ظل الخطاب الرسمي الإيراني، منذ قيام الجمهورية الإسلامية الإيرانية وحتى الأحداث الأخيرة، مقداما، اقتحاميا، حاملا زمام المبادرة، متفائلا، واثقا من نفسه على طريقة السوبرمان، لا يعبأ بكل من يتحداه، ولا يعير أي اهتمام لأي انتقادات يطلقها ضده أعداءه أو خصومه، ومرددا أنشودته السرمدية القائلة إن quot;الأمة الإيرانية العظيمةquot; موحدة الصفوف، غير قابلة للاختراق، وأبنائها يقفون كلهم كالبنيان المرصوص خلف نظام ولاية الفقيه.
لكن الأحداث الأخيرة كشفت، وأثبتت بالملموس أن نظام ولاية الفقيه الإيراني له (عورة) مثلما لجميع الأنظمة الديكتاتورية ذات النظرة الفلسفية الواحدة الإقصائوية في الحكم، سواء استندت هذه الفلسفةعلى مشروعية الدين أو المذهب أو الطبقة أو الأمة أو العرق.
ومثلما يحدث في جميع هذه الأنظمة وهي تحاول ستر عوراتها، عندما تتعرض لهزات عميقة تطال وجودها، لجأ النظام الإيراني إلى الأساليب ذاتها: منع وسائل الإعلام من تأدية واجباتها بحرية، استخدام القمع البوليسي، إلقاء مسؤولية ما عاشته إيران من أحداث على عاتق القوى الأجنبية. إنها السياسة الجديدة القديمة التقليدية ذاتها: الهروب للأمام ودفن النعامة لرأسها في الرمال.
مرشد الجمهورية خامنئي ورئيس مجلس الشورى الإسلامي علي لاريجاني ورئيس الجمهوريةمحمود أحمدي نجاد ووزير الخارجية منوشهر متكي ظلوا، بعد اندلاع الاحتجاجات الأخيرة، يتناوبون الواحد بعد الأخر في كيل الاتهام ضد quot;قوى الاستكبار العالميquot; وتحميلها مسؤولية ما حدث، ما أن ينسى أحدهم جهة حتى يضيف الثاني جهة أخرى جديدة، وما أن ينسى الثالث بلدا حتى يتبعه الرابع ببلد أخر: الولايات المتحدة، بريطانيا، فرنسا، ألمانيا، حتى وصلوا أخيرا إلى منظمة مجاهدي خلق.
وهكذا، بسبب quot;خطط شريرة لبريطانياquot; نزل الإيرانيون الغاضبون إلى الشوارع. وبسبب quot;التصريحات غير المسؤولة لفرنساquot; اشتد غليان الشارع الإيراني.quot; إما عدم توقف الاحتجاجات فسببها quot;أن بعض الوافدين الجدد جاءوا من بريطانيا في الأسابيع التي سبقت الانتخابات، وهم عناصر منتمية إلى جهاز المخابرات البريطاني، وجاءوا إلى إيران ليروا وليكون لهم تأثيرا مؤكداquot;، على حد تعبير وزير الخارجية الإيراني.
ثم، وكأن هذه الاتهامات لا تكفي، نزع رئيس مجلس الشورى الإسلامي، علي لاريجاني، قناع الوقار والرصانة والدبلوماسية، و راح يهدد بلغة الخارجين عن القانون الدولي، وبدون تقديم أي دليل رسمي على التورط الغربي في الأحداث الأخيرة، الدول الغربية، قائلا: كفوا عن نظامنا، وإلا فأن quot;إيران سترد عليكم في ساحات أخرى.quot;
هل هذه لغة المنتصر الواثق، أم لغة الخائف الهارب للأمام ؟
إن الجمهورية الإسلامية هي أخر من يستمع له الناس، وهي تتحدث شاجبة التدخل الخارجي في شؤونها الداخلية. وإلا، ماذا بشأن التدخل الإيراني في العراق وأفغانستان ولبنان وغزة، حتى لا نذكر إلا هذه المناطق ؟ ولماذا لا يريد الآن المسؤولون في الجمهورية الإسلامية أن يتذكروا كيف رابطت إذاعة BBC في شوارع طهران وهي تنقل أولا بأول تطورات الثورة الإيرانية عام 1979، إلى حد أن البعض أطلق على تلك الثورة تسمية quot;ثورة ال BBCquot; ؟
فحوى تهديد لاريجاني تنطوي، هنا، على اعتراف بوجود مخاطر إيرانية داخلية عميقة وخطيرة، وبالتالي على ضعف. ولو أن لاريجاني قال للدول الغربية: بيتنا من زجاج وبيتكم، أيضا، من زجاج، فأنتم في الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا تعانون من مشاكل داخلية كالبطالة والتضخم وارتفاع الأسعار وتداعيات الأزمة الاقتصادية المستمرة، وبإمكان الجمهورية الإسلامية الإيرانية أن تستخدم التحريض المباشر، ووسائل التكنولوجيا الحديثة، وترسل quot;عناصر منتمية لأجهزة مخابراتهاquot; لتحريض مواطنيكم ودفعهم للتظاهر سلميا في شوارع مدنكم، مثلما فعلتم معنا. لو أن لاريجاني قال كلاما كهذا، وحتى لو هو هدد الغرب باستخدام سلاح النفط، أو بغلق مضيق هرمز، لاستقام المنطق، ولأصبحت المواجهة الإيرانية الغربية مواجهة الند للند.
