لم يشهد العراق نظاما ديمقراطيا، طوال تاريخه الطويل والعريق، وحتى يوم 03 نيسان 2003، لا بالمعنى الغربي الحديث لكلمة الديمقراطية، أي حكم الشعب للشعب، ولا بالمعنى الإسلامي، أي (الشورى).
فمن الصعب القول أن (الشورى) عرفت طريقها للتطبيق في العراق طوال حكم الخلافة الإسلامية. في العصر الأموي كان الحكام يلزمون العراقيين الطاعة، بقوة السيف، ويعاقبون من يعارضهم، على الظن والشبهة. ولا نظن أن الحجاج بن يوسف الثقفي هو الوحيد من بين حكام العراق وقتذاك الذي طبق سياسة البطش عندما قال مخاطبا أهل الكوفة: quot; فأني والله ما أعلم اليوم رجلا على ظهر الأرض هو أجرأ على دم مني، وقد ركبت أمورا كان هابها الناس، فأفرج لي بها.quot; (ابن سعد: الطبقات الكبير 6/66)
إما في العصر العباسي فيكفي أن نقول أن من بين ستة عشر خليفة عباسي تعاقبوا على الحكم، خلال قرن واحد، أربعة منهم فقط ماتوا حتف أنوفهم، والباقون أخرجوا من الحكم إما قتلا أو خلعا. وبدلا عن تطبيق مبدأ الشورى، واحترام قوانين الدولة، فأن السيادة كانت لquot;أرباب السيوف على الدولة.quot;
ونتيجة لهذه السياسة البعيدة عن العدل ظل العراق مسرحا لظهور حركات مناوئة للسلطة الرسمية. تلك الحركات كانت حركات اجتماعية،غايتها تحقيق أهداف اجتماعية، دنيوية، لكنها دائما ما كانت تتخذ الدين ستارا لها، رغم أن الكثير من الحكام ما كانوا يطبقون، لا عدالة السماء ولا عدالة الأرض، إذ فيهم من شغل نفسه بالملذات، حتى أنه لا يكاد يصحو من السكر، مبذرا الأموال العامة، على حساب جوع الملايين من رعيته، ومنهم من ولغ في سفك الدماء إظهارا لحزمه وتأكيدا لجبروته، ومنهم من أوكل أمور البلاد والعباد للأجانب،لقاء مساعدتهم له في إخماد نيران الفتن والاضطرابات. وفي جميع الحالات كانت تلك الثورات والانتفاضات وحركات التمرد والعصيان تتم مجابهتها بقمع شرس من قبل السلطات الحاكمة، أو بعنف أشرس من العنف الذي تمارسه تلك الحركات.
عمليات القمع تلك خلقت، تاريخيا، فريقين: فريق الأقلية الحاكمة، المحتكرة للسلطة، ومعها المؤيدين لها والمنتفعين منها، وفريق الأكثرية المهمشة، الناقمة، المطالبة، دائما وأبدا، بتحقيق العدالة، أي مطالبتها بالمشاركة في الحكم.
ومن الطبيعي أن يفسر كل فريق الأمور من وجهة نظره هو، ووفقا لموقفه من الحكم. فعندما مات المعتصم، قال محمد بن عبد الملك الزيات يرثيه:

قد قلت إذ غيبوه وانصرفوا في خير قبر لخير مدفون

لكن المعارضة السياسية قالت، على لسان دعبل الخزاعي:

قد قلت إذ غيبوه وانصرفوا في شر قبر لشر مدفون (الأغاني ج.20، ص 158)

وهنا، وفيما يخص الأطروحة التي نناقشها،أي فقدان الشورى أو فقدان الديمقراطية، ليس من المهم أن نعرف إن كان الزيات على حق، أو أن دعبل، المناهض الشيعي للسلطة،كان على حق، مثلما ليس مهما أن يكون الحاكم المختلف عليه اسمه المعتصم، أو حاكم آخر. المهم هو،أن العراق ظل يمور، طوال حكم الخلافة الإسلامية، بحركات معارضة لم تقتصر على الشيعة وحدهم، وإنما كانت حركات كثيرة، متنوعة الأسماء، ومتعددة الأسباب والأغراض. وكان العنف هو الوسيلة الأسهل لتعامل الدولة مع تلك الحركات المناهضة لها. ولا نظن أن الأمور تغيرت كثيرا داخل العراق في الحقب التاريخية اللاحقة.

