الآن دخلت أميركا سن النضج

بعد فوز باراك اوباما بدأت وسائل الإعلام تردد، ربما من باب التأدب، الجملة التالية: باراك أوباما هو أول رئيس أميركي quot;من أصول أفريقية.quot; لا، هذا ليس تعبيرا صحيحا، أبدا، لأنه يركز على القشرة الجغرافية، ويتناسى الجوهر الأعظم لمغزى الفوز.
الذي انتخبته أميركا رئيسا لها، ليس من أصول أفريقية، بل هو، أوباما الأسود، العبد، سقط المتاع الأميركي (فيما مضى).
الذي انتخبته أميركا هو، أوباما الأسود العبد الذي كان سائق الباص العام، قبل خمسة عقود، وليس قرون، يجبره على إخلاء مقعده للرجل الأبيض الذي يقف جواره.
الذي انتخبته أميركا هو، أوباما الذي لا يستطيع أن يقول إن أبائي وأجدادي بنوا أميركا، لأن أباءه وأجداده ليس لهم قبور في أميركا، قبورهم في كينيا.
الذي انتخبته أميركا هو، أوباما حسين المنحدر من أصول مسلمة، والتي ظلت صحيفة نيويورك تايمز الشهيرة تتحاشى ذكر لقبه (حسين) طوال الحملة الانتخابية حتى لا تؤثر على الناخبين، لكنها صدرت صفحتها الأولى، بعد الفوز بهذا الاسم.
الذي انتخبته أميركا هو، أوباما الذي حصد 66 بالمائة من الأصوات، بجهده الخاص، ودعم الناخبين، ودون دعم مراكز القوى( اللوبيات).
الذي انتخبته أميركا هو، أوباما الذي لم يولد وفي فمه ملعقة من ذهب، غير القادر أن يقول quot;كان أبيquot;، كما كان ردد ثلاثة وأربعون رئيسا سبقوه، إنما هو سليل العصاميين، القادمين من القاع، المتسلحين بشعار quot;هذا أناquot;.
باراك أوباما ما كان قادرا أن يدخل، قبل خمسين عاما، حتى لأي مرحاض يختاره بنفسه، إنما لمراحيض خاصة به وبأبناء جلدته.
وها هي أميركا، في القرن الواحد والعشرين، تزف أوباما وتدخله، مع زوجته الآمة السوداء، وصغيراته الوصيفات إلىأعظم وأقوى quot;بيتquot; على وجه الكرة الأرضية قاطبة، هو البيت الأبيض.
وباراك اوباما، لن يدخل وحده إلى البيت الأبيض، وإنما سيدخل معه المنبوذون، المهمشون من حي هارلم وأحياء أخرى مشابهة، الذين أطلقوا، حال سماعهم نبأ الفوز، صرخة نصر واحدة تقول كلماتها quot;نعم، لقد فعلناهاquot;، بعد أن كانوا يرددون، قبيل لحظات، وعلى استحياء: quot;نعم، بمقدورنا أن نفعلها.quot;
هذا هو (التغيير) الذي عناه الرئيس الأميركي الجديد باراك أوباما خلال خطاب النصر، التغيير الذي كان يعتبر من المستحيلات، عندما أطلق أوباما صرخته الأولى في هذه الحياة.
وترحيبا بهذا التغيير المعجزة، تهاطلت دموع الأميركيين، البيض قبل السود.
إنه تغيير لم يحدثه الحسب والنسب، ولا الفتاوى الدينية، ولا المذاهب، ولا الايدولوجيا الدينية.
أنه تغيير له أب واحد، أسمه النظام الديمقراطي العلماني، وله أم واحدة، أسمها النظام الديمقراطي العلماني، وله رحم واحد بداخله نمت نطفته، أسمه الديمقراطية.
لولا الديمقراطية لظلت أميركا غارقة في حروبها الأهلية حتى الساعة، مرة دفاعا عن النقاء العرقي، ومرة دفاعا عن المذهب الديني، وثالثة بسبب مخاوف وهمية تغذيها الخرافة.
quot;بفضل الديمقراطية، وليس بفضل الأسلحة، نحن أقوياءquot;، قال الرئيس الأميركي الجديد باراك اوباما، في خطاب النصر.
