بتاريخ (28/11/2008) نشرت صحيفة الحياة الصادرة في لندن مقابلة بعدة حلقات، أجراها رئيس التحرير الأستاذ شربل داغر مع السيد ياسر عبد ربه، أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية. في تلك المقابلة تحدث عبد ريه عن مواضيع مختلفة ومهمة، منها ما يتعلق بموقف الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، من الغزو العراقي للكويت. قال عبد ربه: quot;إن الرئيس عرفات لم يكن مؤيدا غزو القوات العراقية للكويت، لكنه كان يعتقد حتى اللحظة الأخيرة بأن الحرب لن تقع وأن المسألة ستنتهي بتسوية.quot; وعن رأي عرفات بصدام، أوضح عبد ربه بأن عرفات كان يرى أن صدام حسين quot;ليس عنده محرماتquot;، أي، بمعنى أخر، هو رجل وضيع، لا ذمة له ولا ضمير، ولا يتوانى من الإقدام على أي فعل خسيس. ولهذا فأن عرفات quot;يخاف من تآمر صدام عليهquot;، فكان quot;يراعيه مراعاة شديدة. وأحيانا كان يخاطبه بالقول: أنت أمل الأمة وقائدهاquot;.
لعل القراء يتفقون معي بأن هذا الكلام الذي يذكره القائد الفلسطيني، خطير جدا، ويحتاج صاحبه إلى شجاعة استثنائية حتى يذيعه على الملأ، لكن شرط أن يقال في حينه.إما عندما ينشره عبد ربه الآن، بعد مرور كل هذه السنوات، وبعد رحيل عرفات وصدام إلى القبر، فأنه يصبح بدون أي قيمة، وبدون أي فائدة، وخاليا من شجاعة القول.
مع هذا كله، فأن هذه المعلومات التي ترد على لسان القائد الفلسطيني تحمل، حتى لو قيلت بعد مرور عقدين من الزمن، وبعد كل ما نتج عن حرب الكويت ويعرفه الجميع، دلالات خطيرة، أولها وأهمها هو، رهن القرار الفلسطيني بجهات لا يهمها مصير الفلسطينيين وقضيتهم، بقدر ما يهمها استخدام هذه القضية لأهداف خاصة بتلك الجهات.
الدلالة الثانية هي، أن بعض الخسائر الكبرى التي لحقت بالفلسطينيين لم تحدث بسبب quot;العجز، وصمت الشاعر العربي، وتخاذل الرأي العامquot;، كما يزال يقول الإعلام الفلسطيني، وإنما حدثت بسبب القراءات الخاطئة والمرتجلة للقيادات الفلسطينية نفسها. وإلا، ما ذنب الشارع العربي، وما ذنب حتى النظام العربي الرسمي، في العزلة التي عاشتها القيادة الفلسطينية، بعد حرب الكويت، وتلك القيادة كانت قد ألقت بكل ثقلها وراء صدام حسين، رغم أنها تعرف أن صدام quot;ليس عنده محرماتquot;؟
أما كان الأجدر، والأكثر نفعا للشعب الفلسطيني لو أن القيادة الفلسطينية وقفت، وقتذاك، بطريقة علنية وصريحة مع الإجماع العربي الرسمي الذي طالب بخروج القوات العراقية من الكويت؟ نعم، كان ذاك هو الطريق الأكثر صوابا والأكثر نفعا للشعب الفلسطيني، سواء كان ذاك قد تم بدافع براغماتي نفعي أو بدافع مبدأي.
بالطبع، أن ما أورده عبد ربه ليس سوى قطرات من بحر متلاطم من الأسرار والمعلومات التي تراكمت في جعبة القيادة الفلسطينية على امتداد سنوات طويلة من العمل السياسي. وحسنا فعل عبد ربه عندما أذاع تلك المعلومات، حتى بعد فوات الأوان، وحسنا سيفعل غيره من القادة لو أنهم حذوا حذوه. لكن الفائدة الكبرى لا تكمن في نشر المعلومات والأسرار، إنما في الاستفادة منها، وتوظيفها لصالح القضية الفلسطينية، وعدم تكرار ما حدث من أخطاء. فهل استفادت القيادات الفلسطينية الحالية من تجارب الأمس؟
نحن الآن في عام 2009 وليس في عام 1991. لكن الوضع الفلسطيني القائم حاليا، خصوصا في ما يتعلق بمسألة التحالفات الإقليمية والحسابات الخاطئة، لا يختلف عن ذاك الوضع السائد في نهاية تسعينيات القرن الماضي، أبان الاحتلال العراقي للكويت، إن لم يكن أسوأ بكثير. فالوضع الفلسطيني الآن منقسم على نفسه: قسم، يمثله أبو مازن في رام الله، عروبي الهوى والتحالفات، وسائر في طريق تسوية سلمية، انطلقت منذ مؤتمر مدريد، وتحظى بغطاء رسمي عربي، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. والقسم الأخر، يمثله إسماعيل هنية في غزة وخالد مشعل في سوريا، إسلامي الهوى، وإيراني التحالف، يصر على تحرير كامل التراب الفلسطيني. والطرفان يفصل بينهما برزخ من الكراهية والاتهامات والتخوين، قد لا يوجد مثيل له حتى في علاقة كل منهما مع إسرائيل. وبهذا الوضع الفلسطيني البائس، وبهذه الجبهة الفلسطينية المفككة تريد حماس أن تحقق نصرا فلسطينيا، بعد أن نقضت الهدنة ومنحت إسرائيل ذريعة لشن هجومها البربري!