لكن لاريجاني لم يقل هذا، وإنما هدد بالرد على الدول الغربية (في ساحات أخرى.)
تعبير كهذا لا يعني إلا شيئا واحدا هو، تنفيذ عمليات إرهابية. و (ساحات أخرى) لا تعني إلا أمرين، استهداف الناس الأبرياء داخل هذه الدول، تماما على غرار ما تعرض له الأبرياء في الولايات المتحدة و فرنسا وبريطانيا وأسبانيا إثر تفجيرات إرهابية، أو أنه يعني quot;الضربquot; في مناطق الأطراف، أي داخل الدول البعيدة عن الغرب، والتي تتواجد فيها قوات عسكرية لهذه الدول أو مصالح اقتصادية. وهذه كلها مناطق quot;رخوةquot; لا يليق أن تقترب منها دولة واثقة من نظامها وتحترم نفسها، وإنما تليق بعصابات خارجة عن القانون وتنظيمات إرهابية شعارها: أضرب وأهرب.
ولو تمعنا جيدا في خطاب وزير الخارجية الإيراني منوشهر متكي إلى الدبلوماسيين الأجانب في طهران قبل يومين، وكيف أنه أسهب كثيرا في الحديث عن بريطانيا وما يقول أنها تفعله انطلاقا من الأراضي العراقية، وحاولنا ربط ما قاله الوزير الإيراني بالتدخل الإيراني المستمر في العراق، لشجعنا ذلك على الاستنتاج بأن أهم (الساحات) (الأخرى) التي تهدد الجمهورية الإسلامية الإيرانية بنقل المعركة إليها هو، العراق.
بالتأكيد، بمقدور الجمهورية الإسلامية أن تشعل الأرض تحت أقدام الأميركيين في العراق وتحت أقدام ما تبقى من قوات بريطانية داخل هذا البلد، أكثر بعشرات المرات مما تفعل الآن. فإيران ما تزال تملك أوراق تأثير كثيرة داخل العراق.وإذا فعلت ذلك إيران، مثلما هي تفعل الآن، فأن الأقدام التي ستحترق هي أقدام quot;الأشقاءquot; العراقيين الشيعة، سواء سواد الناس منهم، أي quot;المستضعفينquot;، أو الذين يقودون التجربة السياسية في بلدهم. وهذا أمر سيزيد، لو حدث، كراهية عموم العراقيين للنظام الإسلامي في إيران.
وسواء كانت الساحة العراقية هي التي يعنيها المسؤولون الإيرانيون، أو كانت الساحة الأفغانية أو الباكستانية، فأن تهديدات كهذه تظهر مدى حجم الوجع الذي بدأ يعاني منه النظام الإيراني. وهذا الوجع لم تسببه الاحتجاجات الجارية وحدها، رغم خطورتها المباشرة، إنما سببه قبل ذلك عاملان خارجيان هما، التجربة الديمقراطية الجارية في العراق، والموقف الجديد لإدارة الرئيس الأميركي اوباما.
التجربة الديمقراطية في العراق أخذت النظام الإسلامي في إيران على حين غرة. هذا النظام كان يتوقع، ربما، أن النظام الجديد في العراق سيصبح نظام ولاية الفقيه، كما في إيران أو، أقله نظاما إسلاميا. لكن الذي حدث هو انبثاق نظام سياسي يتقاطع جذريا مع النظام الإسلامي في إيران.
