إذا كانت كل الحروب قذرة، فأن الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة جمعت كل قذارات الحروب وفظائعها. طوال أيام الحرب ظلت إسرائيل تطلق النار على كل شيء: المستشفيات والمدارس ودور العبادة وأماكن المنظمات الإنسانية. وبسبب ما انطوت عليه من عنف، ووضاعة استثنائية فأن هذه الحرب أحرجت جهات كثيرة في العالم، بعضها عرف عنه دفاعه التقليدي عن إسرائيل، وبعضها كان محايدا في الصراع العربي الإسرائيلي، وبعض ثالث كان كثير الإعجاب بإسرائيل.
صحيفة (لو فياغرو) الفرنسية، مثلا، وهي صحيفة لم يعرف عنها تعاطفا استثنائيا مع القضية الفلسطينية، ولا كراهية صارخة لإسرائيل، نشرت (في 16/01/2008) مقالا لأحد كبار كتابها المختصين بالشؤون الدولية، قال فيه: quot; في ستينيات القرن الماضي كانت النسوة الأوربيات يستشهدن، أمام أطفالهن، بما أنجزته الكيبوتسات quot;المستوطنات التعاونيةquot; في إسرائيل، وكيف أنها نجحت في تحويل الصحراء هناك إلى ربوع خضراء. أما في أيامنا هذه فلم يعد واردا، مع الأسف، في ذهن امرأة فرنسية من الطبقة الوسطى أن تستشهد أمام أطفالها بالأمة الإسرائيلية كنموذج يحتذي به. إن القوة الحقيقية لأي بلد تعتمد فيما تعتمد، وعلى المدى البعيد، على الصورة التي يظهر فيها أمام العالم، وعلى ما يقدمه من إشعاعات.quot;
والصورة التي ظهرت فيها إسرائيل أمام العالم في حربها الأخيرة هي، صورة مجموعة من وحوش بشرية، بهيئة ساسة وجنرالات، يتبارون فيما بينهم على أيهم يقتل أكثر عددا من البشر ويلحق بهم دمارا شاملا، هكذا لمجرد الرغبة في القتل والتدمير. وبسبب هذا الحرج الكبير الذي سببته إسرائيل لأصدقائها، ولمجموعات الضغط الداعمة لها في العالم الغربي، فأنها اضطرت، لأول مرة، ربما، إلى المتاجرة بأطفالها، مثلما حدث خلال أحدى جلسات البرلمان الأوربي. فقد جلبت، الأسبوع الماضي، مجموعة من النواب الأوربيين المؤيدين لإسرائيل أطفالا إسرائيليين إلى مقر البرلمان لكي يدلوا بشهاداتهم حول ما سببته لهم الصواريخ الفلسطينية من معاناة، فما كان من بعض النواب تتقدمهم النائبة الأوربية لويزا مورجينيتي، التي كانت قد أمضت أياما في غزة، أن تنهض معترضة، و تخاطب الحاضرين، قبل أن تنجح في إلغاء الجلسة: quot;إنها لفضيحة كبرى أن يتم استغلال الأطفال لغايات سياسية.quot; وقد اضطر الأطفال الإسرائيليون أن يؤجلوا الإدلاء بشهاداتهم إلى اليوم التالي، ولكن خارج قاعة البرلمان.
هذا غيض من مواقف الاستنكار للسياسة الإسرائيلية تراكم، خلال الأسابيع الماضية، حتى صار فيضا تدفقت مياهه في شوارع العالم، وعلى صفحات كبريات الصحف، وداخل الفاتيكان، وداخل مقر الأمم المتحدة، وفي مقر محكمة الجزاء الدولية، ووصل رذاذه حتى داخل مطابخ صنع القرارات في عواصم العالم. وقد رأينا كيف أن المجزرة الإسرائيلية حركت الكثير من القادة الأوربيين وجعلتهم يحثون الخطى نحو مصر للاجتماع مع القيادة المصرية والتنسيق معها فيما يمكن عمله.

