منذ بداية السنوات الأولى من القرن الماضي، تسيدت المشهد السياسي في العالم العربي مجموعة من العواصم: القاهرة، الجزائر، الرياض، عدن، دمشق وبغداد. و كل عاصمة من هذه العواصم اقترن اسمها إما بالايدولوجيا أو الشعارات السياسية أو المال، أو هذه العناصر مجتمعة.
فبعد نجاح ثورة 1952 المصرية برز أسم جمال عبد الناصر، وتحولت لاحقا مصر الناصرية، أي مصر الأيديولوجية، إلى كعبة يتوجه شطرها الملايين في العالم العربي، وأصبح الاستماع إلى quot;صوت العربquot; يكاد أن يكون واجبا قوميا، وأضحى أحمد سعيد، بصوته الجهوري المعروف، ضيفا على ملايين البيوت.
ومنذ اندلاع الثورة الجزائرية عام 1954، أمست الجزائر قبلة العالم العربي ورمز تمرده ضد الاستعمار. وكانت أخبار جميلة بوحيرد وزميلاتها الصامدات في الزنانزين الفرنسية، تشعل لهيب مخيلة الصغار والكبار في العالم العربي.
وفي بداية الستينيات برز أسم دمشق عندما quot;تبعثنتquot; عام 1963، ثم لحقتها بغداد، بعد وصول البعث إلى السلطة مرة أخرى عام 1968، فشرعت تستقطب، بفضل إمكانياتها المالية الضخمة وخطابها الأيديولوجي الثوري، أعدادا غير قليلة من أهل السياسة والثقافة. وعندما تحولت اليمن الجنوبية إلى الاشتراكية، فأنها أضحت quot;قبلةquot; لليسار العربي.
وإثر هزيمة حزيران برزت إلى العلن المنظمات الفلسطينية، كرد على عجز، وربما قالوا، quot;خيانةquot; الأنظمة العربية الرسمية. ثم راحت تلك التنظيمات تنشطر وتتكاثر، بهوى ثوري لا مثيل له، زاد في اشتعال العواطف الثورية، الملتهبة أصلا.
وفي ظل نظام القطبية الثنائية، واشتداد الصراع بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة، وانقسام العالم العربي إلى يسار ويمين، فان تلك التجارب العربية quot;اليساريةquot; بدت وكأنها من quot;حصةquot; الاتحاد السوفيتي، الذي راح يدعم تلك الحكومات والحركات ويعقد معها علاقات صداقة إستراتيجية. وهنا نهضت الرياض، معتمدة على منزلتها الدينية وإمكانياتها المالية الضخمة، كقوة إقليمية صاعدة لمواجهة النفوذ السوفيتي في المنطقة، وكمركز استقطاب عربي لمواجه المد اليساري العربي. ومنذ البداية بدأت القاهرة الناصرية، من جهة، والرياض من جهة أخرى، تخوضان حربا quot;نظريةquot; كلامية، تحولت لاحقا إلى حرب حقيقية على أرض اليمن، بعد ثورة عبد الله السلال، وإطاحته بالنظام الإمامي الملكي.
ولأن كل واحدة من هذه العواصم كانت تدور داخل فلكها الخاص، وترمي إلى تحقيق أهدافها الخاصة، فأن التدافعات والمشاحنات والصراعات بينها ظلت مستمرة ولم تنقطع، حتى تعب الجميع، ثم تكفلت الأحداث الجسام التي حدثت في المنطقة، بإحداث التجاعيد، فغيرت وجوه الجميع: حدثت هزيمة حزيران، وخفت بريق الثورات، وتراجع البعض عن اندفاعه، وزار البعض إسرائيل، وأفل نجم البعض، وانكفأت عواصم على نفسها، وانطفأ الوهج الأيديولوجي وبهت بريق الشعارات السياسية، وأكلت ثورات أبنائها، واجتاحت جيوش عربية دولا شقيقة، وانشطر ما تبقى من فلسطين إلى شطرين، وحدثت معارك أهلية في بلدان كانت تعتبر رموزا للوحدة الوطنية، وعرفت أسعار النفط تقلبات غير متوقعة، وبرزت تيارات أصولية دينية تتوعد الجميع، وتحول البعض إلى ضحايا لquot;فرانكشتاينquot; الذي خلقوه.