وعندما ظهرت الدولة العراقية الحديثة في عشرينيات القرن الماضي، ظل العنف، أيضا، هو الوسيلة الوحيدة، تقريبا، لحل المشاكل السياسية. وحتى التجربة البرلمانية خلال العهد الملكي، فأنها كانت، في أحسن أحوالها، تدريب أولي على الديمقراطية، إما في أسوأها فلم تكن أكثر من لعبة حكومية وليست شعبية. الحكومة هي التي كانت تختار اللاعبين (النواب)، كما أكد أحدى المرات رئيس الوزراء الأسبق نوري السعيد، تحت قبة البرلمان نفسها، وهو يخاطب النواب: استحلفكم بالله هل بمقدور أحدكم أن يصل إلى البرلمان لو لم ترضى الحكومة عنه؟ وكان السعيد صادقا في قوله. إذا حالما تمت الانتخابات بصورة ديمقراطية صحيحة في منتصف الخمسينيات وأوصل الشعب مرشحين لا ترضى عنهم الحكومة، ألغيت تلك الانتخابات.
ومع انهيار الحكم الملكي انهارت حتى تلك الحياة البرلمانية الشكلية، وحل محلها حكم العسكر، حتى إذا صار الحكم لصدام حسين فأنه أظهر دهاء أشد من جميع الحكام الذين سبقوه، وتعامل مع العراق كquot;قدر تفورquot; وهو quot;طبقهاquot;، وظل يردد أنه لا يبالي حتى إذا قطع رؤوس المئات إن هم تجرءوا وعارضوه.

ما الذي تمخض عن تلك المسيرة التاريخية الدامية التي انتهت بنهاية حكم صدام حسين؟

الذي نتج عنها هما حقيقتان. الأولى غياب الديمقراطية، ثقافة وتقاليد وممارسة، وغياب روح التسامح، وتجذر ثقافة العنف كأسلوب وحيد لحل الخلافات. والحقيقة الثانية هي، تزايد الشعور بالمظلومية، صحا أو خطأ أو مبالغة، لدى فئات واسعة من السكان، خصوصا في بلد يزدحم بشتى الملل والنحل، مثل العراق. والمعروف أن المظلومين، أو الذين يشعرون بالمظلومية يكونون أقرب إلى تبني الديمقراطية، لأنها توفر للجميع فرص متكافئة، وتفتح طريق المشاركة في الحكم أمام الجميع، إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن الديمقراطية تعني الابتعاد عن توريث الحكم، ورفض احتكار السلطة السياسية من قبل فرد واحد أوعائلة واحدة أوسلالة واحدة أوطائفة واحدة أو قومية واحدة، واللجوء إلى صناديق الانتخابات ليحصل كل ذي حق على حقه، بدون زيادة أو نقصان.
وهذا ما يفسر، في ظننا، قبول العراقيين، بطريقة سلسلة نوع ما، و في وقت قصير نسبيا، بالديمقراطية كأسلوب للحكم، بعد 09/ نيسان 2003. ورغم أن هذه التجربة الديمقراطية لم يتجاوز عمرها الآن ست سنوات، إلا أنها لم تتراجع، بل تسجل تقدما يوما بعد آخر. وهذا التقدم بالإمكان ملاحظته من خلال معاينة الوقائع، أو بالأحرى الحقائق التالية:

أولا/ المعروف للجميع أن الديمقراطية في العراق تختلف عن الديمقراطية في البلدان الغربية. الديمقراطية الغربية عرفت طريقها للتطبيق بعد مخاضات عسيرة امتدت لقرون طويلة. والنظام الديمقراطي في الغرب لم يتم تطبيقه بين ليلة وضحاها، إنما سبقته ثقافة ديمقراطية ساهم في صنعها وأشاعها مفكرون غربيون منذ عصر الأنوار، وبلورتها أحداث تاريخية مختلفة. إما في العراق، فأن الديمقراطية ولدت بعملية قيصرية وبأيادي أجنبية أميركية، وهي ولدت يتيمة، دون أباء يعلنون أبوتهم لها، أي بدون مفكرين ديمقراطيين مثل روسو وتوكفيل وهوبس وجيفرسون، وبدون أرث أو تراكمات ديمقراطية، وبالتالي دون ثقافة ديمقراطية. مع ذلك، فأن السنوات الخمس الماضيات شهدت دخول مفردات جديدة إلى القاموس العراقي، هي نتاج التجربة الديمقراطية الوليدة. ففي العهود الماضية كانت المفردات الأكثر شيوعا في الحياة السياسية، وفي الحياة اليومية لعموم الناس هي: انقلاب عسكري، مؤامرة عسكرية، أحكام عرفية، محكمة الثورة، مخابرات، الرئيس الضرورة، الزعيم الأوحد، مجلس قيادة الثورة، الحزب الحاكم... الخ.
إما الآن فقد استحدث مفردات جديدة: انتخابات، استفتاء، برلمان، حصانة برلمانية، نزع الحصانة، منظمات المجتمع المدني، حرية التعبير، حقوق الإنسان، تداول السلطة، تقاسم السلطة، الفصل بين السلطات...الخ. هذه المفردات ستصبح، في حال استمرار الوضع الديمقراطي، أساسا لظهور quot;لغةquot; quot;عراقيةquot; جديدة، وتساهم في إشاعة ثقافة ديمقراطية عامة، لم يعرفها العراقيون في تاريخهم القديم والمعاصر.

ثانيا/ خلال السنوات الخمس الماضيات، وهي فترة قصيرة جدا في حساب الزمن، تمت كتابة الدستور، وأجريت عدة انتخابات، والتحقت فئات عراقية كانت قد قاطعت الانتخابات الأولى، وتأسس البرلمان العراقي الذي ظل يواظب على عقد جلساته حتى في أسوأ الحالات الأمنية التي عرفتها البلاد. ومن يتابع الأجواء السيكولوجية التي تدور فيها الجلسات البرلمانية هذه الأيام، يلاحظ أن حالات التشنج والانفعال والتربص الكيدي المتبادل التي كانت تطبع تصرفات ومناقشات النواب المنتمين لكتل سياسية متباينة، بدأت تختفي تدريجيا، وتحل محلها حال من الاسترخاء والتفهم المتبادل، وإن لم يرقيا حتى الآن إلى المستوى المطلوب.

ثالثا/ المعروف عن الديمقراطية هو مساواتها بين الذكر والأنثى. فالأوراق التي ترمى في صناديق الانتخابات لا تحمل (جنس) من يكتبها ويضعها في الصندوق، ونتيجة التصويت تحسب بعد الأوراق، لا بحساب عدد الذكور والإناث. وهذا يعني أن هذه العملية الديمقراطية ساوت تماما بين الذكر والأنثى. وهذا فهم مغاير تماما للمفاهيم السائدة في المجتمع العراقي بشأن مكانة المرأة، ويمثل انعطافة ثقافية كبرى داخل المجتمع العراقي. فمن الناحية الدينية، لا تتساوى الأنثى مع الذكر. ومن الناحية العشائرية فأن مكانة الأنثى أدنى من مكانة الذكر، والشيء نفسه يتم على صعيد التقاليد والعادات والأعراف الاجتماعية العراقية السائدة. والملاحظ هنا أن الأحزاب العراقية الحاكمة حاليا، وجلها أحزاب إسلامية، لم يعرف عنها، منذ تأسيسها وحتى عام 2003، بأنها كانت تضم في صفوفها نساء قياديات.لكن هذه الأحزاب قبلت، حتى لو فعل بعضها ذلك على مضض، أن تكون في صفوفها نساء يصرحن ويناقشن في الشؤون العامة، داخل البرلمان وخلال مؤتمرات صحافية، ويقمن بجولات خارج العراق لشرح الموقف داخل العراق. بالإضافة لذلك، فأن القوانين الديمقراطية الجديدة أوجبت وجود حصة محددة للنساء داخل البرلمان وفي مجالس المحافظات. وقد تمت هذه العملية وما تزال تجري بدون مقاومة عنيفة وواسعة من قبل المجتمع العراقي، بما في ذلك المراجع الدينية.