في النظام الديمقراطي العراقي، الولاية ومصدر التشريع ليس الولي الفقيه، وإنما الشعب. والفقرة (أ) من المادة الثانية في الدستور العراقي تقول: quot;لا يجوز سن قانون يتعارض مع ثوابت أحكام الإسلام.quot; لكن الفقرة (ب) من نفس المادة تقول: quot;لا يجوز سن قانون يتعارض مع مبادئ الديمقراطية.quot;
ولا بد أن الإيرانيين يراقبون ويشاهدون كيف أباح النظام الديمقراطي في العراق حريات التعبير عن الرأي والتعددية الحزبية ووسائل الإعلام وحقوق الإنسان، وكيف أن البرلمان العراقي يجمع تحت قبته المتدين المطالب بنظام إسلامي إلى جنب العلماني الديمقراطي واليساري والليبرالي. ولا بد أن أبناء الأقليات في الجمهورية الإسلامية الإيرانية يشاهدون كيف أن منطقة كردستان العراق تتمتع بنظام فيدرالي نص عليه الدستور. ولا بد، أيضا، أن الإيرانيين طرحوا ويطرحون على أنفسهم السؤال التالي: لماذا يقام نظام ديمقراطي في العراق، وأغلب سكانه هم مثلنا شيعة، وفي بلدهم مراقد دينية أكثر مما لدينا، وعندهم مرجعية دينية لا يقل حرصها على الإسلام من مرجعياتنا الدينية، وبعض أحزابهم الدينية الحاكمة ولدت ونشأت واشتد عودها على أرضنا الإيرانية وبمباركة الثورة الإسلامية، ولدينا في إيران، تاريخيا، تقاليد ديمقراطية لا تقل عراقة عن الديمقراطية العراقية ؟
هذه التساؤلات، وهي لا تخص المجتمع الإيراني وحده، إنما جميع مجتمعات المنطقة، عجلت طرحها الديمقراطية العراقية الناشئة. ومثلما في لعبة الدوميونو، تتسارع كل المرميات إلى السقوط، واحدة بعد أخرى، مباشرة بعد سقوط المرمرية الأولى. صحيح، إن الديمقراطية العراقية ساهم في ولادتها تدخل أجنبي، وصحيح أن هذه الديمقراطية ما تزال حتى كتابة هذه السطور مخضبة بدماء العراقيين، لكن الذي يسفك هذه الدماء ليست الديمقراطية، إنما أعداء الديمقراطية، وأن الغزو الأجنبي الأميركي، وحتى الصراع الطائفي سيصبحان في المستقبل من عداد (التفاصيل الثانوية) ، لو نجحت التجربة الديمقراطية العراقية وترسخت واشتد عودها. ومن هنا تكالب الجميع لمحاصرة هذه التجربة، ومهدها قبل أن تصبح فنارا حقيقيا لشعوب المنطقة، وتتساقط جميع القطع.
وهنا، من المفيد أن نستعين بما قاله السيد موفق الربيعي، مستشار الأمن القومي العراقي: quot;الإيرانيون quot;الذين يأتون للسياحة الدينية في العراقquot; ربما سينفتحون على الحريات العامة والديمقراطية وحقوق الإنسان في العراق، ولعلهم يتنفسون الهواء الطلق في العراق، ولعل الذين يرون الآن أن إيران خطر على الأمن القومي العراقي، ربما بعد 10 سنوات ترى إيران أن الحريات العامة والديمقراطية في العراق ستشكل خطرا على الأمن القومي الإيراني (صحيفة الشرق الأوسط 22/06/2009).
هذا كلام صحيح، سواء قاله الربيعي أو لم يقله. وإذا كان رجل الشارع الإيراني يحتاج لعشر سنوات حتى يدرك أن quot;الحريات العامة والديمقراطية في العراق ستشكل خطراquot; على النظام الإسلامي في إيران، فأن المسؤولين الإيرانيين ما كانوا بحاجة إلى عشر سنوات للحصول على هذا الاستنتاج، وإنما توصلوا إليه منذ اللحظة التي سقط فيها النظام العراقي السابق. النظام العراقي السابق، وصدام حسين على وجه التخصيص، كان quot;فزاعةquot; يخيف بها النظام الإسلامي في إيران مواطنيه. وبعد سقوط نظام صدام بأيدي أميركية، وما تبعه من احتراب طائفي وصل حد الحرب الأهلية، التقط المسؤولون في النظام الإيراني هذه الهدية المقدمة إليهم على طبق من فضة، أي هذا الواقع quot;الكارثيquot;، وقدموه لكل من يطالبهم بأجراء إصلاحات ديمقراطية، قائلين: أنظروا، هذا ما فعلته الديمقراطية وحقوق الإنسان داخل العراق. ولكن هيهات.