هذا، ومثله كثير، حدث على الجبهة الخلفية البعيدة الأجنبية، وهي جبهة تظل أفعالها، على أي حال، محمودة ومشكورة حتى لو كانت هذه الأفعال قطرات مطر ليس إلا، لأن القضية الفلسطينية ليست قضيتهم، أصلا. فما الذي حدث على الجبهة الأمامية، أي أصحاب القضية أنفسهم؟
قبل أن نصل إلى خطوط النار الأمامية، أي إلى (الجمهورية الغزاوية الإسلامية الفلسطينية المجاهدة) و(الجمهورية الفتحاوية الديمقراطية الفلسطينية المناضلة)، ومعهما النظام الرسمي العربي، نود أن نبدي هذه الملاحظة حول ما حدث في الجبهة الخلفية، هنا حيث شهدت شوارع العواصم الأوربية تظاهرات مؤيدة للفلسطينيين.
المعروف أن تظاهرات التأييد هذه، وكل تظاهرات مؤيدة للفلسطينيين، يدعو إليها ويشارك فيها، تقليديا، اليسار الأوربي الذي يشمل الأحزاب الشيوعية التقليدية، وحركات اليسار المتطرف، ومناهضو العولمة، والجماعات ذات النزعة الفوضوية اليسارية، وشخصيات وجماعات يهودية لا تعادي إسرائيل ولكنها تؤيد قيام دولة فلسطينية مستقلة، وجمعيات الدفاع عن حقوق الإنسان، وجماعات مناهضة العنف. هذه الأطراف كلها ليست فلسطينية ولا عربية ولا مسلمة ولا إسلامية ولا شرق أوسطية. هي جماعات أوربية. أي أن الناس الذين تتشكل منهم هذه الجماعات لهم تربية، وثقافة، وطرق في المحاججة، وبيئة، وأيديولوجيات، وأنماط من السلوك خاصة بهم، وبالتالي لهم تصور خاص عن الصراع العربي الفلسطيني يختلف، أحيانا بطريقة جذرية، عن هذا الذي نحمله نحن العرب والمسلمون المتعاطفون مع القضية الفلسطينية. وبدلا من احترام هذه الخصوصيات والفوارق، وكسب المزيد من المؤيدين للقضية الفلسطينية، فأن البعض من أبناء الجاليات العربية والمسلمة يستغلون هذه التظاهرات، سواء بطريقة عفوية أو بتنسيق مسبق، فيرفعون شعارات ويرددون هتافات ويقومون بممارسات تسبب حرجا لهولاء المتظاهرين، كرفع صور لبعض الشخصيات العربية، أو ترديد شعارات متطرفة، مثل (خيبر خيبر يا يهود جيش محمد سوف يعود)، أو ترديد هتافات معادية لقادة الدول التي تقام فيها هذه التظاهرات، أو الإقدام على تكسير الممتلكات العامة، مثلما حدث في تظاهرات باريس، مثلا.

هذا على الجبهة الخلفية البعيدة، إما ما حدث بين أبناء القضية فكان، حقا، مثيرا للغثيان. فعلى امتداد أيام الحرب تحولت الفضائيات العربية إلى ساحات بائسة تتبارى على شاشاتها ديكة فلسطينية، كل منهم يلقي المسؤولية على الطرف الأخر، ويتهمه بالخيانة. بعض منهم يغلف كلامه بآيات قرآنية وأحاديث نبوية، والبعض الأخر بمفردات ثورية وطنية عقائدية، والجميع يقفون، وأوداجهم منتفخة، على مزبلة انكسارات وهزائم، وجثث أبرياء وبيوت مهدمة، ومتسولين quot; يشحذون بصلة من هالبيت ورغيف من ذاك وبندورة من ثالثquot; كما قال (مواطن) فلسطيني في لقاء تلفزيوني.
ألا تشعر هذه الديكة الفلسطينية المتصارعة فيما بينها، بعار، بندم، بأسف (حتى لا نقول بحاجة إلى مراجعة شاملة للمواقف) وهي تسمع وترى كيف أن أعدائها يتبارون فيما بينهم على أيهم يلحق خسارة فادحة بعدوهم الفلسطيني المشترك، وليس بينهم هم!

أخيرا، نصل إلى النظام العربي الرسمي. ودعونا نأمل أن قمة الكويت هي (المسك) الذي اختتمت به أخر الخلافات. لكن ضوع هذا المسك تلاشى قبل أن يتنشقه الحاضرون أنفسهم. فالسؤال الآن هو: أين تذهب هذه الأموال التي تبرعت بها قمة الكويت لأعمار غزة؟ ل(جماعة) غزة، أو ل(جماعة) رام الله؟ وكيف يجاب على هذا السؤال و(الجماعتان) بينهما بحر من التخوين؟ أتذهب هذه الأموال إلى (الفاسدين)، أم إلى الذين (انتهكوا) الشرعية؟
هذه أسئلة لا أجوبة لها، لأن الخلافات عميقة جدا. والجواب الوحيد يكمن في أيدي القادة العرب الذين اجتمعوا في الكويت. عليهم (بعد أن اجتمعوا وتعانقوا ونسيوا خلافاتهم) من أجل قضية العرب الكبرى، أن يقولوا للفلسطينيين، بصوت واحد، عال، وحاسم: ما دامت القضية الفلسطينية هي قضية العرب الكبرى، وليست قضية الفلسطينيين، فحسب، فنحن، القادة العرب، سنتحمل مسؤوليتنا، تأسيسا على المبادرة العربية للسلام، وعليكم قبول ما نتوصل إليه.
نعم، على القادة العرب أن يتصرفوا. عليهم أن يستثمروا تغيير الإدارة الأميركية ووعود أوباما، وما استجد من مواقف دولية، رسمية وشعبية، مع القضية الفلسطينية. عليهم أن يوصلوا رسالة واضحة للقادة الفلسطينيين، كلهم، مفادها: أن مرور الوقت ليس في صالح القضية الفلسطينية، وأن هذه القضية بدأت تبتذل وتبتذل وتبتذل، حتى كادت أن تتفسخ وتنتن، ليس بسبب مكائد أعدائها، فحسب، وإنما بسبب أبنائها، أيضا. وقد آن الأوان، قولا وفعلا، أن نمنع هذه المأساة الإنسانية الكبرى، من التحول إلى بورصة، أو مختبر تجارب أيديولوجية، أو ساحة لحسم صراعات إقليمية، أو حلبة يستعرض فوق خشبتها كل من رغب من الهواة والمحترفين.