رابعا/ كشفت انتخابات المحافظات التي تمت مؤخرا عن وعي ديمقراطي بدأ يتشكل خلال السنوات الخمس الماضيات. فقد امتنع نصف الأشخاص المسجلين على قوائم الانتخابات عن الإدلاء بأصواتهم لأي قائمة من القوائم، لهذا السبب أو ذاك. ومقاطعة هولاء الناخبين إنما تمت بحرية وبمحض خياراتهم الشخصية، دون أملاءات خارجة عن إرادتهم. ولو سألنا هولاء المقاطعين لماذا لم يصوتوا، فالأرجح أن جوابهم سيكون: لقد مارسنا حقنا الديمقراطي. بالإضافة لذلك، فأن الكثير من قادة الأحزاب الكبرى التي فشلت في هذه الانتخابات، أو لم تحصل على ما كانت تتوقعه من أصوات، أقرت علنا، وبروح رياضية، بهزيمتها، وظل بعضهم يردد: هذه هي اللعبة الديمقراطية، نخسر مرة ونفوز مرة أخرى. وأعلن آخرون أن فشلهم سيدفعهم لتحسين أو حتى لتغيير أدائهم وبرامجهم الانتخابية، بينما أعلن قسم ثالث أنهم سيجمدون بعض الأهداف التي يسعون لتحقيقها لأنها لم تجد صدى طيبا لدى الناخبين، بعد أن كانوا قد وضعوها في مقدمة أهدافهم الانتخابية.

خامسا/ المعروف، خصوصا داخل مجتمع شرقي محافظ متدين هرمي ومراتبي، كالمجتمع العراقي، أن رجل الدين أو شيخ العشيرة، لكل منهما منزلة خاصة لدى السكان، وهي منزلة تستند على الطاعة المقدسة دينيا، أو المقدسة عشائريا، من قبل الناس. وهذا يعني، تقليديا أن رجل الدين، أو شيخ العشيرة، تأتيه الطاعة ويأتيه الولاء دون أن يسعى هو إليهما، كتحصيل حاصل. لكن اللعبة الديمقراطية الجديدة غيرت هذه quot;القاعدةquot;، أو نجحت في تغييرها إلى حد ما. فقد رأينا كيف أن رجال دين مرموقين، أو أبناء عشائر معروفين، ظلوا يطوفون البلاد طولا وعرضا، وهم يتوسلون كل من يجدونه أمامهم، حتى لو كان مما يعتبرونه من quot;سفلة القومquot;، لإقناعه أن يصوت لصالحهم، وحتى أرشائه. ورغم كل هذه المحاولات فأن البعض منهم لم ينجح في أقناع الناخبين لصالحه. وهذا أمر يؤشر إلى بداية تقهقر ثقافة القطيع، لصالح التأكيد على أهمية الإنسان كفرد، ذكرا كان أو أنثى، له صوته الانتخابي الذي بإمكانه وحده أن يغير المعادلة بأكملها، وبالتالي له مكانته التي لا يستمدها إلا من كينونته كإنسان، كفرد، وليس كرقم من بين عشرات أو مئات أو ملايين الأرقام.

هل ما قلناه توا يعني أن العراق أصبح بلدا ديمقراطيا، وأن العملية الديمقراطية الوليدة لن تنتكس، أو لن تتراجع، أبد؟ بالتأكيد، لا. وعندما نقول ذلك ونشدد عليه فليس لأننا نضع خط رجعة لأنفسنا، وإنما هذا ما أظهره تاريخ المجتمعات في مهد الديمقراطية، أي في البلدان الأوربية الديمقراطية، عندما انتكست الديمقراطية بعد فوز أحزاب نازية أو فاشية.
أن الديمقراطية في العراق ما تزال مجرد نبتة، والمجتمع العراقي لم يسترد عافيته بعد، على كل الأصعدة. لكن مقارنة بين ما حدث ويحدث في أفغانستان، وبين ما حدث ويحدث في العراق، وهما بلدان متقاربان في كثير من الظروف، يشير إلى أن الديمقراطية في العراق وجدت من يتبناها، أو على الأقل لا يخجل من أبوته لها. وإذا استمرت الرعاية العراقية للنبتة الديمقراطية، خصوصا بدون تدخلات أجنبية، فليس من البعيد أن تتحول إلى شجيرة في غضون سنوات قليلة قادمة.