وقبل بارك أوباما وضع شاعر أميركا الأعظم، والت وتمان، في قصيدته ( For You O Democracy ) ثقته المطلقة بالديمقراطية، وبقدرتها في تحقيق المعجزات، وخاطبها، متذرعا وعاشقا ومقدسا: quot;لك أيتها الديمقراطية، يا خليلتي، لك أرتل أناشيدي.quot; من يملك منكم عصا سحرية تأتي بمعجزة مثل تلك التي أحدثتها عصا الديمقراطية في أميركا بتاريخ الرابع من نوفمبر 2008 ليلق بها أمامنا.
لو زارنا أوباما
عندما كان الرئيس الأميركي الجديد، باراك أوباما، يتحدث في خطاب النصر عن مسيرة الألأم والأفراح في أميركا، عن الفصل العنصري في أميركا، وكذلك عن وصول أول إنسان على سطح القمر، كان مثقفونا ومحللو الأخبار وصناع الرأي في قنواتنا العربية وفي صحافتنا، يتحدثون كعادتهم، كعادتهم تماما، عن (السيرك) الانتخابي في أميركا، ويشغلون أنفسهم بعد أسماء quot;اليهودquot; الذين ينشطون في حملة اوباما الانتخابية، ويرددون أغنيتهم اليتيمة: لا تغيير ولا هم يحزنون، هذه الكعكة quot;السوداءquot; من نفس العجين quot;الأبيضquot;. وقد استبد الحماس ببعضهم فراحوا يؤكدون أن بوش هزمناه نحن العرب بمواقفنا وبجهود مقاومتنا، وكأنهم يحذرون أوباما (بل هم حذروه): إن لم تفعل ما نريد، وإن لم تلب مطالبنا فسيكون مصيرك يا باراك أوباما مثل مصير الجمهوري بوش.
مثقفونا هولاء يريدون من أميركا، بل من العالم كله، أن quot;يوقتquot; عقارب ساعته مع عقارب ساعتنا العربية.
حسنا، هل تسير عقارب ساعتنا العربية على ما يرام حتى تحذو حذوها عقارب ساعات العالم، أو بالتحديد ساعة الرئيس الديمقراطي، باراك اوباما؟
باراك اوباما الديمقراطي المنتصر قال سنظل، دائما، نحن الولايات المتحدة. وجون ماكين الجمهوري المندحر ردد الأنشودة الأميركية نفسها: سنظل نحن الولايات المتحدة.
هل نملك، نحن العرب، ولاياتنا العربية المتحدة التي ستفاوض، كجبهة واحدة، وتفرض شروطها، كقوة اقتصادية تملك أكبر احتياطي من نفط العالم؟
هل نملك، نحن العرب، قيما أخلاقية وسياسية نباهي بها أمم العالم، ونطرحها كقدوة وكمثال يحتذى به؟
غدا سيبدأ اوباما (لا بد أن يفعل) بزيارة بلداننا، فبماذا سنطالبه؟ سنطالبه:
أن يجد حلا للصراع العربي الإسرائيلي، وينصف الفلسطينيين. لكنه سيسألنا: أي فلسطينيين تعنون؟ جماعة أبو العبد، أم جماعة أبو مازن، أم جماعة فتح الإسلام؟
أن يسحب القوات الأميركية من العراق. لكنه سيسألنا: أتضمنون أن لا يغير حي الأعظمية على حي الكسرة، والشعلة على حي العدل، وأن لا يلعلع رصاص القاعدة من جديد، وأن تبدأ المجاميع الخاصة بزرع الزهور في أزقة بغداد بدلا من العبوات اللاصقة وتفخيخ السيارات، وأن تصدر لكم إيران الكافيار، ولا شيئا غيره؟
أن يساعدنا بأن نصبح أمة يتساوى أبنائها في الحقوق والواجبات، لكنه سيسألنا: أتمنحون الجنسية لجماعات (البدون) في الكويت؟ أتقسمون بتحقيق ما نصت عليه مقدساتكم التي تقول quot;وخلقناكم شعوبا وقبائل لتعارفواquot;، فتختارون واحدا أو واحدة من عبيدكم السود، ليس، فقط، كلاعبي كرة قدم، وليس كأعضاء في فرقة (الخشابة)، وإنما وزيرات ووزراء؟