بالطبع، أن البعض سيجد في ما نقول تحريفا للحقائق. وسيكررون أن كلامنا هذا يساوي بين الضحية والجلاد، لأن إسرائيل، وليست حماس، هي التي تحتل الأراضي الفلسطينية، وأن حماس تريد فك العزلة المفروضة عليها وفتح المعابر، وأن إسرائيل مصممة، أصلا، على القضاء على حماس، مهما فعلت هذه الأخيرة، ومهما قدمت من تنازلات. وبالتالي، لم يكن أمام حماس سوى أن تفعل الذي فعلته، على الأقل لتحريك الوضع الفلسطيني.
لنتفق مع هذه الآراء، وهي آراء صحيحة في بعض منها. فإسرائيل هي الجلاد، وهي التي تحتل الأراضي الفلسطينية، وهي التي تشن الآن حرب إبادة، ليست فيها ذرة من التكافؤ، على شعب أعزل. هذه حقائق لا ينكرها عاقل. لكن هذه الحقائق قد تكون ذات فائدة عندما نرددها في جلساتنا الخاصة، لكي ترتاح ضمائرنا، لكنها لا تصمد إذا ترجمت إلى لغة الواقع ووضعت داخل ميزان القوى السائد، وهي لا تعفي قيادة حماس من مسؤولية السير في طريق الانتحار الجماعي، سواء في طبيعة التحالفات الإستراتيجية التي نسجتها، أو في توقيت المواجهة الحالية مع إسرائيل. فأي مبتدئ في السياسة يعرف أن حماس قررت السير في الطريق الصعب، بل في طريق نحر الفلسطينيين، في اللحظة ذاتها التي قررت فيها quot;أسلمةquot; القضية الفلسطينية، وفضلت التحالف الاستراتيجي مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، على حساب تحالفاتها العربية.
يقول الدكتور خليل أبو ليلة، عضو القيادة السياسية لحركة حماس ومسؤول العلاقات الدولية فيها، quot;نحن نعمل بكل جهد لإعادة القضية الفلسطينية لبعدها الإسلامي والعربي.quot; كلام كهذا ليس دقيقا، بل ليس صائبا. إذ، منذ متى خرجت القضية الفلسطينية عن بعدها العربي حتى تريد حماس هذه الأيام إعادتها إليه؟ ولهذا، فأن ما يريد أن يقوله هذا المسؤول في حماس، لكنه لم يقله بوضوح وبصراحة، هو أن حركته اختارت، اعتمادا على تصورها الأيديولوجي، أن تركز، منذ الأيام الأولى لتأسيسها، على تحالفها مع إيران، كخطوة أولى في طريق أسلمة الصراع العربي الفلسطيني. والحقيقة أن حماس كانت واضحة في خيارها هذا. ونحن نتذكر أول زيارة قام بها محمود الزهار لإيران عندما أصبح وزيرا للشؤون الخارجية، وإعلانه عن ملايين الدولارات التي تبرعت بها الحكومة الإيرانية، ثم تكرار زيارات كبار المسؤولين في حماس لطهران.
