسوي لن تضمحل، وهي المختلفة مع النظام الحالي في الدور الذي تتورط بها طهران خارجيا؛ إذ أعرب موسوي عن استيائه من طبيعة الأولويات التي التزمها نجاد، بمساندة من المرشد الأعلى، علي خامنئي؛ حين ظلتْ تقدم- بحسب رأيه- التدخلَ في النزاعات العربية، كفلسطين، ولبنان، وغيرهما، على أولويات الإصلاح الاقتصادي، والداخلي بصفة عامة.
وأيا كان المآلُ الذي ستؤول إليه الأوضاع في إيران، من حيث نوعُ الحكم، وتشكيلته؛ فإن المظاهرات والتحركات الضخمة، والصوت العالي والمتحدي الذي رفعه موسوي في وجه نجاد، وحتى المرشد الأعلى، يؤكد عمقَ الانقسام في الشارع الإيراني، ومراكز القوى فيه، وهو بالمناسبة، ليس اختلافا شكليا، أو تكتيكيا، بقدر ما يمثل توسعا في هوة التناقض الفكري في المجتمع الإيراني؛ ما ينذر بتداعيات أكبر ستكون لها أكبر الأثر على وِجهة الدولة الإيرانية وتوجهاتها، وقبل أن تنضج ظروف ذاك التحول لن يأوي هذا التيار إلى الظل والهامش، بل سيكون قوة ضاغطة، ولا أدل على قوته، وأثره من تلك التراجعات العلنية التي اضطر إليها خامنئي أمام مطالب المحتجين على نتائج الانتخابات.
ولم يكن للدور والنفوذ الإيراني أن يصل مدى أبعد بكثير مما وصل إليه في العالم العربي، إلى الحد الذي يتوجها زعيمة له، ورمزا لأمانيه في التحقق والتأثير؛ إذ يظل الشعور بمسافة بين العرب وإيران باقيا، وإن حاولت الأخيرة طمسه بالاصطباغ بالممانعة، والمقاومة، والتلبس بلَبوسها؛ فعلى الرغم من الشعبية الملحوظة التي اكتسبها حزب الله بعد العدوان الإسرائيلي على لبنان صيف 2006م؛ إلا أن الانتخابات اللبنانية أظهرت تراجعا له في الساحة اللبنانية، وربما كان السبب في ذلك تنامي الشعور بالخوف من تضخم قوة هذا الحسب بوصفه الحزبي الضيق، على حساب الوصف المقاوم الواسع.
وفوق ذلك فإن في التباين الوجداني والتاريخي والسياسي بين العرب وإيران ما يحد من تلك المطامح الإيرانية، حتى ولو ساعدتها حالة الحرج التي تستشعرها النظم العربية المقابلة؛ بسبب تعطل مشاريعها وبرنامجها السلمي مع إسرائيل التي ترفض التعاطي مع المبادرة العربية تحديدا، وتدير ظهرها لأية حلول quot;معقولةquot; يطرحها عليها العرب المؤمنون بالخيار السلمي.
وإذا كانت إيران لا تنجح في ملء هذا الفراغ الناشىء؛ فلا بد من السماح للعرب وللأنظمة القريبة من أمريكا على وجه الخصوص كمصر من استعادة شيء من بريقها بأن تمارس دورا أكبر في القضية الفلسطينية، ولا بد من زخم أمريكي يدشن هذه المرحلة بخطاب رئيس الدولة الأعظم في العالم من قلب عاصمتها إلى العالم الإسلامي قاطبة، ولهذا دلالة قاطعة، رمزية، ولا بد منها.
أما عن فرص هذه المحاولات التي تستهدف إعادة التوازن في المنطقة العربية فمحكوم بحالة سياسية متذبذبة، ومناطق صراع غير محسومة، وحتى العراق الذي يشهد انسحابا للقوات الأمريكية من مدنه ، لا يزال يشهد في الوقت نفسه تفجيرات وأوضاع أمنية هشة، تنذر بضرورة اعتراف أمريكا بالفضل للدول التي أسهمت في تحقيق بعض الهدوء، وعلى رأسها إيران؛ فما يزال العراق ورقة رابحة تستطيع إيران الابتزاز بها، في هذا الوقت الحرج الحساس الذي تعد أميركا فيه لتوسيع عملياتها في أفغانستان؛ تمهيدا للقضاء على نفوذ طالبان فيها، وهنا تستطيع إيران أيضا أن تقدم خدمات مدفوعة الثمن لأمريكا. وإن كانت حاجة الأخيرة للأولى على هذه الجبهة أقل أهمية منها في الساحة العراقية؛ إذ ثمة تعاون من الباكستان واضح وحيوي، وثمة اصطفاف دولي، لا يخلو من روسيا الداعمة والمسهلة لقوات الناتو والقوات الأمريكية في أفغانستان.
ومع ذلك لا زالت أمريكا في حاجة إلى إيران؛ فالتغير الذي حصل في العراق لا يسمح لها بالاطمئنان إليه، ولا يخفى أن أي تراجع في العراق يهدد بنجاح استراتيجية أوباما في الحشد لاستهداف العدو الأول، وهو حركة طالبان والقاعدة.
وعلى أية حال فإن عديدا من المعطيات تصب في صالح حالة جديدة تتطلب قدرا من التوازن، يستدعي تهذيب النفوذ الإيراني، ولا سيما في المنطقة العربية، وفوق ذلك، فإن ورقة المقاومة لم تعد بتلك الفاعلية بسبب الظروف السياسية التي تعيشها حركات المقاومة في فلسطين ولبنان؛ فقد تقلصت قدرة حماس بشكل واضح، بسبب الابتزاز الذي تمارسه إسرائيل بالحصار والضربات العسكرية الشديدة، وغزة لم تشفَ بعد من الدمار الذي سببه العدوانُ الإسرائيلي الأخير؛ فما زالت إعادة الإعمار معلقة بالتوصل إلى حل مع السلطة، ولا تزال حماس محاصرة دوليا، وإن كان ثمة محاولات من بعض القوى الأوروبية لفكه، ولا يخفى أن حماس قد فقدت كثيرا من المبادرة، وبات وجودها في الضفة مهددا بالاستئصال، وكل ذلك يؤرق حماس، ويضغط عليها، ويقيدها.أما حركة الجهاد الإسلامي فهي أقل قدرة من حماس، وهي فوق أزمتها المالية الراهنة، تواجه قيودا لا يستهان بها في الضفة، وفي غزة أيضا.
وليس حزب الله في لبنان بعيدا عن هذه الوضعية؛ فما حققه من صمود في عدوان 2006م لم يخْلُ من آثار سلبية، ولم يكن اعتراف أمينه العام بعدم توقعه أن يكون حجم الرد والأضرار بتلك الدرجة إلا اعترافا بشيء من تلك السلبيات، فضلا عن الوضع الجديد الذي أُجبِر عليه الحزب بعدها.
فلا ينكر وجود معطيات جديدة تسمح بإعادة توازن، وتمكِّن من استعادة دول عربية كمصر والسعودية لبعض النفوذ والإمساك بقضايا المنطقة العربية، بفاعلية أكبر، وليس بالضرورة أن يتم ذلك في أجواء صراعية، وقد تغير المناخ العالمي بمجيء أوباما، كما انعكس ذلك، إيجابا، على طبيعة العلاقات بين دول عربية كانت تستبد بها الخلافات، كما كانت العلاقة بين سوريا والسعودية، مثلا.
التعليقات