أن يعيننا حتى نكون أمة واحدة لا تفرق بين أبنائها بسبب دياناتهم ولا مذاهبهم الدينية، لكنه سيسألنا: أتضمنون أن لا يدب الهلع في قلب القرضاوي، إذا أنتشر التشيع؟ وأن لا يغير (شباب الشيعة) من الهاكرز لتدمير مواقع السنة على شبكة الانترنيت؟ وماذا ستفعلون بأصحاب فتاوي (شرب البول)، وربما الغائط، أيضا؟ وهل سيتم تهجير العراقيين المسيحيين من ديارهم؟ وهل ستتعهدون بعدم إصدار فتوى تحرم زرع quot;الأعضاءquot; بين المسلمين وغيرهم من الديانات؟
أن يمدنا بالقدرة على حل مشاكلنا بأنفسنا، لكنه سيسألنا: وهل ستكفون عن شتم أميركا كلما عثرت لكم دابة؟
الديمقراطيون يتذرعون إلى الله ليلا ونهارا بأن لا يوقع بوش أي معاهدة مع الحكومة العراقية
الديمقراطيون يريدون أن يوظفوا فوزهم الساحق لإطلاق رصاصة الرحمة، ليس على إدارة الجمهوري جورج بوش، وإنما على المشروع الجمهوري برمته، لأكثر عدد من السنوات القادمة. إنهم سيعملون ما بوسعهم لمنع أي نجاح ستسعى إدارة بوش للظفر به في الوقت الضائع المتبقي. ولهذا المسعى سيتحول الديمقراطيون إلى منشار (صاعد قاص، نازل قاص). سيعلنون، فيما يخص وضعهم في العراق، بأنهم لم يشعلوا الحرب في العراق، إنما أشعلتها إدارة بوش. وبعدما يبرأ الديمقراطيون أنفسهم عن هذا (الخطأ)، فأنهم سيحاولون أن يستفيدوا، إلى الحد الأقصى، من تبعات (الخطأ). سيقولون، صحيح أن الحرب شنها الجمهوريون، ولكن أميركا كلها، وليس الجمهوريون، هي التي نزفت أمولا خيالية في هذه الحرب، وفقدت الكثير من أبنائها. والقضية، أولا وأخيرا، هي قضية أميركية. (في العراق يخدم حاليا في الجيش الأميركي، نجل الديمقراطي جون بايدن سوية مع نجل سارة بالين الديمقراطية). وبالتالي، من حق أميركا أن يكون الثمن الذي تقبضه ملائما لمستوى تضحياتها. بمعنى أخر، أن أميركا، هكذا سيؤكد الديمقراطيون، يجب أن تفرض شروطها هي، شروط المنتصر، ولن تقبل باتفاقية تفرض شروطها حكومة عراقية وصلت إلى الحكم بجهودنا. وسيكون للديمقراطيين، ولإدارة باراك الجديدة فسحة كبيرة من الوقت، وهامش للمناورة أوسع كثيرا من ذاك الذي كانت إدارة بوش تملكه. فهم ليسوا على عجلة من أمرهم. فالوضع الأمني في العراق في طريقه للاستتباب، والجنود الأميركيون أصبحوا في مأمن داخل العراق، وبالتالي ما من ضغوط مستمرة من عائلاتهم على إدارة أوباما. والكونغرس يعضدهم ويدعم كل ما سيتخذونه من قرارات. وربما سيبدأ الرئيس الديمقراطي الجديد، أوباما، بسحب عدد من القوات الأميركية من العراق، لكي يظهر للأميركيين أنه يفي بوعوده. لكن هذا لا يمنعه من فرض شروطه وإعادة التفاوض. وإذا أعترض المسؤولون العراقيون بأن ما حدث بينهم وبين إدارة بوش هو ليس مجرد كلام، إنما مسودة اتفاق رسمية، تحتاج فقط إلى وضع اللمسات الأخيرة والتوقيع عليها، فأن الجواب سيكون سهلا وجاهزا: لسنا من شارك في كتابة بنود الاتفاقية إنما إدارة بوش التي أصبحت في عداد الماضي. وإذا زاد العراقيون من لجاجتهم فأن الجواب الحاسم سيكون: عليكم أن لا تنسوا بأننا لا نتحدث عن شروط ومعايير أخلاقية بين أفراد، وإنما عن مصالح بين دول.
وإذا كان الرئيس الجديد باراك اوباما غريرا في السياسة والعلاقات الدولية، فان في الغرفة الملاصقة لغرفته سيتربع (أستاذه) جون بايدن، الضليع، الخبير بأوضاع العراق والعالم، والذي كان قد صوت لصالح شن الحرب الأميركية في العراق.