والمسألة لا تكمن، بطبيعة الحال، في إقدام حماس على نسج علاقات وثيقة مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ولا حتى في قبولها لمساعدات إيرانية، فهذا أمر منطقي ومقبول في عالم السياسة. فإيران هي قوة إقليمية صاعدة، ليس من مصلحة الفلسطينيين معاداتها، ولا حتى تحييدها، إنما في استمالة تعاطفها. وإيران هي، أولا وأخيرا، بلد مسلم، والثورة الإيرانية هي التي أغلقت السفارة الإسرائيلية، وفتحت سفارة فلسطينية مكانها. هذه وقائع يعرفها الجميع، لكنها لا تلغي حقيقة أخرى، تعرفها حماس جيدا وهي، أن التحالف الاستراتيجي مع إيران في الوقت الحاضر يؤلب عليها معظم الدول العربية ودول الاتحاد الأوربي، ناهيك عن الولايات المتحدة التي تملك مفتاح حل القضية الفلسطينية. وقبل هذا، فأن حماس ليست بحاجة إلى إعادة قراءة التاريخ لكي تعرف أن القضية الفلسطينية هي، أولا وأخيرا، قضية قومية عربية، وليست قضية إسلامية.
القضية الفلسطينية، بالنسبة للعالم الإسلامي، بحكوماته وشعوبه، هي بمثابة (نوافل)، في حين هي بالنسبة للعالم العربي بمثابة (فروض). والقضية الفلسطينية هي، أصلا، صراع عربي إسرائيلي. وعلى امتداد تاريخ هذا الصراع، فان التي ضحت بأبنائها وأموالها وتنمية مجتمعاتها واحتلت إسرائيل أراضيها هي الدول والمجتمعات العربية، وليست الإسلامية. والتي استقبلت الفلسطينيين على أراضيها وتحملت أعباء معيشتهم، وظلت تتوسط وتتدخل لحل خلافات الفصائل الفلسطينية حتى هذه اللحظة، هي الدول العربية وليست الإسلامية، تستوي في ذلك دول الطوق العربية وتلك الدول العربية البعيدة عن الحدود الإسرائيلية. فلماذا، ولمصلحة من تريد حماس الآن أن تغير طبيعة التحالفات الفلسطينية، وتحول الصراع العربي الفلسطيني، إلى صراع بين اليهود والمسلمين؟ إنها تفعل ذلك، ليس انطلاقا من مصلحة الشعب الفلسطيني، إنما من مصلحتها الخاصة، وتصورها الأيديولوجي، كامتداد فلسطيني لحركة الأخوان المسلمين. وما يردده قادة حماس هذه الأيام بحق قادة بعض الدول العربية، مصر مثلا، هو نفس الكلام الذي يردده قادة الأخوان المسلمون في مصر.
في حديثه مع الكاتب الفرنسي اليهودي مارك هاتلر قبل سويعات من اندلاع المواجهة الحالية، وصف رئيس المكتب السياسي لمنظمة حماس، خالد مشعل، الرئيس المصري حسني مبارك بأنه quot;يقف عند نعال الأميركيينquot; أو هو quot;في جيب الأميركيين.quot; إن هذه الشتائم التي يوجهها قائد حماس بحق الرئيس المصري، وقبل ساعات من اندلاع القتال الحالي بين حماس وإسرائيل، لا تخدم القضية الفلسطينية، بأي شكل من الأشكال. وسواء اتفقنا أو اختلفنا مع السياسة المصرية الحالية، إلا أن من حق مصر أن تعتبر تصريحات كهذه، كمحاولة لأبعادها، وتقليل شأنها، لصالح تحالف حماس مع إيران، وهو أمر حذر منه الرئيس المصري بقوله إن quot;مصر لن تسمح لأحد ببسط نفوذه على حسابها بالمزايدة والمتاجرة بدماء الفلسطينيين.quot; ولا نظن أن هذه الحساسية التي تبديها مصر إزاء تحالف حماس مع إيران، تقتصر عليها وحدها، إنما تجد لها صدى داخل دول عربية أخرى كالعربية السعودية، مثلا.
وهكذا نرى، أنه في الوقت الذي فتحت فيه حماس جبهة ضد إسرائيل، فأنها فتحت جبهة موازية ضد مصر، التي ضحت من أجل قضية فلسطين أكثر مما ضحت أي دولة أخرى، وضد دول عربية أخرى تعرف حماس أكثر من غيرها مدى الدعم الذي قدمته هذه الدول للقضية الفلسطينية.