ولبنان؟ أين كان موقعه من تلك الأحداث العاصفة؟
لبنان كان بعيدا وقريبا من تلك البراكين السياسية والنيران المشتعلة. كان بعيدا لأنه لم يساهم في خلقها، لكنه كان دائما وأبدا في عين تلك العواصف العاتية. فقد كانت جميع تلك الصراعات تجد لها امتدادا، وليس صدى فقط، على الساحة اللبنانية. لبنان ظل، رغم مساحته الجغرافية الصغيرة وقلة عدد نفوسه، quot;اسفنجةquot; يمتص كل ذاك العنف القاسي الدموي ويحوله، حالما يصله، إلى مجرد عنف لفظي، يدور ليس بالأسلحة التقليدية، وإنما على صفحات الورق. جميع الجهات التي كانت تتصارع كانت لها في لبنان صحيفة تمثلها، أو قريبة منها، أو تعكس سياستها.
ولأن لبنان منشغل بصنع الحياة، وليس بجزء واحد من الحياة، فأنه ظل يخلق الحياة ويصدر الحياة ويستورد الحياة، وتتلون الحياة فيه بكل الألوان، بينما كانت معظم مجتمعات العالم العربي ترقص على إيقاع واحد، وتتزيى بزي موحد، وتهتف بشعار واحد. لبنان ظل واحة تجتمع تحت ظلالها المتناقضات.
لبنان ظل مكانا آمنا للقادة المخلوعين، وللساسة المطرودين من حكوماتهم، وللساسة المتآمرين على حكوماتهم، وللثوار الحقيقيين، ولأثرياء الحروب الذين لم يجدوا غير المصارف اللبنانية يودعون فيها ثرواتهم، وللورعين الطيبين، وللصوص ومختلسي الأموال، ولطلاب المتعة ومدمني السهرات المخملية، ولرجال المخابرات من كل فج، ولضحاياهم الذين مزق الرصاص أجسادهم في شوارع بيروت. هذه الأصناف والألوان ما كان بالإمكان أن تجتمع quot;كلهاquot; في عاصمة عربية. قد يتواجد صنف منها أو صنفان، ومع ذلك فأن الأمر يتم تحت أشراف ومراقبة أجهزة مباحث تلك الدولة المضيفة. إما أن تجتمع كل تلك الأصناف، فليس هناك عاصمة عربية قادرة على استقبالهم، إلا بيروت.
وعندما تبرعمت الثورة الفلسطينية، فأن جميع منظماتها التي ظهرت إلى الوجود بعد هزيمة حزيران، وجدت لها ملاذا على أرض لبنان. ورغم صغر مساحته إلا أن لبنان استوعب كل تلك المنظمات، ليس ككتل بشرية، بالطبع، وإنما كquot;ثورةquot; قائمة، بكل ما تعنيه الثورة من سلاح، وعنف، وصراعات وتحالفات إقليمية ودولية، واحتكاكات مباشرة ويومية مع السكان، وبكل ما يحمله وجودها من استفزاز لإسرائيل، يخلق خطرا إسرائيليا يوشك أن يقع في كل لحظة. ولم يضق لبنان ذرعا بضيوفه إلا بعد أن أختل التوازن داخله، أو كاد، فنشبت الحرب الأهلية.
ولو أن أي بلد عربي خاض تجربة الحرب الأهلية كما عاشها لبنان، وجرب محنة الاجتياح الإسرائيلي كما جربها لبنان، لما ظل على حاله، ولتمزق إلى شظايا.