السبب الثاني للوجع الذي بدأ مسؤولو النظام الإسلامي في إيران يشعرون به هو، الموقف الجديد لإدارة الرئيس الأميركي اوباما. فقد ظل النظام الإسلامي في إيران يتغذى من العداء (للشيطان الأكبر) الأميركي. وجميع الإدارات الأميركية، قبل فوز اوباما، كانت تغذي، برعونة سياسية لا مثيل لها، هذه المخاوف. ويقينا، أن مسؤولي النظام الإسلامي في إيران ظلوا يتذرعون إلى الله أن يفوز الجمهوريون مرة أخرى في الحكم، حتى يواصلوا هم لعبة التخويف من (الشيطان الأكبر)، ووضع كل مشاكل الإيرانيين على هذا المشجب.
الآن، غادر المحافظون الجدد البيت الأبيض، و جاء اوباما. وأول ما فعله، كمبادرة حسن نية، هو تهنئته الإيرانيين بمناسبة عيد نوروز. وخلال زياراته لأنقرة والرياض والقاهرة أعلن اوباما أنه سينتهج سياسة اليد الممدودة للعالم الإسلامي وللجمهورية الإسلامية بالذات. وأعلن استعداد الولايات المتحدة للتفاوض مع إيران حول جميع المشاكل بين الطرفين، شرط أن لا تستمر إيران بمشروعها النووي الحربي، وليس المدني، وإلا فأن واشنطن والعواصم الأوربية ستلجأ لفرض عقوبات جديدة على الجمهورية الإسلامية.
هل من المعقول أن لا يرحب الإيرانيون، من غير المتحمسين للنظام القائم، لهذه المبادرة، وهم يلمسون لمس اليد ما سببته السياسة الخارجية الإيرانية من عزلة دولية، وصعوبات معاشية ؟
هل من المعقول أن يضحي الإيرانيون بمستقبل أطفالهم لقاء تصنيع قنبلة نووية يقف العالم كله، تقريبا، ضد تصنيعها، وهل ينسى الإيرانيون ما سببته العنجهية الصدامية من حصار على العراق ؟
ثم، هل من المعقول أن لا يستفيد الإيرانيون المعارضون لسياسة النظام الإسلامي القائم، من التجربة التركية في التعامل مع دول العالم ؟ فتركيا يحكمها، هي أيضا، قادة ينتمون لحزب إسلامي، ولا يقل حرصهم على تطبيق الإسلام واحترام قواعده، من حرص القادة الإيرانيين. لكن البراغماتية وسياسة (الريل بولتيك) هي التي تسير القادة الأتراك. وها هي تركيا تصبح، دون أي سلاح نووي تملكه، إلى قوة إقليمية، بل دولية، يحسب العالم لها ألف حساب، ولا تستقيم أمور المنطقة إلا بمشاركتها، وتشهد نموا اقتصاديا غير مسبوق.
ولا بد أن الإيرانيين الغاضبين على سياسة حكومتهم يتساءلون: أما كان الأجدر أن تكون طهران، وليس أنقرة، هي العاصمة الإسلامية الأولى التي يزورها الرئيس الأميركي الجديد، وهو يدشن سياسته الجديدة ؟
تساؤلات كهذه تبدو صبيانية وساذجة، وربما تافهة، في نظر القادة الإيرانيين. فهم ما زالوا يفضلون الاستمرار في نفس لعبتهم المفضلة: الهروب للأمام. ولا يمكن فهم المناورات العسكرية التي أجرتها إيران في الأيام الأخيرة إلا مواصلة في السير على نفس الطريق.
لكن أزيز الصواريخ الإيرانية التي انطلقت أخيرا لا يمكنه أن يخمد صيحات الألم الذي بدأت تشعر به الجمهورية الإسلامية، لأول مرة في تاريخها. ومن لا يصدق عليه أن يتمعن ثانية في تصريحات القادة الإيرانيين، فهي تشبه (الهالة الخضراء) الذي قال الرئيس محمود أحمدي نجاد أنها أحاطت به وهو يلقي خطابه من منصة الأمم المتحدة.
- آخر تحديث :
التعليقات