هذا في ما يخص جبهة التحالفات الإقليمية، إما في ما يتعلق بمسألة توقيت المواجهة الحالية، فأن حماس اختارت، أيضا، السير في طريق الانتحار.فإسرائيل هذه الأيام تحولت، بسبب المنافسة الانتخابية، إلى ثكنة عسكرية، أو إلى (مدفع) لا يسمع إلا صوته. كل القيادات السياسية الإسرائيلية، ووراءها المجتمع المدني، تطالب بشن الحرب ضد حماس. والقرار الأميركي يكاد أن يكون معطلا بسبب الفراغ الرئاسي. وسوريا ليست على استعداد لخوض حرب مع إسرائيل، فهي تنتظر استئناف المفاوضات بينها وبين إسرائيل التي كان قد بدأت بوساطة تركية. وإيران، حليف حماس الرئيسي، تعيش هذه الأيام مرحلة عدم استفزاز إدارة الرئيس الأميركي الجديد. والوضع في عموم المنطقة هو وضع أميركي بامتياز، خصوصا بعد النجاح الأميركي المدوي في تهدئة الأوضاع الأمنية داخل العراق، ناهيك عن التواجد الأميركي في معظم الدول العربية، سواء كوجود لقواعد عسكرية أو كتسهيلات عسكرية. ولهذا كله، تضاف الخلافات الفلسطينية الفلسطينية، وتفكك الجبهة الفلسطينية الداخلية بشكل غير مسبوق
أليس من المنطق أن يسأل المرء: على من كانت تراهن حماس، إذن، عندما قررت خرق الهدنة، واختارت هذه المواجهة الحربية الدائرة بينها وبين إسرائيل؟ على الشارع العربي، وتظاهرات التضامن في دول العالم، وضجيج بعض الفضائيات العربية؟
إذا كانت حماس تفكر بهذه الطريقة، وهي كما يبدو تفعل ذلك، حقا، وفقا لتصريحات كبار قادتها، فعليها أن تتذكر أن كل تظاهرات العالم لم تثن الولايات المتحدة عن شن حرب الخليج الأولى ضد نظام صدام حسين، ولم تمنعها من دخول العراق وإسقاط ذاك النظام في حربها الأخيرة. تظاهرات الدعم والإسناد لا تخلق الانتصار. إنها تفيد عندما تملك الجهة المعنية بالدعم، الحد الأدنى من مقومات الانتصار، مثلما حدث مع فيتنام والثورة الجزائرية، مثلا. لكن هذه التظاهرات تتحول إلى (واجب أخلاقي وإنساني)، لا تقدم ولا تؤخر، عندما لا يحتوي ميزان القوى بين الجهة التي يراد دعمها، وبين الجهة التي تخوض ضدها حربا، ذرة واحدة من التعادل، مثلما حدث بين العراق وبين دول الحلفاء في حرب الكويت، ومثلما يحدث الآن بين حماس وإسرائيل.
إما ما يردده هذه الأيام قادة حماس عن (الانتصارات) و (فشل) إسرائيل في تحقيق أهدافها، فهو كلام يذكرنا، تماما، بما ردده صدام حسين غداة انتهاء حرب الكويت. فقد ظل صدام يثرثر عن انتصاراته الكبرى في حرب الكويت، بينما كانت تلك الحرب قد حولت بلاده إلى خرائب، تقف فوقها أشباح بشرية تتضور جوعا وتتلظى عطشا، ناهيك عن ألاف القتلى والمفقودين والمعوقين والثكالى واليتامى. كان النصر يعني عند صدام بقاءه حيا على رأس السلطة، رغم أن الجميع يعرف أن من أبقاه حيا هم الأميركيون أنفسهم، بعد أن ساهموا في إخماد التمرد الذي حدث ضده.
وما يحدث الآن في غزة هو تكرار للسيناريو الصدامي عشية وقوع حرب الخليج الثانية. فلا بد أن إسرائيل ستوقف الحرب الدائرة، بشروطها، وبعد أن تحقق الأهداف التي رسمتها، وآنذاك سيظهر قادة حماس فوق ما تبقى من خرائب داخل غزة، و وسط أشلاء الضحايا، ليعلنوا شارة النصر، وليتحدثوا عن النصر الإلهي، وعن (صمود) الناس في غزة، وكأن هولاء الناس كانت قد توفرت أمامهم فرصة واحدة للفرار من هذه المطحنة البشرية ولم يفروا.
وقادة حماس على حق عندما سيزفون بشارة النصر، فالانتصار عندهم يعني بقائهم على قيد الحياة، على رأس سلطة حماس. إما الذين قضوا نحبهم أو تشردوا أو تيتموا أو تحولوا إلى شحاذين، quot;فهل هناك شعب تحرر بدون ضحايا وشهداءquot;، كما قال خالد مشعل في خطابه الأخير. ثم، أن أولاءك الضحايا سقطوا حتى لا تسير حماس quot;في طريق الذل والمفاوضات والاستجداءquot;، على حد تعبير مشعل، أيضا.