لكن بيروت ظلت أم الدنيا، وظل بحرها لا يقذف المرجان واللؤلؤ فحسب، وإنما القواقع الفارغة، أيضا. وهذه هي الحضارة بعينها، فالحضارة هي الحياة بكل وجوهها، وليس بوجه واحد مختار منها. فمثلما كانت مقاهي ومصايف ومنتديات لبنان تزخر بالصالح والطالح من البشر الوافدين إليها، فأن مطابعها ظلت تضخ لأسواق العالم العربي، الغث والسمين. من كان لديه كتابا يخشى أن تمنعه رقابة بلده، يذهب به إلى بيروت، ومن كانت لديه أفكار غريبة يريد لها أن تروج، يذهب بها إلى بيروت، ومن يريد متابعة أخر ما استجد في عالم الأفكار، والموضة، وآخر الصرعات في العالم، يتابع ما يظهر في بيروت. ومن يريد أن يروج لديانة أو مذهب، أو معتقد، أو نظرية، يقصد بيروت. في كل عواصم العالم العربي كان (الرقيب) هو السيد المطاع، إلا في بيروت.
وحتى عندما يضيق لبنان، أحيانا، بأبنائه، فأنه quot;يصدرهمquot; إلى الخارج، لا كأيدي عاملة تبحث عن الرزق، وإنما بناة مشاريع ثقافية وتجارية. ما من منبر إعلامي عربي يتشكل إلا وتجد فيه لبنانيا، ودائما في صدر القيادة، يمينا ويسارا ووسطا. هل وجدتم بلدا يقترن أسمه بأدب المهجر، غير لبنان؟
هل قلنا، أو أوحينا القول إن اللبنانيين مجموعة من الملائكة؟ أبدا. وهل قلنا أن بيروت قطعة من الجنة السماوية؟ لا، بيروت حاضرة من حواضر العالم العربي. والتعددية الديموغرافية في لبنان نجد لها مثيلا في كثير من بلدان العالم العربي. في العراق، مثلا، نجد تنوعا ديموغرافيا يضاهي، ربما التنوع اللبناني، لكن التنوع العراقي لم يجد له ازدهارا، كما في لبنان، ولم يجد أمامه أجواء تسامحيه كما في لبنان. تاريخيا، في العراق وغيره من العالم العربي، يتم سقي شجرة واحدة، ويطلب من الجميع أن يستظلوا بظلها. إما في لبنان، فأن الماء يسقي حتى الشجيرات.
فرادة لبنان، هكذا يخيل الأمر لنا،لا تكمن في طبيعته الجغرافية فقط، ولا في تاريخه فحسب، بل ولا في تعدديته السكانية، ولا حتى في إقرار اللبنانيين بهذه التعددية، وإنما في قبولها (المتوازن) و(المتسامح)، كقدر لا مفر منه، ومصير لا بد من قبوله، وحقيقة لا بد من التسليم بها والخضوع لشروطها. و مثلما يولد الموت من التعصب، فأن التسامح يلد الحياة.
ولهذا، عندما يتعرض هذا التوازن للاختلال، ينكسر لبنان، ويقترب من الموت.
ولأن لبنان ضرورة لا بد منها للعالم العربي، فأن هذا العالم يضع يده على قلبه عندما يتعرض لبنان للانكسار، فيسعى، حالما يتيقن أن السفينة اللبنانية على وشك الغرق، إلى مد خشبة الإنقاذ. هذا ما فعلته مصر إثناء الاقتتال اللبناني الفلسطيني في بداية السبعينيات، وما فعلته المملكة العربية السعودية في مؤتمر الطائف، وهذا ما فعلته دولة قطر، أخيرا.
نعم، لبنان ضرورة للعالم العربي، بمعنى أن العالم العربي كله ليس لبنان، ولكن لبنان هو كل العالم العربي. وهنا تكمن ضرورته. وإلا، إذا لم يكن لبنان ضرورة، فلماذا يخشى الجميع غرق السفينة اللبنانية، وكلنا نعرف أن لبنان (لا عنده خيل يهديها ولا مال)؟